غزوان قرنفل
في زمن تتبدل فيه الحقائق كما تتبدل الخطابات، ويعاد فيه رسم ملامح التاريخ وكتابة وقائعه على هوى الحاكم، لم يعد من المستغرب أن نرى من يحاول إعادة كتابة وقائع الماضي بلغة جديدة تناسب أجندة الحاضر وتخدم سرديته، حتى صرنا نعيش زمنًا يمكن فيه تحويل الخائن إلى بطل، والبطل إلى خائن وفق معيار سياسي متقلّب لا يعرف الثبات ولا يعترف بالضمير الجمعي للشعوب.
في هذا السياق، أقدمت وزارة التربية على إدخال تعديل ضمن منهاج التاريخ يتضمن أن شهداء السادس من أيار عام 1916 أولئك الذين أُعدموا في ساحات دمشق وبيروت على يد جمال باشا (السفاح) لم يكونوا أبطالًا ولا مناضلين، بل “عملاء” لقوى غربية تآمروا على دولتهم العثمانية! بينما يعاد تصوير جمال باشا السفّاح الذي علّق خيرة مثقفي الأمة على أعواد المشانق، على أنه “رجل دولة” واجه مؤامرة تستهدف وحدة الإمبراطورية، وأنه لم يفعل سوى الدفاع عن كيان الدولة ضد الخونة والمتآمرين!
أي عبث بالتاريخ هذا، وأي قلب للحقائق ذاك الذي يحوّل الجلاد إلى منقذ، والضحايا إلى عملاء وخونة؟!
إن الذين يحاولون اليوم إعادة صياغة هذه الصفحة المضيئة من تاريخنا الوطني، يتجاهلون عمدًا أن جمال باشا وأقرانه من رجال جمعية الاتحاد والترقي كانوا أول من خانوا دولتهم وتآمروا عليها، عندما تمردوا على سلطانها عبد الحميد الثاني وأطاحوا به، واستأثروا بالسلطة تحت شعارات براقة لم تلبث أن تحوّلت إلى نزعة قومية متعصبة أقصت الشعوب غير التركية وحطّت من قدرها وأهانت كراماتها وحولتها الى رعايا من الدرجة الثانية.
من رحم تلك السياسات العنصرية ولد التمرّد، واشتعلت الثورات، وتفككت أركان الإمبراطورية، فهل يمكن بعد ذلك القول إن العرب خانوا الدولة العثمانية؟ بينما الحقائق تشي بأن من خانها هم بعض أبنائها عندما جعلوها تتخلى عن مبدأ العدالة والمساواة بين شعوبها، وحين أُخضعت الشعوب غير التركية للتمييز والإقصاء.
لقد خضع العرب للدولة العثمانية التي رفعت لواء الإسلام، وتعايشوا فيها مع الترك طالما كانت تحترم حقوقهم وكرامتهم، ولكنهم ما عادوا يجدون فيها دولتهم عندما تحولت إلى سلطة تضطهدهم وتحقّر لغتهم وثقافتهم وهويتهم، حينها فقط بدأ حلم الاستقلال يتشكل، لا بدافع الخيانة أو العمالة بل بدافع الكرامة الوطنية والرغبة في أن يكون للعرب صوتهم ومصيرهم.
شهداء السادس من أيار لم يكونوا أدوات بيد القوى الاستعمارية، بل كانوا طليعة وعي قومي جديد سعى إلى تحرر الأمة من قيود التبعية والظلم، فدفعوا أرواحهم ثمنًا لحلم الحرية والكرامة، أما الذين يصرّون اليوم على تشويه صورتهم ووسمهم بالعمالة، فهم في الحقيقة يكررون جريمة جمال باشا السفاح ذاتها بأدوات جديدة، إنهم يعلّقون الشهداء مرة أخرى على مشانق الذاكرة، ويقتلونهم رمزيًا بنزع صفة البطولة عنهم. إنهم لا يدافعون عن الحقيقة التاريخية، بل عن سردية سياسية يريدون بها تلميع صورة السلطان أو الزعيم الذي يبرّر قسوته باسم حماية الدولة، كما فعل جمال باشا بالأمس وكما يفعل المستبدون اليوم.
إن التاريخ ليس ورقة بيضاء تُكتب كلما تغيّر النظام أو تبدلت السلطة، بل هو ذاكرة الشعوب وضميرها الجمعي، ومن يعبث بهذه الذاكرة لا يزوّر الماضي فقط، بل يفسد الحاضر ويشوه المستقبل، فحين تلغى الفوارق بين الشهيد والخائن، وبين من ضحّى ومن مارس القمع، تصاب الأمة بالعمى الأخلاقي، ويتحوّل كل استبداد إلى “ضرورة وطنية”، وكل قمع إلى “دفاع عن الدولة” كما هو واقعنا اليوم.
تثبتت التجارب دومًا أن السلطة التي لا تستطيع بناء شرعيتها إلا من خلال تزوير التاريخ، سلطة خائفة من الحقيقة، وعاجزة عن مواجهة الاستحقاقات الكبرى، وبدل أن تتصالح مع ماضيها وتعتذر عنه وتعمل على عدم تكراره، تفتحه لتنتقم ممن رحلوا، وتستحضر أسماءهم لتجعلهم عبرة لأحياء ما زالوا يجرؤون على التفكير والجهر بالقول والاعتراض.
إن شهداء السادس من أيار باقون في ذاكرة السوريين والعرب لأنهم مثّلوا لحظة الوعي الأولى، لحظة إدراك أن الوطن لا يكون تابعًا، وأن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع، وهم خالدون لأن دماءهم لم تكن أداة في يد الغرباء كغيرهم من قادة الزمن الحاضر، بل كانت بذرة نهضة عربية لم تكتمل بعد لكنها لم تمت أيضًا رغم أنه تم الاشتغال كثيرًا على إجهاضها على يد الكثير من أبنائها مع الأسف عندما قرروا الارتهان وجعلوا من أنفسهم محض أدوات بيد من ينصّبهم حكامًا على شعوبهم بالقسر والقهر.
إن قراءة التاريخ ليست مجرد سرد لأحداث مضت، بل هي فعل وعي ومسؤولية أخلاقية تجاه الحقيقة، وعلى الجيل الجديد أن يدرك أن ما يُكتب في كتب السلطة ليس بالضرورة ما جرى حقًا، وأن واجبهم هو البحث والتنقيب عن الحقائق، فالتاريخ الذي يعاد تشكيله على مقاس الحاكم يتحوّل إلى أداة للقمع، أما التاريخ الذي يُقرأ بعين ناقدة وضمير حرّ، فيصير منارة للمستقبل، فلا تسلّموا عقولكم لمن يريد أن يقنعكم بأن شهداءنا كانوا عملاء، وأن جلادينا كانوا أبطالًا، فبين الكلمة التي تقال اليوم والحقيقة التي دفنت بالأمس، تقاس كرامة الشعوب وقدرتها على حماية ذاكرتها من العبث والسبي.
