قضية اختفاء النساء في سوريا.. أين الخطأ؟

  • 2025/11/02
  • 6:19 م
أحمد العسيلي
enab_get_authors_shortcode

أحمد عسيلي

عادت إلى الواجهة خلال الأيام الماضية قضية اختفاء النساء في سوريا، فقد ظهرت حقائق جديدة حول المخطوفة نغم عيسى، التي أثارت ضجة إعلامية واسعة في شباط الماضي بعد اتهام الأمن السوري بقتلها، ليتبيّن لاحقًا أنها حيّة وتعيش في لبنان، تزامنت مع انطلاق حملة إلكترونية نظمها عدد من المثقفين والناشطين السوريين للضغط على السلطة من أجل إحراز تقدم في إنهاء هذا الملف، وكالعادة، استغل بعض السوريين قضية نغم لنفي الملف برمّته، بينما أصر آخرون على تأكيد روايتهم الخاصة دون أي مراجعة نقدية أو محاولة لتغيير أسلوب التعاطي مع القضية.

ونتيجة غياب جهة سورية محلية حيادية وموثوقة من جميع الأطراف، يصبح من الضروري العودة إلى تقارير المنظمات الدولية الأكثر مصداقية، أو على الأقل الأكثر قبولًا لدى مختلف فرقاء المجتمع السوري، لتكوين فكرة موضوعية عن حجم الملف، فقد ذكرت منظمة العفو الدولية أن نحو 36 سيدة اختفين على يد مجهولين خلال العام الحالي، عاد منهن 14 إلى عائلاتهن، فيما أشارت وكالة “رويترز” إلى 33 حالة مشابهة عاد نصفهن تقريبًا، أي أن ما يقارب 24 امرأة ما زلن مفقودات حتى الآن، معظمهن من الطائفة العلوية، ورغم أن هوية الخاطف لم تُعرف بدقة، فإن الثابت هو وجود ظاهرة حقيقية تستحق المتابعة والاهتمام.

لكن لماذا هذا التفاوت الكبير في التعاطي مع القضية؟

في علم النفس الاجتماعي، نعلم أن الإنسان يتفاعل عاطفيًا مع قصة فردية حيّة أكثر من تجاوبه مع الأرقام الجافة، حتى لو كانت ضخمة، فحكاية واحدة عن فتاة مختفية، مصحوبة بتفاصيل وصور وأسماء، تحرك المشاعر أكثر بكثير من رقم صامت كـ40 أو 50 مختفية، غير أن المأزق في الحالة السورية أن بعض القصص التي شغلت الرأي العام تبيّن لاحقًا أنها مختلطة بالخيال والمبالغة، كما في قضيتي “ميرا” و”أحمد”. فحالات الاختفاء حقيقية، لكن الإصرار على نسج روايات غرائبية حولها هو ما أضعف مصداقيتها، كذلك، فإن الاستعجال باتهام الأمن السوري في قضية نغم، وما رافقه من تسييس امتد إلى بعض الفضائيات العربية، جعل الملف يفقد حياده، فقضية واحدة مشكوك بها تكفي لتقويض الثقة بعشرات القضايا الأخرى، حتى الموثّقة منها، فالدفاع عن الضحايا لا يعني فرض رواية واحدة، بل الحفاظ على مساحة الشكّ المشروع والاعتراف بجهلنا بالمصير إلى أن يظهر دليل، وعدم قدرة من يتبنى هذه القضايا على الحفاظ على مساحة الشك تلك، أضعف فعلًا مصداقية القضية، فلو أن قضية “ميرا” قُرئت بوصفها مطلبًا مشروعًا للشارع في معرفة الحقيقة، لكانت تحوّلت إلى مثال إيجابي على دور الناس في مساءلة السلطة والمطالبة بالشفافية، ولَسُجّلت كنصر لصوت الجمهور باعتباره حقًا في الفهم والوصول إلى تفاصيل قضية معقدة، لكن ما جرى كان العكس: الاستعجال في تبنّي رواية واحدة، والهجوم على كل من طرح قراءة مختلفة، ما جعل القضية تبدو كخسارة معنوية بدل أن تكون مكسبًا أخلاقيًا.

المشكلة الثانية هي نزعة كثير من السوريين، ومن مختلف الأطراف، للحديث عن قضاياهم الخاصة وكأنها الوحيدة الجديرة بالاهتمام، وكأن البلد لا يتّسع إلا لجرح واحد. من الطبيعي أن ترتبط فئات معينة بقضايا أقرب إليها، لكن المأزق يظهر حين يتحول هذا الارتباط إلى حصرية تُقصي القضايا الأخرى. إن الاهتمام بملف معيّن لا يعني إلغاء أهمية الملفات الأخرى، بل يذكّر بأن المأساة السورية مركّبة، وأن أي عدالة مستقبلية لا يمكن أن تختزلها سردية واحدة أو جرح واحد.

وهنا تتجلّى معضلة أخرى في التفكير السوري الراهن، فعندما تُذكر قضية المختفيات الحاليّات، يُسارَع مباشرة إلى استدعاء ملف المختفيات في عهد الأسد، وكأن النقاش لا يمكن أن يُفتح إلا بالمقارنة. الاهتمام بقضية راهنة لا يعني نسيان ما قبلها، بل يعكس سخونة اللحظة وقدرة الناس على التفاعل مع ما هو حاضر أكثر، لكن هذا الميل للمفاضلة بين الجراح يحوّل كل نقاش آني إلى اتهام ضمني بالتقصير في قضايا أخرى، بدل أن يُفهَم كجزء من تراكم الذاكرة الجماعية.

أما المشكلة الثالثة فتتمثل في محاولات بعض الأصوات رسم واقع لا يتناسب مع ما نعيشه فعليًا، من خلال استدعاء مقارنات سطحية بين الحاضر والماضي، فحين يُصوَّر اختفاء 24 امرأة اليوم على أنها مأساة تفوق اختفاء أكثر من ثمانية آلاف ومقتل 22 ألف امرأة على يد النظام السابق، نكون أمام تزييف واضح للواقع، يحوّل المأساة إلى أداة لتلميع عهد بائد ارتكب جرائم ممنهجة. لقد انتهى النظام السابق، وليس المطلوب تكرار إدانته في كل مرة نناقش فيها قضية جديدة، بل يكفي ألا نعيد إنتاج صورته أو نستخدم المآسي الراهنة لتجميله.

في النهاية، تبقى قضية اختفاء النساء في سوريا واقعًا مؤلمًا لا يمكن إنكاره أو التخفيف من ألمه، لكن الدفاع عنها لا يكون عبر التسييس أو المقارنات، بل عبر تبنّيها كقضية إنسانية خالصة تُعالج بعيدًا عن أي إسقاطات، فالسلطة الحالية تتحمّل المسؤولية المباشرة عن حماية الأمن وضمان سلامة المواطنين، ويجب مساءلتها حين يثبت تواطؤ أي من أجهزتها أو تقصيرها في كشف الحقيقة. إن الاعتراف بوجود هذه الانتهاكات ومواجهتها هو الخطوة الأولى لبناء مجتمع أكثر عدلًا، يتعلم من ماضيه دون أن يعيد إنتاجه.

مقالات متعلقة

  1. لماذا ولمن وكيف تبلغ/ين عن حالات الاعتقال أو الفقدان أو الخطف
  2. "الداخلية" تكشف نتائج التحقيق بخطف نساء في الساحل
  3. "رايتس ووتش" تدين الصمت تجاه المعتقلين في سوريا
  4. المعتقلون الجدد والمعتقلون القدامى

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي