لا بيع ولا استضافة..

سكان دمشق مشغولون بتأمين قبورٍ تحمل “كنيتهم”

camera iconطفل يجلس بين شواهد قبور في مقبرة في دمشق - 29 أيلول 2015 (AFP)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – ر. ك

اجتاز تفكير بعض سكان دمشق حاجز تأمين متطلبات الحياة اليومية، وتعدى ذلك ليبلغ أفق الموت وما بعد الموت، في ظل ما تشهده البلاد من ارتفاع في أسعار القبور شغل تفكير من لا يملكونها، متأملين باستضافتهم في قبور أقربائهم ومعارفهم.

إلا أن ما خالف توقعاتهم وزاد الطين بلة توجيهات صادرة عن محافظ دمشق، بشر الصبان، في أيار الماضي، منعَ بموجبها صاحب القبر من استضافة أي ميت لا ينتمي لعائلته ولا يحمل نفس كنيتها.

“السكن الأبدي” على لائحة “تحديات” المواطن السوري

في وقت تشهد فيه سوريا ارتفاعًا ملحوظًا بعدد الضحايا نتيجة الحرب، زادت أيضًا نسبة الوفيات الطبيعية في المناطق “الآمنة” لتصل إلى 70% من مجمل الوفيات في البلاد، بحسب تصريح رئيس الهيئة العامة للطب الشرعي، حسين نوفل، لصحيفة “الوطن” المحلية، في حزيران 2016.

وأوضح نوفل أن السبب هو الضغوط التي يتعرض لها المواطن بسبب الأوضاع الراهنة في البلاد، وخسارة عدد كبير من المواطنين لمنازلهم وعقاراتهم وأموالهم، ما أدى إلى نشوء عوامل الجلطات القلبية والدماغية.

ورغم غياب الإحصائية الرسمية عن متوسط عدد الوفيات في العاصمة السورية، أوضح مدير مكتب دفن الموتى السابق، حسام النقطة، للصحيفة نفسها، أن عدد الوفيات في دمشق يتراوح يوميًا بين 18 و50 وفاة بمعدل متوسط يومي يبلغ 25 وفاة.

هذا الارتفاع الملحوظ بأعداد الموتى في دمشق يقابله عدم توفر عدد مناسب من القبور الفارغة، رغم تجاوز عدد مقابر العاصمة 33 مقبرة تحوي ما يزيد عن 100 ألف قبر في كامل المدينة، ما شكل تحديًا كبيرًا للمواطنين، في إمكانية تأمين قبر، قيّده قرار محافظة دمشق بمنع الاستضافة في القبور.

عمليات “احتيال” طالت مقابر العاصمة

وأثارت توجيهات منع استضافة الغرباء في القبور جدلًا واسعًا هزّ أرجاء العاصمة، وسط حيرة الأهالي ممن لا يملكون قبورًا فيما سيحل بهم بعد موتهم.

المواطن السوري فؤاد الدبس، قال لعنب بلدي، إن توجيهات المحافظة رغم عدم صدورها رسميًا إلا إن كافة مقابر دمشق بدأت بتطبيقها فعليًا، بحصر استحقاق الدفن في القبر بين أبناء العائلة الواحدة الذين يحملون نفس الكنية (الأصول والفروع).

وأكد الدبس، وهو مالك لقبرين في مقبرة باب الصغير بدمشق، أن دفن الميت أصبح يتطلب تقديم ذويه بيانًا عائليًا يثبت أن الميت من نفس عائلة مالك القبر، كما يتطلب شهادة شخص أو شخصين من الورثة الشرعيين للقبر.

وأضاف أن استخراج البيان العائلي “قد يؤدي إلى تأخير دفن الوفية بسبب بطء معاملات الدولة، وإمكانية أن يصدف دفن الميت في العطل الرسمية”.

إلا أن مدير مكتب دفن الموتى، محمد حمامية، قال في لقاء مع راديو “شام إف إم” المحلي، إنه بإمكان أهل المتوفى تقديم دفتر عائلة في حال تعذر الحصول على بيان عائلي، مؤكدًا وجود توجيهات من المحافظة بتخصيص نافذة في مكتب دفن الموتى لاستخراج البيانات العائلية منها في كافة أيام الأسبوع.

وفيما بررت محافظة دمشق أن توجيهاتها تصب في مصلحة المواطنين لتجنب الاحتيال عليهم، أكد المواطن فؤاد الدبس تزايد حالات التلاعب والمتاجرة بالقبور من قبل بعض الأشخاص، مستغلين تزايد عدد الوفيات وقلة القبور الفارغة.

وأشار إلى أن البعض يلجأ إلى تأجير القبر لدفن جثة أحد أقربائه، من غير الفروع، بـ 100 ألف ليرة سورية سنويًا (200 دولار تقريبًا) إلى حين دفن شخص آخر فوق الجثة.

