حقائب “راندوسيرو” اليابانية في أيادي تلامذة سوريا

أطفال يابانيون يرتدون حقائب "راندوسيرو" (إنترنت)

camera iconأطفال يابانيون يرتدون حقائب "راندوسيرو" (إنترنت)

tag icon ع ع ع

طوكيو – عنب بلدي

صباحات المدن اليابانية تضج بحيوية تنساب في عدد من المشاهد اليومية المكررة. محطات قطار مزدحمة وشوارع يملؤها موظفو الشركات، وأطفال يسرعون إلى مدارسهم وعلى ظهورهم الصغيرة حقائب جلدية كبيرة الحجم سترافقهم طوال سنوات الدراسة الابتدائية.

تلك الحقائب المدرسية المميزة والتي وصلت دفعات منها مؤخرًا إلى مخيمات اللجوء السوري في تركيا ومناطق في الداخل تسمّى “راندوسيرو”. واللفظ الياباني يعكس التسمية الأصلية باللغة الهولندية “راندسيل”، إذ أتى بها الجنود الهولنديون إلى جزر الأرخبيل الياباني في القرن التاسع عشر وحازت على إعجاب العسكريين اليابانيين على الفور.

لماذا يشتريها اليابانيون؟

وفي عام 1885 أصدرت الحكومة اليابانية تعليمات بالبدء في نشر حقائب “راندوسيرو” في أنحاء البلاد، ضمن لباس مدرسي موحد يحمل روحًا عسكرية، وذلك في سياق عملية التحديث الشاملة في عهد الإمبراطور ميجي. وحتى عهد قريب استمر اعتماد اللون الأسود للصبية والأحمر للفتيات، ولكن السنوات الأخيرة شهدت تنوعًا في الألوان والتصميمات.

ومع انتقالها من عالم الجيوش إلى عالم المدارس، تحولت حقائب “راندوسيرو” إلى ظاهرة لها مميزاتها الاجتماعية والثقافية الخاصة في سياقها الياباني. اجتماعيًا، قد يكون من المستغرب تسليم حقيبة قد يتجاوز سعرها 300 دولار أمريكي إلى كل تلميذ من تلاميذ المدارس في جميع أنحاء اليابان، لكن ذلك جزء من تربية الأطفال على استعمال المنتجات ذات النوعية العالية، والحفاظ عليها لسنوات، وهو أمر يسم المستهلكين اليابانيين في عموم المجتمع الياباني، فالياباني يصر على اقتناء بضاعة من النخب الأول ولا يتردد في بذل المال للحصول عليها، ويتوقع في المقابل أن تكون مشترياته على المستوى المطلوب من الإتقان في الصنع. حقائب راندوسيل تنمّي ذلك التوجه في نفوس أطفال اليابان، علمًا أن طريقة التفكير تلك لا ترتبط بالاستهلاك فقط بل بالإنتاج أيضًا، وهو ما يتجلى في حرص اليابانيين على بلوغ الكمال في إتقان ما يصنعون، وهو ما يعكس الجانب الثقافي لصناعة “راندوسيرو” التي تحولت على أيدي اليابانيين إلى حرفة رفيعة المستوى.

نوعية فائقة وحرص على الكمال

للاطلاع على تفاصيل صناعة “راندوسيرو”، قمنا بزيارة شركة “أوبا” في طوكيو والتي تصنع الحقائب المدرسية منذ أكثر من ثمانية عقود، بما في ذلك بعض الحقائب المدرسية التي اقتناها أفراد العائلة الإمبراطورية اليابانية. الحقائب التي تخرج من ورشة “أوبا” تباع بما يتراوح بين 500 و800 دولار أمريكي للحقيبة الواحدة. وأكثر ما يفاجئ من يزور المشغل هو استخدام مقاييس بالغة الصرامة لاختيار جلود فائقة النوعية، ولذلك تقتصر المواد المستخدمة على الجلود الخالية من الشوائب بشكل كامل، حتى الصغيرة منها. ويعني ذلك التخلي عن كميات كبيرة من الجلود التي تبدو قابلة للاستعمال للعين غير الخبيرة، وذلك رغم أن الحقائب ستذهب لأيادي أطفال في السادسة من العمر، وستشهد حياة مدرسية صاخبة سرعان ما ستترك آثارها وجراحها على سطح الحقيبة وداخلها.

حرفيو خياطة الحقائب بدورهم يبذلون جهودًا كبيرة لإنتاج “راندوسيرو” متقنة، أولًا باستخدام ماكينات الخياطة ثم يدويًا حيث يستعملون أجود أنواع الخيوط لتجميع الأجزاء المختلفة وتشكيل “راندوسيرو” متينة تدوم لست سنوات على الأقل وهي فترة الدراسة الابتدائية، وربما لفترة أطول من ذلك فتنتقل من أيادي جيل من التلامذة إلى الجيل الأصغر من إخوتهم وإخوانهم في بعض الحالات. والنتيجة دائمًا هي حقائب “راندوسيل” متماسكة بقياسات محددة، فهي تشابه مكعبًا ارتفاعه 30 سنتيمترًا وعرضه 23 سنتيمترًا وعمقه 18 سنتيمترًا، والمكعب يفتح من قمته باتساع كبير يسمح بإدخال الكتب والدفاتر والأدوات المدرسية بسهولة ويحافظ عليها بالشكل الأمثل دون التعرض للتلف.
ومن الطريف أن الشركة أصبحت تتلقى طلبات من بعض أهم دور الأزياء العالمية في فرنسا وغيرها، لإنتاج حقائب ومنتجات جلدية للتسويق في أوروبا. ولكن القائمين على الشركة يرفضون تحويلها إلى ورشة لإرضاء رغبات دور الأزياء الأجنبية، ويفضلون أن يركزوا أولًا على ضمان نوعية منتجاتهم من حقائب “راندوسيرو” وغيرها، ثم التعامل مع مختلف المقترحات الواردة بشكل هادئ وضمن ما تسمح به إمكانياتهم دون الإخلال بالنوعية، والنوعية حاضرة دائمًا ككلمة مفتاحية عند الحديث مع أي شخص هنا.

تجمع أطفال العالم

وتعليقًا على إرسال اليابانيين لكمية من حقائب “راندوسيرو”، ضمن المساعدات الإنسانية إلى اللاجئين السوريين، قال السيد هيرويوكي أوبا، ممثل العائلة المالكة للشركة، “أنا سعيد لأن الأطفال السوريين، الذين يتعرضون لظروف في غاية الصعوبة، سيتاح لهم استعمال منتج بذل اليابانيون الكثير من الجهد لتطويره وتصميمه وصناعته. هناك الكثير من الأشياء التي تجمع بين أطفال العالم على مقاعد الدراسة، من أحلام وتساؤلات وفضول عارم وبذل الجهود للتعرف على العالم”.

وأضاف “من يدري، فقد تشكل تلك الحقائب إلهامًا لبعض الحرفيين السوريين الذين سمعت عن مستواهم المتميز لصناعة منتوجات شبيهة بها”.

راندوسيرو في أيادي تلامذة سوريا

كما سافرت حقائب “راندسيل” من الموانئ الهولندية إلى جزر اليابان، منذ أكثر من قرن ونصف، شاءت الظروف التي عصفت بسوريا أن تسافر حقائب “راندوسيرو” من موانئ اليابان إلى موانئ تركيا، ومنها إلى مناطق اللجوء السوري لتصل إلى أيادي الأطفال السوريين المهجرين. الفضل في ذلك يعود لعدد من الجمعيات الإغاثية اليابانية، ومنها جمعية التضامن السورية- اليابانية في مدينة هيروشيما، التي تحدثنا إلى مؤسسها المهندس باسم عبد الله.

