فتح الحديث عن وجود عسكري أمريكي بمحيط العاصمة السورية دمشق الباب أمام عدة تساؤلات بشأن طبيعته وأسبابه، ومدى تأثيره على السيادة السورية.
وكانت وكالة “رويترز” كشفت، في 6 من تشرين الثاني الحالي، أن الولايات المتحدة الأمريكية تستعد لإقامة وجود عسكري في قاعدة جوية بالعاصمة السورية دمشق، للمساعدة في تمكين اتفاق أمني تعمل واشنطن على التوسط فيه بين سوريا وإسرائيل.
ونقلت الوكالة عن ستة مصادر قابلتهم، منهم سوريون وآخرون غربيون، لم تكشف عن أسمائهم أو مستوياتهم، أن القاعدة يُتوقع أن تشكّل جزءًا من منطقة منزوعة السلاح ضمن اتفاق عدم اعتداء بين إسرائيل وسوريا، يفترض أن تراقبه واشنطن.
وبحسب الباحث في “المركز العربي لدراسات سوريا المعاصرة” نوار شعبان، يمكن للوجود العسكري في القاعدة الجوية، أن يعزز فرص الاستقرار، عبر ضبط الجنوب السوري، ويعزز فتح منفذ سياسي نحو واشنطن.
ويبقى الجانب المقلق هو وجود أجنبي دون توضيح الشروط، إذ لم تكن الشروط واضحة، وفق حديث الباحث شعبان إلى عنب بلدي.
هل يؤثر على السيادة؟
لم تفصح وكالة “رويترز” عن طبيعة الوجود الأمريكي أو تفاصيله، كما نفت الخارجية السورية الترتيب لأي قواعد جوية أمريكية في سوريا.
من جانبها، أشارت الوكالة إلى أن سوريا ستحتفظ بسيادتها الكاملة على المنشأة، نقلًا عن مصدرين عسكريين سوريين، في حين أن المحادثات الفنية ركّزت على استخدام القاعدة لأغراض لوجستية واستطلاعية وتزويد بالوقود وعمليات إنسانية.
ورفضت وزارة الدفاع السورية الرد على استفسارات عنب بلدي حول ما أوردته وكالة “رويترز”.
مصدر مسؤول في وزارة الخارجية السورية، نقلت عنه وكالة الأنباء السورية (سانا) ولم تسمه، أشار إلى أن المرحلة الراهنة تشهد تحولًا في الموقف الأمريكي باتجاه التعامل المباشر مع الحكومة السورية المركزية، ودعم جهود توحيد البلاد ورفض أي دعوات للتقسيم.
وأضاف المصدر أن العمل يجري على “نقل الشراكات والتفاهمات التي كانت اضطرارية مع أجسام مؤقتة إلى دمشق، في إطار التنسيق السياسي والعسكري والاقتصادي المشترك”.
واعتبر المصدر أن “سوريا في عهدها الجديد ماضية بثبات نحو ترسيخ الاستقرار وتعزيز التعاون القائم على السيادة الوطنية والاحترام المتبادل”.
من جانبه، يعتقد الباحث والكاتب السياسي عبد الله العلي، أن هناك مساسًا محتملًا وتعديلًا واقعيًا سيطرأ على شكل السيادة السورية، إن لم يكن “تفريطًا”.
وشرح بأن إشراك قوة عسكرية أجنبية قرب مركز السيادة وتفويضها بوظائف مراقبة أو ردع يعني، عمليًا، إقرارًا بأن ضمان الأمن الحدودي وإدارة قواعد الاشتباك يتجاوزان قدرة الدولة منفردة في هذه المرحلة.
ويبقى حجم هذا المساس رهنَ نصوص الاتفاق وآليات إنفاذه وحدود التفويض الأمريكي على الأرض، وفق حديث العلي إلى عنب بلدي.
الباحث في “المركز العربي لدراسات سوريا المعاصرة” نوار شعبان، أشار إلى أنه يجري الحديث عن أن السيادة ستكون بالمطلق للجانب السوري، ولكن اعتبر أنها تبقى عبارة عن تسريبات عبر “رويترز”.
ويرى أنه يجب أن يكون هذا الوجود الأجنبي ضمن شروط واضحة، حتى لا يتحول لاحقًا إلى ورقة ضغط أو إلى حالة ضبابية محصورة بين الشراكة والسيطرة.
العلي قال إن الجديد في تقرير “رويترز” ليس “المبدأ” بل الموقع والوظيفة.
وأوضح أن الترتيب المقترح يقضي بحضور أمريكي في قاعدة جوية على مقربة من دمشق لدعم اتفاق أمني سوري– إسرائيلي قيد التفاوض.
وأضاف هذا الأمر بعدًا رمزيًا وسياسيًا “أثقل”، مشيرًا إلى أن قرب العاصمة يبدّل تعريف “مواقع النفوذ” وحدود الأدوار، ويجعل المشاركة الأجنبية أقرب إلى إعادة صياغة لشكل السيادة إذا كانت مُدارة أم مُشارَكة، لا مجرد دعم فني بعيد عن مركز القرار.
قاعدة “التنف”
تمتلك واشنطن قاعدة “التنف” في سوريا، التي أنشأتها في الصحراء السورية، فيما يعرف بالمنطقة “55”، في إطار حربها ضد تنظيم “الدولة” بمشاركة حلفاء لها، هم “جيش سوريا الحرة” و”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد).
العلي قال إن وجود القاعدة الأمريكية في “التنف” شكّل أصلًا مساسًا سابقًا بمفهوم السيادة التقليدي، لأن انتشار القوات الأمريكية في سوريا لم يستند إلى موافقة سيادية من حكومة النظام السابق، بل إلى مبررات أمريكية تتصل بمكافحة تنظيم “الدولة”.
وأضاف لعنب بلدي أن الأثر العملي لهذا الوجود ظهر خلال تصعيد نيسان 2024 بين طهران وتل أبيب، إذ شاركت القوات الأمريكية في “التنف” بإسقاط عشرات المسيّرات والصواريخ المنطلقة نحو إسرائيل.
اتفاق 1974
الوجود العسكري الأمريكي قرب العاصمة، هو اختلاف نوعي عن نموذج “الأندوف” الأممي، الذي راقب اتفاق 1974 لعقود بلا حاجة إلى قاعدة جوية أجنبية أو وصاية تنفيذية مباشرة، وفق ما يراه العلي.
وأشار العلي إلى حديث المسؤولين السوريين المتكرر حول العودة إلى اتفاق 1974، والذي تراقبه قوّة الأمم المتحدة لمراقبة فضّ الاشتباك (الأندوف).
ولفت إلى أن هذه المهمّة كانت تُنفَّذ من خلال معسكرين رئيسين (الفوار وزيواني) ونقاط مراقبة ودوريات، ولم تتطلّب يومًا قاعدة جوية أجنبية خاصة بالجهة التي تتولى المراقبة، بل اعتمدت على بنية “الأندوف” ومعدّاتها الداعمة داخل منطقة العمليات.
بالمقابل، يرى أن واشنطن تحضر لإقامة حضور عسكري في قاعدة جوية قرب دمشق لدعم ترتيب أمني سوري– إسرائيلي برعاية أمريكية، بحسب المعطيات التي أوردها تقرير “رويترز”، إن صحت.
كما يمثل ما ورد في التقرير تحولًا جوهريًا يتمثل في نقل وظيفيّ لرقابة الترتيبات من مظلّة أممية محايدة إلى رعاية ثنائية/ أحادية، من الولايات المتحدة، مع بُعدٍ لوجستي– جويّ غير مسبوق في ملف 1974.
وهذا يفتح سؤالًا مركزيًا، وفق الباحث العلي، هل ما يُتفاوض عليه اليوم هو استعادة حرفية لاتفاق 1974، أم ترتيب جديد ببنود وآليات مختلفة تستلزم مراقبًا أمريكيًا وقاعدة جوية؟
وقال إن المعطيات المنشورة توحي بالاحتمال الثاني أكثر من الأول.
من جانبه، يرى الباحث نوار شعبان أن المعادلة جدًا دقيقة أمام الحكومة في دمشق الآن، متسائلًا، كيف يتحول هذا الوجود الأمريكي، إذا تم، إلى أداة سيادية، لا إلى رمز وصاية، وكيف يستخدم الانفتاح الأمريكي لصياغة شراكات تحفظ أمنها ولا تقيد قرارها.
الباحث، العلي، لفت إلى أن تجربة القواعد الأمريكية عالميًا، ومنها قاعدة “عين الأسد” في العراق، تُظهر أن بنود الشراكة والقيود السيادية تبقى مرنة لمصلحة الاحتياجات العملياتية عند الأزمات، حتى عندما تُصاغ ضمن اتفاقات ثنائية مُعلنة.
وقال إن أثر أي قاعدة أمريكية سيكون نسبيًا ومتغيّرًا تبعًا لتطابق أو تعارض المصالح بين واشنطن وتل أبيب في كل لحظة.
عمليًا، سقف الردع لن يتجاوز ما تعتبره إسرائيل مصالح أمنها الاستراتيجية إقليميًا، حتى مع وجود مراقبة أمريكية، إذ حافظت إسرائيل، تاريخيًا، على هامش مناورة عالٍ تجاه الساحة السورية.
فيما تعتمد فاعلية أي منطقة فصل لمنع التوغلات على وضوح القواعد، وآليات التحذير والإنفاذ، واستعداد الأطراف للالتزام بها، بحسب العلي.
توغل يسبق التفاهم
منذ الساعات الأولى لسقوط النظام السابق، بدأت إسرائيل بالتوغل داخل الأراضي السورية، واستحوذت على أراضٍ داخل محافظتي درعا والقنيطرة، جنوبي سوريا، أبرزها في حوض اليرموك وجبل الشيخ.
وترافق التوغل الإسرائيلي مع مئات الغارات، بعضها طال المناطق الجنوبية وبعضها الآخر وصل إلى العمق السوري، مستهدفًا قطعًا عسكرية تتبع للجيش السابق، المنحل حاليًا.
وتذرعت إسرائيل، في الأيام الأولى لسقوط النظام، بأن ضرباتها على القطع العسكرية لعدم وقوع الأسلحة والذخائر بأيدي من أسمتهم “المتطرفين”.
كما شنت عدة حملات اعتقال في الجنوب السوري، على مدنيين سوريين، قالت إنهم متعاونون مع ميليشيات إيرانية.
بالمقابل، لم ترد الحكومة السورية على التوغل الإسرائيلي، وأكدت في أكثر من مناسبة أنها لن تشكل تهديدًا على دول الجوار، بما فيها إسرائيل.
من جانبها، دخلت واشنطن على خط التهدئة، وحاولت إقامة تفاهمات أمنية، بين دمشق وتل أبيب، إلا أنهما لم يوقعا على اتفاقية في هذا الشأن، حتى اللحظة.
وتحاول دمشق العودة إلى اتفاقية 1974، والمتعلقة بفض الاشتباك ووضع مناطق فصل على الحدود بين سوريا وإسرائيل، برعاية الأمم المتحدة، إلا أن إسرائيل اعتبرت أن الاتفاقية ملغاة بسقوط النظام.
أمريكا تتوسط بين سوريا وإسرائيل
الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، التقى نظيره الأمريكي، دونالد ترامب، في العاصمة الأمريكية واشنطن، في زيارة وصفت بالتاريخية، لأول رئيس سوري يدخل البيت الأبيض في 10 من تشرين الثاني الحالي.
وكانت قضية الاتفاق الأمني بين سوريا وإسرائيل، من أبرز الملفات التي طرحت داخل مكتب ترامب، مع الوفد السوري.
ترامب، عقب لقائه الرئيس السوري، الشرع، قال إنه سيبذل قصارى جهده لإنجاح سوريا، وإن بلاده تعمل مع إسرائيل أجل التوافق مع سوريا.
وأشار إلى أن الولايات المتحدة تعمل مع إسرائيل بشأن العلاقات مع سوريا، قائلًا، “نحن نعمل أيضًا مع إسرائيل بشأن التوافق مع سوريا والتوافق مع الجميع”.
من جانبه، قال الشرع، إن المفاوضات الجارية مع إسرائيل “صعبة لكنها مستمرة”، مشيرًا إلى أنها تجري بدعم من الولايات المتحدة وعدة أطراف دولية أخرى.
وأوضح الشرع في حديث إلى صحيفة “واشنطن بوست” عقب لقائه بترامب، أن أي اتفاق مستقبلي سيشترط انسحاب إسرائيل إلى المواقع التي كانت تتمركز فيها قواتها قبل سقوط نظام بشار الأسد في 8 من كانون الأول 2024، قائلًا، “أعتقد أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم القادرة على ضبط سلوك إسرائيل”.