في حين استغل البعض، من أهالي أحد المُستضافين في قبر، وجود أصحابه خارج القطر ونقل ملكيته لاسمهم عبر تزوير أوراق الملكية، حسبما قال الدبس.

قوانين “صارمة” لبيع القبور

تعتبر وزارة الأوقاف السورية أن القبور في دمشق “ليست سلعة” ولا يمكن بيعها وشراؤها، بحيث تكون كافة مقابر العاصمة ملكًا للأوقاف، وللمواطنين “أحقية الدفن” فيها تبعًا للوفية الأولى في القبر.

ويشدد القانون السوري على مسألة ملكية القبر بتحديد الأشخاص الذين لديهم أحقية الدفن فيه، حسبما قالت محامية في دمشق لعنب بلدي، فضلت عدم ذكر اسمها، مشيرةً إلى أن المرسوم التشريعي رقم 25/ص في القانون السوري يمنع دفن “الغرباء” الذين لا ينتمون لعائلة مالك القبر.

وتُحدَّد ملكية القبر عادة حسب الوفية الأولى فيه، بحيث تنتقل إلى من يرثها بالعصب من الذكور مع الاحتفاظ بحق الإناث، ولا يسمح القانون استضافة أي جثة ليست من الورثة الشرعيين للقبر.

إلا أنه ومنذ عقود “حصلت تجاوزات في القانون السوري”، تقول المحامية، وذلك عبر السماح لورثة القبر باستضافة ميت ليس من عائلتهم، وأصبحت فكرة الاستضافة أحد الأعراف السائدة في دمشق وتعبّر عن “كرم الضيافة” عبر تفريج هم أهل الميت ممن لا يملكون قبورًا.

وفي هذه الحالة يحضر إلى مكتب دفن الموتى وريثان شرعيان ليسا أخوين، ويوقعان على تصريح استضافة المتوفى في قبر مورثهم، وبعد خمس سنوات تعود أحقية القبر إليهم ولا ينتقل حق الدفن إلى ورثة المتوفى المستضاف.

ويمنع القانون السوري بيع القبور بالكامل، في حين يسمح بالتنازل عنها ولكن ضمن الورثة الشرعيين، إلا أن المواطنين يبيعونها بين بعضهم خارج إطار المحكمة، ثم يتنازلون عن القبر في مكتب دفن الموتى بحجة أنه تنازل دون مبلغ مادي، ويحصلون على حكم قضائي بنقل الملكية.

وتشير المحامية إلى أنه وبالرغم من انزعاج مواطنين من “منع الاستضافة”، إلا أنه يحمي الكثيرين من عمليات “النصب والاحتيال”، لافتةً إلى ارتفاع عدد دعاوى تثبيت ملكية القبور في محاكم دمشق.

أسعار باهظة للقبور.. و”نجها” هي الحل

في وقت يفترض فيه أن ينشغل أهل الميت بمصابهم، إلا أنهم ومن منطلق تكريم ميتهم بصورة لائقة ينشغلون في تأمين قبر له داخل أسوار المدينة، والتي وصل سعر القبر فيها إلى مليون ليرة سورية (2000 دولار تقريبًا).

وتختلف أسعار القبور في العاصمة حسب المقبرة ومكانها، كون الأسعار غير محددة بالقانون السوري الذي يمنع البيع، بحيث تبدأ من 500 ألف ليرة سورية وقد تصل إلى 1.5 مليون ليرة، حسبما قال المواطن فؤاد الدبس لعنب بلدي.

وتعتبر مقبرة باب الصغير، القريبة من حي الشاغور، ومقبرة الدحداح في شارع بغداد، من أغلى مقابر العاصمة، وفيها يتجاوز سعر القبر حاجز المليون ليرة سورية، ويباع ضمن ما يُسمى “سوق سوداء”.

إلا أنه وبسبب الظروف الاقتصادية المتردية التي يعيشها المواطنون في دمشق، أصبح من الصعب عليهم تأمين سعر قبر يفوق إمكانياتهم المادية في كثير من الأحيان، متأملين باستضافتهم في قبور معارفهم.

ومع قلة الخيارات المتاحة أمام سكان دمشق، بعد قرار منع الاستضافة، لم يبقَ أمام أهل المتوفى سوى دفنه في مقبرة “نجها” التابعة لريف دمشق والتي تبعد 13 كيلومترًا عن مركز المدينة، وهي تابعة لوزارة الأوقاف وأسعار القبور فيها رمزية.

وتتسع مقبرة “نجها” لقرابة 42 ألف قبر، ثلاثة آلاف منها فارغة، بحسب إحصائيات مكتب دفن الموتى لعام 2016.

إلا أن معظم سكان دمشق لا يرغبون بدفن موتاهم في “نجها” بسبب بعدها عن مركز المدينة، ما يعرقل زيارة قبور موتاهم باستمرار، بالإضافة إلى عادات مجتمعية تتعلق بدفن الميت ضمن مراسم “لائقة” بالفقيد وأهله.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة