بعد التوصل إلى هدنة في قطاع غزة وعقد “قمة شرم الشيخ للسلام”، تكثّفت تحركات مصر الدبلوماسية لاحتواء التوتر المتصاعد بين لبنان وإسرائيل، في ظل تجدد القصف الإسرائيلي لمناطق داخل الأراضي اللبنانية.
في هذا الإطار، تبلورت سلسلة من اللقاءات والزيارات، إذ التقى رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، بنظيره اللبناني، نواف سلام، بالقاهرة، في 2 من تشرين الثاني الحالي، تبعه مؤتمر صحفي مشترك عقب اختتام أعمال اللجنة المصرية- اللبنانية في دورتها العاشرة، بعد توقف دام ست سنوات.
وخلال المؤتمر، شدد مدبولي على ضرورة إنهاء الأزمة بين لبنان وإسرائيل، وانسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب اللبناني.
وجاء ذلك بالتوازي مع زيارة لرئيس المخابرات المصرية، حسن رشاد، إلى بيروت، حيث التقى الرئيس اللبناني، جوزيف عون، وعددًا من كبار المسؤولين، وبحث معهم الأوضاع في جنوبي لبنان وإمكانية توسيع اتفاق “شرم الشيخ” ليشمل لبنان.
ووفق بيان الرئاسة اللبنانية، أعلن رشاد استعداد مصر للمساهمة في تثبيت الاستقرار بالجنوب، وإنهاء الوضع الأمني المضطرب فيه.
ما سبق، يطرح تساؤلات حول تأثير المبادرة المصرية الجديدة في الملف اللبناني على علاقة القاهرة مع الحكومة في دمشق، إذ يرى مراقبون أن نجاح الوساطة المصرية بين إسرائيل ولبنان، والتي تحتاج إلى تنسيق مع سوريا، سيُعطي دورًا أكبر لمصر في المرحلة المقبلة إذا نجحت.
ملامح المبادرة المصرية
خلال تلك الاجتماعات، طرحت القاهرة ما يُعرف بـ”المبادرة المصرية” لحل الأزمة اللبنانية- الإسرائيلية، بمشاركة أطراف من الولايات المتحدة وإسرائيل ولبنان، بسبب مخاوفها من تصعيد إسرائيل لحرب شاملة على لبنان، تهدف إلى تسوية شاملة للأزمة وتثبيت وقف إطلاق النار، مع انسحاب القوات الإسرائيلية من خمس نقاط في جنوبي لبنان، بحسب ما نقلته “بي بي سي” عن مصادر دبلوماسية مصرية في وقت سابق.
ومن أبرز ملامح المبادرة أيضًا، أنها تسعى إلى “وقف كامل لأي اعتداءات إسرائيلية أو استباحة الأراضي اللبنانية برًا أو جوًا بمجرد دخول الاتفاق حيّز التنفيذ”، وأن يتزامن ذلك مع “انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية عقب إعلان رسمي من بيروت بسحب سلاح (حزب الله)، وإعادة انتشار كامل للجيش اللبناني في الجنوب”.
الكاتب الصحفي والمحلل السياسي اللبناني الدكتور زياد علوش، قال لعنب بلدي، إن الحركة الدبلوماسية المصرية التقليدية لم تنقطع يومًا في لبنان، رغم تراجع أوراق القاهرة الكبير في بيروت.
وكثرت التساؤلات عن زيارة رئيس المخابرات العامة المصري، اللواء حسن رشاد، إلى لبنان، على رأس وفد أمني كبير بعد لقائه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، في 21 من تشرين الأول الماضي، وفق علوش، في ظل الفتور الحاصل بين القاهرة ودمشق وتأثيره على العلاقات اللبنانية- السورية، إذ تزامنت زيارة الوفد المصري مع تأجيل زيارة الأمير السعودي، يزيد بن فرحان، إلى بيروت.
وساطة أم رسائل تحذير
المهمة المصرية تبدو في العلن تقديم الدعم المعنوي للبنان، لكن في حقيقتها نقل رسالة تحذير إسرائيلية إلى لبنان برعاية أمريكية، ومثل هذه الرسائل التحذيرية نقلتها أكثر من جهة إقليمية ودولية، منها ألمانيا المعروفة بوساطاتها الاستخباراتية الصامتة في الحالة المتعلّقة بـ”حزب الله” اللبناني وإسرائيل، خاصة بعد وصف المبعوث الأمريكي إلى سوريا، توم باراك، الدولة اللبنانية بـ”الفاشلة”، وفق ما يراه المحلل السياسي زياد علوش.
إضافة إلى نفاد صبر تل أبيب بتوسيع عدوانها على لبنان حتى نهاية العام الحالي ما لم تتمكّن الحكومة اللبنانية من نزع سلاح “حزب الله”، وفقًا لقرارها تنفيذ القرار الأممي “1701”، وبنود اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل الذي تستبيحه إسرائيل يوميًا، تابع علوش.
وبحسب المحلل السياسي، فإنه لتفادي حرب إسرائيلية جديدة على لبنان، تستكشف القاهرة وساطة بين تل أبيب وبيروت على نسق ما قامت به بين غزة وإسرائيل، ويبدو أن لبنان “أعطى المصريين طرف الخيط” بإعلان رئيس الجمهورية اللبنانية، جوزيف عون، موافقته التفاوض المباشر مع إسرائيل كموقف لبناني جامع.
ويرى علوش أن المشكلة في الملف اللبناني- السوري رغم الجهود السعودية الواضحة لرعايته، والرياض صاحبة كلمة مسموعة في بيروت، وقد تحققت بعض النتائج بتخفيض التوتر الأمني على الحدود المشتركة بين البلدين، وإنشاء لجان مشتركة وزيارات متبادلة، إلّا أن تطوّر الملف اللبناني – السوري بشكلٍ واضح لا يزال شائكًا.
وأضاف علوش، أن الرئيس السوري في المرحلة الانتقالية، أحمد الشرع، يصرّ على التعاطي الرسمي بين دولتين، لكن المشكلة في بيروت أن هناك وجهات نظر متضاربة في رسم السياستين الدفاعية والخارجية، كما أن هناك انقسامًا وعجزًا حكوميًا واضحًا في المسائل السيادية لمصلحة النفوذ الإيراني في لبنان، يُضاف إلى ذلك لعبة الكراسي بين الرئاسات الثلاث، ومحاولاتها الدائمة بالاستثمار والاستقواء بالتقاطعات والتعارضات الإقليمية والدولية لتثبيت مواقعها ونفوذها.
دمشق تفتقد “الشريك” اللبناني
المراقب للعلاقات اللبنانية- السورية، خاصة في ظل الحكم الجديد في سوريا، يستنتج أن دمشق حسمت هويتها وخيارها العربي إلى جانب السعودية بعيدًا عن الهلال الشيعي و”ممر داوود التلمودي” وانفتاحها على الغرب والولايات المتحدة، وأنها، بحسب المحلل زياد علوش، تفتقد للشريك اللبناني الفاعل “خصوصًا السني منه”، كما أن دمشق لم تحصل حتى الآن على الضوء الإقليمي والدولي بهذا الشأن فيما يتعلّق بعلاقتها مع لبنان.
ويتوقّع الدكتور علوش، أن هذه الصورة لربما ستتضح أكثر مع نهاية العام الحالي، بعد لقاء الرئيسين دونالد ترامب وأحمد الشرع في واشنطن، وما يليه من تثبيت لنتائج هذا اللقاء بالاجتماع المُرتقب بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس ترامب، معتبرًا أن ذلك ليس بعيدًا عن الدورين التركي والقطري.
وأشار إلى أن ما سيحدث في بيروت حتى نهاية العام الحالي، سيكون مؤثرًا بشكلٍ كبير على مختلف هذه الملفات في ظل استقطابات محلية وإقليمية جديدة.
وفي حال نجحت الوساطة المصرية في لبنان بالجانب المرتبط بإسرائيل، هذا سيُعطي دورًا أكبر لاحقًا لمصر، بالتالي تأثير أقوى في الملفات الأُخرى، وفق رؤية علوش، مبينًا أن العلاقات اللبنانية- السورية حاليًا تحت مظلّة المملكة العربية السعودية، وهي صاحبة النفوذ الأكبر في الداخل اللبناني، وسيكون لها الرأي الحاسم في العديد من القضايا، متوقّعًا تعزيز الدور السوري إذا فشلت مصر.
دور مصر الإقليمي و”مقاربة حذرة”
في موضوع النشاط المصري على الساحة اللبنانية دون تنسيق مع سوريا، يرى الكاتب والمحلل السياسي المصري عزت النمر، أن العلاقات المصرية- السورية تُعاني حالة من التردد والتأرجح وتحكمها الهواجس والتخوّفات، لكن إكراهات الواقع تحفظ حدًا أدنى وتمنعها من القطيعة الكاملة، دون أن تصل بها الى ما يقتضيه الظرف من علاقات طبيعية فضلًا عن استحقاقات العلاقات المتميّزة.
يعلل النمر، في حديثه لعنب بلدي، حالة الفتور والتردد في الموقف المصري من العلاقة مع سوريا بعدة أسباب منها: أن النظام المصري ينظر إلى سوريا الجديدة التي يحكمها أحمد الشرع ذو الخلفية الإسلامية، وهذا يمثّل إشكاليات عدة لنظام السيسي الذي بنى قاعدة حكمه على كراهية الإسلاميين واعتبارهم “فزاعة”.
ويرى المحلل السياسي أن مصر رغم كل ما تختزنه حيال سوريا أو بالأحرى حيال نظامها السياسي الجديد وطريقة التغيير، إلّا أنها ستسعى لأخذ خطوات جادة نحو دمشق في سبيل استبقاء بعض الملفات الإقليمية في يديها، والحفاظ على دور حيوي في الإقليم، معتبرًا أن الدور الجديد لمصر في لبنان سيكون اختبارًا حقيقيًا لجدية النظام المصري هناك.
وباعتقاد النمر، فإن زيارة رئيس المخابرات المصرية إلى بيروت هي محاولة جادة في أن تكون القاهرة هي صاحبة الدور الرئيس في ملف العلاقة بين إسرائيل ولبنان.
ويجد المحلل، أن الدور المصري لن يزيد على نقل الرسائل والاستجابة للأجندة الإسرائيلية وتقديم مصر كفاعل حيوي أمام كل من الولايات المتحدة وإسرائيل.
كما أن القاهرة ربما تستغل أطرافًا محلية في الداخل اللبناني لتضغط في هذا الملف فتحقق من خلالها تقدّمًا ما، وهو ما يتوافق مع عقلية النظام المصري الذي يهوى حصر السلاح والقوة في مؤسسات الدولة الرسمية وهي الجيش، يقول النمر، إلّا أن مصر تظل محدودة التأثير المباشر في هذا الأمر كونها لا تمتلك علاقات مباشرة مع “حزب الله”، كما أن دورها في قضية ترسيم الحدود سينحصر في محاولة التحريك الدبلوماسي بسبب تعقيدات هذا الملف وإشكالياته الأمنية والسياسية.
وبحسب النمر، فإن الغطاء الأمريكي معني بالضرورة بمسألة نزع سلاح “حزب الله”، وهو مطلب إسرائيلي بالأساس، بالتالي فانعكاس الدعم الأمريكي للدور المصري سيظل مرهونًا بشكل جزئي بهذه المهمة المحددة في لبنان، وفي أحسن الأحوال بصورة التهدئة بين إسرائيل ولبنان، موضحًا أن أمريكا لا تحتاج لممارسة أي ضغوط باتجاه العلاقات المصرية – السورية.
بالتالي، فإن القاهرة ستمارس مقاربة حذرة في العلاقات مع دمشق، بحيث تحقق ما تريده مصر من الوجود والحضور الإقليمي وعدم الغياب عن التحالفات الجديدة، وتحافظ على بقدر ما تستطيع على دورها الإقليمي، يختم المحلل السياسي المصري.
