أحمد عسيلي
رغم مرور أكثر من عشرة أشهر على تحرر سوريا وبداية مرحلة جديدة بكل محاسنها ومساوئها، ما زال بعض السوريين، بل وحتى بعض العرب، عاجزين عن استيعاب اللحظة الراهنة، فنراهم على مواقع التواصل الاجتماعي أو في الحياة اليومية، يروجون لأفكار عن عودة محتملة للنظام، سواء عبر بشار الأسد نفسه أو عبر أحد رجالاته السابقين، مستندين إلى “توافقات دولية” أو “تحولات إقليمية”.
فكيف يمكن فهم هذه الظاهرة من وجهة نظر نفسية؟
ما نشهده هو أحد أشكال الذهان الخفيف أو ما يطلق عليه “ذهان الحياة اليومية”، الناتج عما يسميه التحليل النفسي اللاكاني “غياب اسم الأب”، أي غياب المرجعية الرمزية التي تنظم الواقع وتمنحه اتساقًا، لفهم ذلك، يمكن تبسيط الفكرة على النحو التالي: كل اضطراب نفسي هو في جوهره تطرف لحالة إنسانية طبيعية، فالاكتئاب، مثلًا، ليس سوى الوجه الأقصى للحزن والإرهاق والشعور بالدونية، عندما تتجاوز هذه المشاعر درجتها الطبيعية، ننتقل إلى الاكتئاب، الذي يمتد بدوره على طيف واسع من الخفيف إلى الشديد، وصولًا إلى “الميلانخوليا”، حيث ينفصم الرابط مع الواقع وقد يعتقد الإنسان أنه ميت أو أنه جثة، وهي حالة اكتئاب ذهاني تذكرنا برواية “المسخ” لكافكا. كذلك الحال مع الهوس، فهو ليس سوى تضخيم لمشاعر الفرح والانشراح، بدرجات قد تبدأ بسيطة ولا تؤثر على سير الحياة، لكنها قد تصل إلى انفصال كامل عن الواقع.
بنفس المنطق، الذهان نفسه ليس حالة واحدة جامدة، بل طيف متدرج قد يظهر في شكل تفكك جزئي: انهيار رابط واحد مع الواقع بينما تبقى بقية الروابط سليمة، وقد يتطور إلى تفكك أشمل حيث يعيش الفرد في عالم بديل بالكامل. وما نراه اليوم عند بعض السوريين هو شكل من الانقطاع الجزئي عن الواقع السياسي، لمصلحة أوهام عودة النظام أو انتظار تدخل دولي يعيد تركيب المشهد كما يرغبون، وفي بالنهاية الإنسان “السوي” تمامًا لا يوجد إلا كفرضية مثالية، فالواقع أن كل فرد يعيش درجات متفاوتة من التذبذب بين التوازن والاضطراب، بين الحزن والفرح، بين الانخراط بالواقع والابتعاد عنه، ومن هنا، فإن ما نشهده ليس “حالة مرضية معزولة”، بل وجه متطرف لميل موجود أصلًا في التجربة الإنسانية.
لقد كشفت الحالة السورية بعد سقوط الأسد عن موجة انفعالية جماعية لدى كلا الطرفين، فبعض السوريين عاشوا حالة من “يوفوريا” الانتصار، أي انفعال مفرط جعلهم يتوقعون حلولًا سحرية وتغيّرات سريعة، وفي المقابل، لجأ آخرون، وخصوصًا من أنصار النظام السابق، إلى بناء عالم بديل قوامه أوهام عودة “الأب الغائب”، ولم تتوقف هذه الأوهام عند حدود الناس العاديين، بل امتدت إلى صحفيين ومحللين سياسيين معروفين تحدثوا عن “توافقات دولية” و”تحولات إقليمية” كأنها إشارات حتمية لعودة النظام.
غرابة هذه الطروحات لا تنبع فقط من مضمونها، بل أيضًا من طريقة قراءتها للأحداث. أي تصريح أو لقاء عابر يتحول إلى “برهان” على عودة “الأب الغائب”، هنا يتجلى الذهان الجماعي في أوضح صوره: الواقع يُقرأ لا كما هو، بل كما يُراد له أن يكون.
بهذا المعنى، يمكن القول إن سوريا ما زالت أسيرة غياب المرجعية الرمزية المشتركة، فالنظام السابق عطّل لعقود فكرة “اسم الأب” السياسي: الدولة والقانون والمؤسسات، ومع انهياره لم يجد المجتمع بديلًا مستقرًا، ما فتح الباب أمام انفجارات انفعالية وأوهام جماعية، تمامًا كما يفتح غياب “اسم الأب” في الذهان الفردي الطريق لعودة الواقعي في صورة هلاوس أو أوهام.
المسألة إذًا ليست “سذاجة” أو “قلة وعي”، بل محاولة ذهانية جماعية لإعادة بناء عالم متماسك وسط الانهيار، غير أن الوهم هنا ليس حلًا دائمًا، بل وظيفة دفاعية مؤقتة، والخطر أنه يحمل إمكانية الانفجار في أي وقت، لأن الواقع المرفوض لا يختفي، بل يعود فجأة وبعنف (لأنه الواقع بكل بساطة)، وكما يذكرنا لاكان: ما لم يُدمج في النظام الرمزي سيعود عبر الواقعي، في صورة أزمة جديدة أو صراع دموي.
الحل هنا لا يكمن في السخرية من هذه الأوهام أو شيطنتها، بل في إعادة إدخال الواقع إلى الخطاب الجماعي، وذلك عبر الاعتراف بالوقائع كما هي: تعددية المجتمع، انهيار البنى القديمة، واستحالة عودة الماضي، ثم عبر تشجيع الحوار بين المجموعات المختلفة لبناء لغة مشتركة تحوّل التجربة السورية من صدمة إلى واقع قابل للعيش، وأيضًا عبر تقليل حدة الواقع بخطوات عملية، لا وعود كبرى أو أوهام سحرية، وأخيرًا عبر بناء مرجعية رمزية جديدة: دستور، عقد اجتماعي، أو منظومة قيم متفق عليها.
إن تجاوز الذهان الجماعي لا يكون بالقوة (شاء من شاء وأبى من أبى) ولا بالإنكار (“عودة بشار” أو أحد رموز نظامه)، بل عبر الاعتراف والحوار والربط التدريجي بالواقع، عندها فقط يمكن للمجتمع السوري أن يخرج من أسر الأوهام، ويبدأ فعلًا كتابة تاريخه الجديد.
