العيد وفاتورة الفرح

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

عيد آخر يمر على السوريين وهم تحت العذاب، النظام يقصفهم وهو مختبئ خلف لحية الإيراني طوال النهار، وفي المساء يحتسي الفودكا مع الروسي الهائج، والعالم يتجاهل مآسيهم، والأمم المتحدة كفت حتى عن القلق فبان كي مون أخذ قلقه معه وخرج تاركًا الصمت والتجاهل لمأساة السوريين المتجددة.

لكن العيد لا يقف أمام المعوقات، ولا يخذل الأطفال الذين يستعدون له، والسوريون جديرون بالفرح وبالحياة رغم كل الصعوبات، ورغم كل التغييرات التدميرية التي فرضها النظام على ساحات العيد ومواطن الذكريات السورية.

النظام وخلال دأبه التدميري استطاع أن يغيّر المدن السورية عبر القصف والهدم والتهجير، كما غيّر خرائط الأجساد البشرية بالتعذيب، وساق السوريين الذين ظلوا في ظلاله إلى خوف مستديم، يحني الرقاب أمام الحواجز والتفتيش والتخوين الذي صار مركبًا من مركبات الهواء والماء.

التكبيرات الجميلة التي كانت تنطلق في صباح العيد وتبهجنا، استولى عليها الدواعش ويحاولون تحويلها إلى شعارات للذبح وللتكفير، ولتوزيع تهمة الردّة على من يشاؤون.

المعتقلون مايزالون وحيدين في مجاهل أقبية التعذيب، يصارعون العذاب والجوع والذكريات، ويرتعدون لحظة مجيء الجلاد الذي يمنع أي تجلٍّ للعيد وللفرح في ظلمات السراديب الكثيفة، ولكنهم يهمسون بالتكبيرات المتناغمة التي تعلن العيد في الشوارع والبيوت والمهاجر، ويحاولون التقاط لحظة أمل بالخلاص.

المهاجرون والنازحون تطغى على مخيلاتهم ظلال بيوتهم، وذكريات زيارات الأقارب، وتبادل العيديات والتفاخر بالثياب الجديدة، أما الأقارب فقد تشتتوا في البلاد وفي بلدان الجوار، وتناثروا في القارات التي حملتهم إليها مراكب العذاب والموت، ولم تعد الثياب الجميلة تنتظر الزيارات السعيدة، والشوارع ردمتها طائرات النظام بركام الأبنية المدمرة، ولم تعد صالحة لبهجة الأطفال، ولا للقاء الأحبة والجيران، وشوارع الغربة ماتزال غير مألوفة، ولا تشاركهم الفرحة بالعيد، بل تسأل ما معنى هذا العيد، وكيف لا يكون مثل أعياد البلاد الغريبة التي تفاخر بتراثها الخاص، ولا تملك فسحة من الزمن لتفهم ما معنى أعياد المهاجرين ومتطلبات فرحهم، ولا تعرف كيف تسد الهوة الكبيرة المفتوحة في ذاكرتهم التي تنزف لحظات الفرح وذكريات الأيام الجميلة التي تم قصفها في بلادهم البعيدة!

لكن العيد يلحّ على دفع فاتورة الفرح بالابتسامات، فالأطفال يريدون أن يلعبوا وهم غير آبهين بالحزن، ولا بالذكريات التي تكتنف آباءهم وأمهاتهم، يريدون أن يشقوا طريقهم في جدار الغربة الأصم وهم عازمون على صناعة ذكرياتهم الخاصة وأفراحهم الخاصة، ومستقبلهم الذي لن يتخلوا عن بنائه، إنهم يريدون أن يلعبوا في يوم العيد السعيد، حتى أولاد الشهداء يبحثون عن لحظة فرح، يسدون بها هوّة الذكريات والحنين لآبائهم أولأمهاتهم، ويتوسلون الفرح بلحظة لعب أو غناء أو بمجرد الركض في الشوارع وفي الحدائق ولو كانت مقفرة.

رغم زنزانات الاعتقال والتعذيب، ورغم المآسي التي لم تَعد تُعد أو تُحصى، فليس للسوري اليوم غير الإصرار على الحياة ورفض الموت، ليس له أن يترك البلاد للشبيحة والدواعش ويعلن موته، يجب أن ينتزع ولو لحظة فرح تكفيه هو وأولاده وجيرانه السوريين، مهما كانت البلاد بعيدة، ومهما كانت الأوضاع قاسية، فالموت لا يليق بثورة الحرية ولا يليق بوقوفنا أمام الظلم والاستبداد والتكفير، فالبلاد لنا، وليست للطاغية، ولا للداعشي، ولا للطائرات التي تتقاتل فوقنا، سيذهبون جميعًا ويتركون بلادنا لنضمد جراحها.. سيذهب الطاغية، وآيات الشيطان، ومافيات بوتين، ومختلف أنواع التكفيريين من العيار الثقيل أو الخفيف، ستذهب الميليشيات الإيرانية إما إلى بلادها أو إلى المقابر، ونحن وحدنا من سيعيد ألق البلاد وزهوتها مهما كانت الأثمان غالية، ومهما كانت الصعوبات ثقيلة.

صباح العيد تمتلئ شوارع الفيس بوك، وحارات التواصل الاجتماعي بالمعايدات وبالمباركات، وبالتئام شمل الأحبة على السكاي بي، وتعود الابتسامات والسلامات وصياح الأطفال المبتهجين بالأعياد، وتختلط عبر المسافات داخل الوطن، وفي دول الجوار، وعبر القارات البعيدة، يتدفق الفرح غامرًا النفوس، والبيوت المتباعدة، بعدما كانت شديدة الالتصاق ببعضها، وتفرح الأمهات والآباء والأطفال، رغم أجواء الحزن والخراب والتدمير، التي يعمل النظام وشبيحته لفرضها على السوريين من أجل أن يبقوا راكعين للأسد الذي يستمر بحرق البلد.

نستسلم لنغمة تكبيرات العيد الجميلة، واللطيفة، والمتكررة بانسجام بين المصلين، وبين المارين في الشوارع، والمتصلين على الفيس بوك، والعابرين في شوارع التواصل الاجتماعي المترابطة عبر العالم، تنتشي نفوسنا صباح العيد وتنسى قهرها، وأحزانها ولو لساعات قليلة، يصل الفرح الى السوريين من مدنهم وبلداتهم المنكوبة، وينتشر عبر العالم ليصل الى الأردن وتركيا ولبنان ويتناثر ملونًا حتى يصل الى السودان وأوروبا والقطب الشمالي و أمريكا الجنوبية، والى كل الأماكن التي اختارتها المنظمات والدول لإبعاد السوريين عن بلادهم التي تحولت الى مرتع للموت والدمار والتعذيب!

ليس لنا إلا الفرح وليس لنا إلا نشوة السعادة في صباح العيد، ليس لنا إلا معانقة الحياة رغم الموت المخيِّم على بلادنا، وعلى معتقلينا ومحاصرينا، وعلى أهلنا.. الفرح هو دواؤنا الذي لا بد منه لشفاء أرواحنا المحاصرة بالموت وبالخراب.

الأطفال ينتظرون منا الابتسامة صباح العيد، وليس البكاء، ولا الصمت والوجوم، إنهم يكبرون بالفرح، وبحب الحياة، فعلينا أن نطوي مآسينا ونتجرع مراراتنا، ونشاركهم الفرح والضحك واللعب، ونتبادل السلامات مع الأهل والأحبة الذين نستطيع التواصل معهم عبر العالم، على أمل اللقاء القريب!




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة