عنب بلدي – كريستينا الشماس
لا تزال آثار سبل الماء الحجرية في أحياء دمشق القديمة، شاهدة على زمن كانت فيه المياه رمزًا للحياة والعطاء.
تلك النُصب الصغيرة، المزخرفة بالكتابات الإسلامية والنقوش الهندسية، لم تكن مجرد مرافق خدمية للعابرين، بل جسدت على مدى قرون فكرة الصدقة الجارية والكرم الدمشقي المتأصل في وجدان الناس.
ربطت سبل المياه في دمشق، منذ العصور الأولى وحتى بدايات القرن الـ20، بين الإنسان والمدينة، وجعلت من الماء نقطة التقاء يومية، وذاكرة مشتركة امتدت من البيوت إلى الأسواق.
ومع تراجعها اليوم، لم تعد المسألة مرتبطة فقط بنقص المياه، بل بغياب أحد أبرز مظاهر التراث الشعبي الذي أسهم في صياغة هوية دمشق الاجتماعية والثقافية.
حكاية الماء في دمشق
“والماء يبدأ من دمشق فحيثما أسندت رأسك جدول ينساب”، بهذا البيت للشاعر نزار قباني، بدأ الباحث في التراث الشعبي محيي الدين ياسين قرنفلة حديثه لعنب بلدي، مختصرًا حكاية أهل دمشق مع الماء.
وأوضح قرنفلة أن نهر “بردى” كان السبيل الأول لإرواء قاطني المدينة وزوارها، وتروى في كتب التراث كثير من الحكايات عن أبناء السبيل الذين انقطعت بهم أسباب السفر، فكانوا يأوون إلى بستان تنساب فيه المياه الرقراقة.
وأضاف قرنفلة أن الاهتمام بالسبل يعود إلى العصر الروماني، إذ تم جرّ مياه الأنهار بواسطة قنوات تصل إلى حارة يسمى عندها “الطالع”، مثل “طالع الفضة”، وحارة “السبع طوالع” الموجودة في القيمرية بدمشق القديمة.
ويروي قرنفلة أنه كان هناك رجل يُسمى “الفرضِي”، هو الذي كان يحدد كمية المياه التي ستدخل هذا البيت أو ذاك، حسب عدد سكانه ومساحته وثمن الحصة، إذ تدخل المياه إلى “البحرة” وسط الديار، أو إلى جناح “السلملك”، لتغذي “الفسقية” داخل القاعة.
وأشار قرنفلة إلى أن السبل أو “الطوالع” كانت في دمشق منذ عهد الرومان وما قبله، واستمرت في العهد الأيوبي والمملوكي والعثماني، وهناك نصب كثيرة توثق الأنماط المعمارية لكل عصر.
ويُلاحظ بناء الكثير من السبل المشيّدة من الحجر الذي يحتوي على الزخارف، وتزين جدرانها الكتابة الإسلامية.
وقبل جرّ المياه بواسطة القساطل، بحسب قرنفلة، كان يتم حفر الآبار في البيوت والطرقات، ويتم رفع المياه بواسطة “كباس” معدني كان منتشرًا بمعظم أحياء دمشق حتى سبعينيات القرن الماضي، وكانت ضمن بيوت دمشق بئر مياه عليها “طرنبة” يدوية، ومع مطلع القرن الـ20 قامت مؤسسة مياه عين الفيجة بجر المياه من العين إلى المدينة، ووزعت عدة سبل عليها (حنفيات نحاسية)، من مياه عين الفيجة قبل دخولها بيوت دمشق في كل أحياء المدينة.
الصدقة الجارية.. بين الإيمان والتكافل
أشار الباحث في التراث الشعبي محيي الدين ياسين قرنفلة، إلى أن سبل المياه تُعد من أقدم مظاهر الصدقة الجارية، اقتداء بقول الرسول محمد، “أفضل الصدقة سقي الماء”.
وقال قرنفلة، إن هذا المفهوم يربط بين الجانب الديني والتكافل الاجتماعي في مدينة دمشق، ويجعل من السبل جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية الدمشقية.
وكان الناس يتسابقون لإنشاء سبيل مياه، فبلغ عدد السبل في دمشق حوالي 1000 سبيل، توزعت بمختلف حارات وشوارع وأسواق المدينة، وفقًا لقرنفلة.
وقد أسهمت هذه السبل في استدامة الحياة داخل المدينة، إذ إنها وفرت المياه لكل عابر سبيل، وكأنها تقول “المياه للجميع”.
لا يمكن لزائر أحياء مدينة دمشق إلا أن يصدف في طريقه سبلًا للماء تروي عطشه من مائها العذب، وتمتع ناظريه بعمارة وزخارف ونقوش الكثير منها، لتظل في ذاكرته رمزًا للخير الذي يمتاز به أهل الشام على مر العصور.
محيي الدين ياسين قرنفلة
باحث في التراث الشعبي
روابط اجتماعية
لم يكن السبيل، كما قال قرنفلة، مجرد منفعة عامة، بل هو عادة قديمة جدًا عند أهل مدينة دمشق ومستمرة في نفس الوقت، كشكل من أشكال الصدقة الجارية التي يحرص عليها سكان دمشق، وجزء من التراث الشعبي الدمشقي.
وحول هذه السبل، نشأت علاقات اجتماعية وإنسانية عميقة، جعلت منها نقطة التقاء يومية بين الناس.
يستذكر سليم ديب، رجل سبعيني من حي القيمرية، كيف استطاع سبيل المياه على مدى عصور أن يخلق روابط اجتماعية متينة، فكان كل عابر طريق يتوقف في الحي ليشرب من السبيل.
وقال سليم مبتسمًا، “من شرب من سبيلنا صار من أهل الحي، فكان يعرفنا بالناس، ويجعل الغريب قريبًا قبل أن يغادر الزقاق”.
أكد قرنفلة أن هذه السبل أسهمت في استدامة الحياة بالمدينة، إذ جمعت الناس على فكرة أن الخير متاح للجميع، وأن الماء رمز العطاء الذي يوحدهم مهما اختلفت طبقاتهم.
إرث مهدد بالاندثار
مع مرور الزمن وتبدل أنماط الحياة، تراجعت مكانة السبل في المدينة، بحسب الباحث في التراث الشعبي محيي الدين ياسين قرنفلة.
وقال إنه خلال الـ20 سنة الماضية أُهملت هذه السبل، وبعضها أُزيل نهائيًا لعدة أسباب، منها شح المياه والتقنين.
ويأمل قرنفلة من الحكومة الحالية الاهتمام بهذه السبل والعمل على إعادة تشغيلها والحفاظ عليها، لأنها إرث ثقافي مهم يعكس ارتباط الإنسان ببيئته وتراثه، إضافة إلى أنها مهددة بالاندثار.
قالت لينا العبد، من سكان حي القيمرية، إن سبيل المياه في حيها “المعشق بالذكريات”، بات اليوم إرثًا مهملًا، وكأن “شيئًا من روح المكان اختفى”، بحسب تعبيرها.
وترى لينا أن عادات أهل المدينة تغيرت في السنوات الأخيرة، فبات معظمهم ينظرون إلى السبيل كذاكرة دمشقية قديمة، “يرجعهم الحنين إليها كل مرة”.
سبل المياه في مدينة دمشق ليست معالم حجرية فحسب، بل ذاكرة حية لأقدم مدينة مأهولة على وجه الأرض بعد أريحا. هي شاهد على تواصل الإنسان مع بيئته، وعلى قيم الخير التي تجري في عروق الشام كما يجري الماء في بردى.
محيي الدين ياسين قرنفلة
باحث في التراث الشعبي