باسم الذي ينحدر، من مدينة دير الزور السورية، حاز على الجنسية اليابانية بعد إقامة طويلة تخلّلها نيله لشهادة الدكتوراه من جامعة كيوشو وتأسيسه لشركة هندسية اختصاصية في اليابان. وعند انطلاق الثورة السورية تابع أخبارها بشغف ما لبث أن تحول إلى حزن وقلق عميق مع تعرض الشعب السوري لموجات من العنف الدموي، طال بعضها عددًا من أقربائه في دير الزور وحلب.

وكالكثير من السوريين الذين شعروا بالعجز عن التأثير في المشهد السياسي، قرر باسم أن يفعل ما بوسعه لتقديم المساعدة للاجئين السوريين في تركيا والنازحين في الداخل السوري. من هنا تأسست جمعية التضامن السورية- اليابانية والتي تعمل بحسب ما تسمح به الظروف الحياتية للمشاركين فيها من سوريين وعرب ومسلمين ويابانيين، لجمع المساعدات وإرسالها في شحنات بحرية إلى تركيا، حيث تسلّم إلى عدد من المنظمات المحلية التي تقوم بتوزيعها. الجمعية تنظم حملات تتزامن مع احتياجات اللاجئين، فهناك حملة لجمع الألبسة الشتوية في خريف كل عام لاستباق حلول الشتاء، وحملة لجمع القرطاسية واللوازم المدرسية في الصيف لمواكبة بدء العام الدراسي في أيلول. وفي سياق حملة القرطاسية بدأ الكثير من اليابانيين بإرسال حقائب “راندوسيرو” مستعملة بعد أن انتهى أطفالهم من الدراسة في المرحلة الابتدائية.

جسرًا ثقافيًا بين أطفال البلدين

يقول باسم إنه كان من المستبعد أن يستخدم تلامذة سوريون حقائب “راندوسيرو” في الأوضاع الحالية، ولكن الظروف أتاحت لبعض منهم التعرف على هذا المنتج الياباني المميز، والذي يعتبر علامة من علامات الحياة الدراسية في أي مدينة أو قرية يابانية. ويضيف أنه يتمنى أن تشكل تلك الحقائب جسرًا ثقافيًا بين أطفال اليابان وأطفال سوريا، فالمعاطف والأقلام غالبًا ما تتشابه في جميع البلدان، ولكن حقائب “راندوسيرو” تعتبر أشياء يابانية بامتياز، وربما يثير شكلها استغراب من تلقاها من الأطفال السوريين، خصوصًا إن علموا أنها ليست وليدة الصدفة بل هي ذاتها التي يستعملها كافة التلاميذ في أنحاء اليابان”.

رغم أن الظروف التي سمحت بعبور تلك الحقائب إلى مدارس السوريين ظروف بالغة القتامة والبؤس، بحسب باسم عبد الله، إلا أن اللمسة الإنسانية والرابط الثقافي بين البشر يشكل أحد خيوط الضوء الذي نتلمسه في الظلام. ومن يعرف حب السوريين للحرف اليدوية ومهارتهم فيها يتساءل إن كانت حقائب راندوسيرو ستحوز على اهتمام أحد ما في مخيمات اللجوء، وإن كانت الحكاية ستستمر بعد عودة السلام إلى سوريا بانتشار نوع جديد من الحقائب لأطفال المدارس فيها، نوع مستوحى من حقائب مدرسية يابانية جميلة وقوية، تمامًا كما نرغب أن تكون بلدنا في المستقبل.

 

توزيع حقائب راندوسيرو في المخيمات السورية (عنب بلدي)

توزيع حقائب راندوسيرو في المخيمات السورية (عنب بلدي)

توزيع حقائب راندوسيرو في المخيمات السورية (عنب بلدي)

توزيع حقائب راندوسيرو في المخيمات السورية (عنب بلدي)

توزيع حقائب راندوسيرو في المخيمات السورية (عنب بلدي)

توزيع حقائب راندوسيرو في المخيمات السورية (عنب بلدي)

توزيع حقائب راندوسيرو في المخيمات السورية (عنب بلدي)

توزيع حقائب راندوسيرو في المخيمات السورية (عنب بلدي)




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة