بعد قرار "الإدارة الذاتية" فرض مناهجها

إغلاق مدارس الكنائس بالجزيرة يثير مخاوف “ضياع الهوية”

أبناء رعية كنيسة مار أفرام السرياني في القامشلي - 23 آب 2025 (كنيسة مار أفرام/فيسبوك)

camera iconأبناء رعية كنيسة مار أفرام السرياني في القامشلي - 23 آب 2025 (كنيسة مار أفرام/فيسبوك)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – كريستينا الشماس

يخيم على مدن الجزيرة السورية، التي لطالما شكلت نموذجًا للتنوع الديني والثقافي، شعور بالقلق والترقب عند المكونات المسيحية في المنطقة، بعد قرار “الإدارة الذاتية” إغلاق المدارس الخاصة التابعة للكنائس وفرض مناهجها التعليمية بدلًا من المنهاج الحكومي السوري.

ولا يزال مصير المدارس التي كانت تفتح كل صباح لاستقبال الأطفال معلّقًا حتى الآن، بعد فشل المفاوضات بين الكنائس و”الإدارة الذاتية”، ما اعتبره الأهالي الذين تحدثوا لعنب بلدي، مساسًا بجوهر الوجود المسيحي في المنطقة، وتهديدًا للغة السريانية التي تعد أحد أبرز رموز الهوية الثقافية للمسيحيين في الجزيرة.

شملت قرارات الإغلاق عددًا من المدارس والكليات الخاصة، منها مدرسة مار قرياقس (السريان الأرثوذكس)، مدرسة السلام (الأرمن الكاثوليك)، مدرسة ميسلون (البروتستانت)، مدرسة فارس الخوري (الآشوريون)، مدرسة الاتحاد (الأرمن الأرثوذكس)، مدرسة الأمل بالحسكة التابعة للكنيسة السريانية الأرثوذكسية.

تهديد للهوية واللغة السريانية

لم يستغرب “بيتر” (اسم مستعار لأسباب أمنية)، أحد سكان منطقة القامشلي، قرار إغلاق المدارس التابعة للكنائس، واصفًا إياه بـ”المهزلة” التي تتكرر سنويًا، والتي تنتهي بعد “مد وجذر”، وتدخل العقلاء بإعادة فتح المدارس واستئناف العام الدراسي.

وقال “بيتر”، إن هذا الموضوع امتد في العام الحالي إلى أبعد من ذلك، وشعر أهالي المنطقة بالخطر الحقيقي الذي يهدد أبناءهم، لأن الاتفاق المزمع عقده بين “الإدارة الذاتية” والمدارس الخاصة بالكنائس لم يحدث أصلًا بعد تمسك الطرفين بمواقفهما.

وترك ذلك انطباعًا سلبيًا عند الأهالي والطلاب أيضًا، لأن التعليم في المدارس الخاصة لطالما كان مرتبطًا بالوجود المسيحي في المنطقة، وملاصقًا للكنائس تحديدًا، فالمدارس الخاصة أغلبها موجودة في بهو الكنائس، بحسب “بيتر”.

وأشار إلى أن هذه المدارس لم تكن يومًا حكرًا على الديانة المسيحية، فتعليم اللغة السريانية في المدارس الخاصة ظل إرثًا حقيقيًا لمحافظته على لغة السيد المسيح، عبر تعليمها ضمن المنهاج الحكومي المعتمد من وزارة التربية السورية.

وأضاف أن إغلاق المدارس هذا العام وجده الكثير من الأهالي تهديدًا حقيقيًا لهذه اللغة، وتهديدًا للهوية الثقافية، نظرًا إلى تجذر هذه اللغة والثقافة وأصالتها ضمن النسيج السوري، بعد أن كانت فخرًا للتنوع الموجود في البلاد.

مالك أسمر، إداري بمؤسسة “أولف تاو” لتعليم اللغة السريانية، قال لعنب بلدي، إن “الإدارة الذاتية” لم تغلق المدارس الخاصة التابعة للكنائس، بل هناك خلاف إداري وقانوني حول اعتماد المناهج، وضرورة توحيدها ضمن النظام التعليمي العام في المنطقة.

وقدّر أسمر الدور التاريخي للمدارس الكنسية، التي تعتبر جزءًا من التراث التربوي، مضيفًا أنه في الوقت نفسه من مسؤوليتهم أن يكون التعليم منظمًا وموحدًا من ناحية المناهج والمعايير، حتى تعترف بشهادات أبناء المنطقة مستقبلًا.

وأكد أسمر أنه يتم العمل مع جميع الجهات الكنسية، لإيجاد آلية اعتماد مشتركة تضمن استمرار التعليم وتحترم الخصوصية الدينية، دون أن يتعرض الطلبة لأي انقطاع دراسي.

“لا يمكن لأحد أن يُنكر أن المدارس الكنسية لعبت دورًا كبيرًا في الحفاظ على اللغة السريانية والهوية الثقافية التي نعتز بها”، قال أسمر.

وأشار إلى أن “الإدارة الذاتية” تدعم تعليم اللغة السريانية رسميًا، بل هي أول جهة حكومية في تاريخ سوريا تُدرس اللغة السريانية ضمن المناهج العامة.

الإداري بمؤسسة “أولف تاو” لتعليم اللغة السريانية، أوضح أن القضية ليست “إغلاق مدارس”، بل تنظيم العلاقة بين التعليم الديني والوطني.

وشدد على ضرورة أن تبقى اللغة السريانية حاضرة في جميع المدارس، لا فقط في المدارس التابعة للكنيسة، لتكون هوية المجتمع السرياني جزءًا من هوية المنطقة كلها، لا معزولة عنها.

 

شعور الحرمان والفقدان لم يكن بالأمر السهل، وكأنك تجرد مكونًا أصيلًا ولغة مقدسة من جسدها وتاريخها وبيئتها التي صدّرتها للعالم بأسره، بعد أن خرّجت منطقة الجزيرة السورية كبار رجال الدين المسيحي، وعلى رأسهم بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق، الرئيس الأعلى للكنيسة الأرثوذكسية في العالم، مار أغناطيوس أفرام الثاني كريم ابن مدينة القامشلي.

“بيتر”

من أبناء مدينة القامشلي

أبناء رعية كنيسة مار أفرام السرياني في القامشلي - 23 آب 2025 (كنيسة مار أفرام/فيسبوك)

أبناء رعية كنيسة مار أفرام السرياني في القامشلي – 23 آب 2025 (كنيسة مار أفرام/فيسبوك)

منهاج “مرفوض”

يرى “بيتر” أن مناهج “الإدارة الذاتية” المفروضة بالقوة، تفتقر للكثير من الدقة والموضوعية، ولا تراعي التسلسل العمري للطلاب، ولا ترتكز على أسس علمية، فضلًا عن أنها لم تأخذ أي اعتراف رسمي أو دولي بها، لهذا تعتبر مناهج مرفوضة “جملة وتفصيلًا”، ولا تعبر عن التنوع السوري الأصيل، إنما تهدف لتفكيك النسيج السوري المبني على المحبة والعيش المشترك عبر سنوات طويلة.

ولم ترسل “مريم” (اسم مستعار لأسباب أمنية)، من سكان الحسكة، أبناءها للمدارس هذا العام، لأن المنهاج الحكومي لم يطبق في مدارس المنطقة.

وتساءلت “مريم” لماذا لا تتدخل المنظمات الدولية المعنية بهذا الخصوص، “أليس من حق أولادنا التعليم؟”.

وتابعت مريم حديثها لعنب بلدي، “عن أي تعليم يتحدثون وهم يفرضون علينا منهاجًا وكتبًا لا نعرف من صاغها، ولا نعرف ما مصير الشهادة التي سيحصل عليها أبناؤنا بعد إتمام العام الدراسي”.

وقالت إنه في حال كانت “الإدارة الذاتية” تريد إفراغ المنطقة من المكون المسيحي وتهجيرهم، فليقولوا ذلك “جهارًا” دون هذه الأساليب التي “أتعبتنا وأفقدتنا أعصابنا من الانتظار الطويل”، بحسب تعبيرها.

واعتبرت “مريم” أن الديانة المسيحية مرتبطة باللغة السريانية في الجزيرة السورية، وعندما يغلقون مدارس الكنائس، يعني ذلك قمع نشر ثقافتهم ولغتهم وهويتهم السريانية، مؤكدة أن هذا الأمر مرفوض، مطالبة الكنيسة بالتدخل الفوري وحسم هذه المشكلة.

مالك أسمر، الإداري بمؤسسة “أولف تاو” لتعليم اللغة السريانية، قال إنه ليس هناك فرض للمناهج، “بل نُطورها عبر لجان مختصة تضم ممثلين من كل المكونات: سريان، عرب، كرد، أرمن”.

والهدف من هذه المناهج هو بناء تعليم يعكس تنوع المنطقة الحقيقي ويحترم جميع الديانات والثقافات، وأن يكون هناك مناهج تمثل كل مكون بلغته الأم، وهذا حق تكفله الأمم المتحدة، بحسب أسمر.

 

أي تجربة جديدة تحتاج إلى تطوير مستمر، ونحن نرحب بكل ملاحظة بنّاءة من الكنائس أو الأهالي، ونحرص على فكرة التعليم الوطني المشترك، وبذلك نريد أن تطّلع وزارة التربية على المناهج وتقرّ بها. نريد تعليمًا يعبّر عن الجميع، ويشترك الجميع في صناعته.

مالك أسمر

إداري بمؤسسة “أولف تاو” لتعليم اللغة السريانية

 

حصن الهوية والتاريخ

ميران خليل، معلمة في إحدى كنائس القامشلي، قالت في حديث  سابق لعنب بلدي، إن للمدارس دورًا محوريًا لأنها حصن للهوية الدينية والثقافية للمجتمع المسيحي بأكمله، وإضافة كتب التربية المسيحية كانت جزءًا أساسيًا من المنهاج، لأنها تعمل على غرس القيم الروحية والإنسانية المستمدة من الإيمان المسيحي في نفوس الطلبة.

وتابعت أن هذه المدارس مثلت المساحة الآمنة لممارسة الطقوس الدينية، من قداسات وأعياد وصلوات صباحية، ما عزز ارتباط الجيل الجديد بإيمانه ولغته والحفاظ على اللغة الأم في المدارس الأرمنية على وجه الخصوص، لأنها تعتبر الحصن الأخير للغة الأرمنية وتاريخها وطقوسها الدينية في مدينة القامشلي حيث يعيش الأرمن كأقلية، وغياب هذه المؤسسات يعني فقدانًا تدريجيًا للغة الأم.

احتجاج وإدانات

أصدرت عدت جهات مسيحية في محافظة الحسكة بيانات احتجاج على قرار “الإدارة الذاتية” بإغلاق المدارس المسيحية التي تدرس المنهاج الحكومي.

وناشد راعي أبرشية الجزيرة لكنيسة الاتحاد المسيحي، القس نعيم يوسف، في بيان له قائد “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، مظلوم عبدي، أن يتدخل لإلغاء قرار فرض مناهج “الإدارة الذاتية” على المدارس حتى يتم الحصول على الاعتماد الرسمي، لأن له تبعات ونتائج قاسية على مستقبل عشرات الآلاف من الطلاب، وحتى الآن هم خارج المدارس مما يعني مستقبلًا مجهولًا.

واستنكر “الحزب الآشوري الديمقراطي” القرار، معتبرًا أنه يمس بشكل مباشر حق أبنائهم في التعليم المعترف به رسميًا، ويعرّض مستقبل الطلبة الآشوريين وسائر المكونات لحالة من “الضبابية والارتباك”، نتيجة فرض مناهج لا تتيح لهم متابعة تحصيلهم العلمي في الجامعات داخل سوريا أو خارجها.

ويرى “الحزب” أن هذه الإجراءات تشكل تعديًا على حقوق المكونات الأصلية في الجزيرة السورية، وتهديدًا للتنوع القومي والثقافي في المنطقة، وتضع مستقبل التعليم والأجيال القادمة أمام مجهول خطير لا يمكن القبول به.

وبناء على ذلك، طالب “الحزب الآشوري الديمقراطي”، بما يلي:

وقف العمل الفوري بقرارات الإغلاق وفرض المناهج غير المعترف بها، والاستمرار بالمناهج المعترف بها لحين إيجاد منهاج موحد على مستوى الوطن، ولا سيما بعد التقارب بين “الإدارة الذاتية” في شمال شرقي سوريا وحكومة دمشق المؤقتة، وما قد ينبثق من هذا التقارب.
إعادة فتح المدارس الخاصة التابعة للكنائس، وتمكينها من أداء رسالتها التعليمية والتربوية تحت إشرافها.
احترام حق المكونات في تقرير سياستها التعليمية والثقافية، بما يتوافق مع حقوق الإنسان والمواثيق الدولية.
ضمان استمرار المدارس في أداء رسالتها التربوية بعيدًا عن الضغوط السياسية.



مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة