شماعة الخراب الموروث وتغييب الكفاءات

  • 2025/10/26
  • 3:51 م
غزوان قرنفل

غزوان قرنفل

enab_get_authors_shortcode

غزوان قرنفل

منذ أن تسلمت الحكومة السورية الجديدة السلطة عقب سقوط النظام السابق، لم تتوقف ماكينة التبريرات عن الدوران لتفسير مظاهر الفشل والانهيار في أداء الدولة، سواء على المستوى الاقتصادي أو الإداري أو الخدمي، والعنوان العريض الذي ترفعه هذه الحكومة وتتبناه جموع من أنصارها ومطبّليها في كل مناسبة هو: “لقد ورثنا بلدًا مدمرًا ومؤسسات منهارة”. وبقدر ما يبدو هذا الادعاء مشحونًا بالعاطفة وجاهزًا للاستهلاك الشعبي، فإنه في العمق يمثل تغطية مقصودة على جوهر الأزمة، بل وتبريرًا لسلسلة من القرارات والسياسات التي عمقت من تدهور الأوضاع بدلًا من إصلاحها.

لا خلاف على أن البلاد خرجت من سنوات طويلة من الحرب والدمار، وأن إرث النظام السابق مثقل بالخراب والفساد وتغوّل الأجهزة الأمنية، لكن هل هذا وحده يبرر عجز الحكومة الجديدة عن تحسين الأداء أو حتى الحفاظ على الحد الأدنى من كفاءة الإدارة؟ وهل يفسر وحده حالة الارتجال، وغياب الرؤية، والانغلاق السياسي، ورفض الانفتاح على الطاقات الوطنية؟

الحقيقة التي يتجاهلها الخطاب الرسمي الجديد، عمدًا أو غفلة، هي أن مؤسسات الدولة السورية بالرغم من كل ما تعرضت له ظلت تعمل حتى اللحظات الأخيرة من عمر النظام السابق. الوزارات كانت قائمة، والإدارات كانت تُدار، والكوادر الفنية والمهنية في الدولة لم تتوقف عن عملها، المعلمون والأطباء والمهندسون، وموظفو البلديات، وجميع العاملين في مرافق الدولة، بقوا على رأس عملهم حتى اللحظات الأخيرة من عمر النظام البائد، وهذا يعني أن الحديث عن “دولة منهارة بالكامل” هو مبالغة، إن لم يكن تضليلًا صريحًا.

لكن المشكلة الحقيقية لم تكن في حجم الخراب المادي أو في تركة النظام فقط، بل في طبيعة تعاطي السلطة الجديدة مع هذه التركة، وفي نهجها الحاكم الذي اختارته، منذ اليوم الأول، أن تحتكر القرار وتقصي كل من لا يدور في فلكها، ويتعاطى مع البلاد بعقلية الغلبة والانتصار، لا بعقلية البناء والشراكة الوطنية.

لقد شهد السوريون عن كثب كيف تم تهميش العقول والكفاءات الوطنية، وكيف لم يُدعَ أي من أصحاب الخبرات الإدارية أو الاقتصادية أو الدستورية، من الذين يمتلكون سجلًا نظيفًا وكفاءة مثبتة للمساهمة في إدارة المرحلة، بل إن بعضهم حورب أو أُقصي فقط لأنه لا ينتمي أيديولوجيًا إلى الفريق الحاكم، أو لأنه عبّر عن رأي مستقل، أو طرح رؤية بديلة، وهكذا تم إفراغ مؤسسات الدولة من مضمونها حتى أصبحت مجرد هياكل بلا روح ولا مهمة ووظيفة واضحة، يديرها الولاء لا الكفاءة، والانتماء العقيدي لا المهنية.

والمؤسف أن هذا السلوك لا يمكن تفسيره سوى بأنه يعكس خوفًا من التعدد، ورفضًا لأي مشاركة فعلية، وقلقًا من أي صوت قد يعارض أو ينتقد أو يقترح، فكيف يمكن لدولة أن تتعافى أو لمؤسسات أن تُبنى بينما تُقصى فيها الكفاءات ويُستبدل بها الموالون والمحازبون؟ وكيف لحكومة أن تطلب من الناس الصبر والتفهم، بينما تصرّ على إدارة البلاد بمنطق التفرد واحتكار ما تعتقد أنه الحقيقة؟

إن البناء الوطني الحقيقي لا يبدأ من تكرار الحديث عن الخراب الموروث، بل من الاعتراف بمسؤولية كل طرف عن حاضره، ومن فتح المجال أمام مختلف الأطياف للمشاركة في صنع القرار، والاستفادة من كل الطاقات التي تمتلكها البلاد في الداخل والخارج.

سوريا لم تكن عقيمة يومًا، بل زاخرة بالكفاءات في كل مجال، بدلالة أن الكثير من السوريين حققوا اختراقات ونجاحات مهمة ومميزة عندما توفرت لهم فضاءات الحرية والكرامة الإنسانية، لكن غياب الإرادة السياسية الحقيقية للاستفادة منها هو الذي يحكم المشهد اليوم.

لا يمكن للبلاد أن تنهض في ظل هذا الإقصاء والتهميش وتأميم العمل السياسي والتشاوف على المجتمع، فالمعادلة بسيطة وتتوضح كل يوم، وهي أن لا تنمية بلا مشاركة، ولا إصلاح بلا شفافية، ولا بناء بلا كفاءة، وهذا كله مع الأسف غير موجود حتى الآن، فإذا كانت السلطة الجديدة جادة فعلًا في مشروعها، كما تزعم، فعليها أن تبدأ بمراجعة رؤيتها ونظريتها في الحكم والإدارة ومراجعة قراراتها وسياساتها، وسعيها الدؤوب لإخضاع المجتمع قبل أن تواصل إلقاء اللوم على الماضي.

إن الاستمرار في تعليق الفشل على شماعة “الخراب الموروث” لن يقنع أحدًا بعد اليوم، لأن الناس باتوا يرون بوضوح أن حجم الفشل كبير بما يتجاوز إمكانية تفسيره فقط بوطأة الإرث، بل بمن يديرون المشهد اليوم وبمن يصرون على تولية “الشيخ” بدلًا من صاحب الكفاءة والاختصاص، وعلى التفرد والإقصاء وتهميش الآخر المغاير، ويكررون مع الأسف نفس السلوكيات والسياسات التي يفترض أنهم ثاروا عليها.

مقالات متعلقة

  1. حل "البعث" وعزل قياداته ضرورة تأسيسية لسوريا جديدة
  2. لبنان أمام استحقاقات الجمهورية الثالثة
  3. سوريا الجديدة لا تُبنى بأوهام السلطة القديمة
  4. رفع أسعار مواد البناء وروتين المعاملات يعرقلان الترميم

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي