إلى فدوى سليمان

محمد رشدي شربجي

camera iconمحمد رشدي شربجي

tag icon ع ع ع

محمد رشدي شربجي

في دراسته المنشورة بعنوان “عن المثقف والثورة” يشرح عزمي بشارة منشأ مصطلح “مثقف” في الثقافة الغربية، ويبين أنها صفة أطلقت على العاملين في مجال الفكر والأدب، الذين اتخذوا مواقف من الشأن العام في فرنسا في القرن التاسع عشر بصفة كونهم مثقفين، وقد استخدمها لاحقًا النقاد بكثافة في وصف دور إميل زولا ومن معه من المثقفين في سياق توقيعهم عريضة سياسية انتقدوا فيها العداء للسامية الذي رافق محاكمة الضابط اليهودي الفرنسي درايفوس (1894-1899) وفبركة الأدلة في محاكمته، ومن ذلك الحين ارتبط المصطلح برفض الواقع السائد وتغييره من منظور المذلين المهانين، أي “الشعب”.

ثم يشرح بشارة نظريته عما يسميه “المثقف العمومي” وهو المثقف المتعمق باختصاص محدد مع اطلاع في مجالات وتخصصات أخرى، والمهتم بنفس المقدار بقضايا مجتمعه.

ثم يرى أن امتحان هذا المثقف في الحالة العربية يبقى كامنًا في عدم الانزلاق إلى رفض التعامل مع الثورة كثورة لأنها فاجأته، أو لأنها لم تُفصّل على مقاسه، أو مقاس توقعاته من جهة، وفي عدم التورط في إصدار أحكام رومانسية على الثوار من جهة أخرى، حتى لكأن المشهد يتألف من أخيار في صراع مع الأشرار، ليس المظلومون فيه أخيارًا بالضرورة، ولا يتألف نظام حكم ظالم من أشرار بالضرورة.

لقد كانت فدوى سليمان من هذه الفئة، التي لم ترَ طريقة من التأثير بالثورة إلا الانخراط بها، كانت خطوة صعبة حد الاستحالة، ففي ظل إطلاق الرصاص على الثائرين على الاستبداد، لا يتفهم أحد النقد كتمرين ذهني مثلًا، بل يتم التعامل معه كهجوم من معسكر النظام، لقد أدركت من حينها أن الطريق الوحيد لنقد الثورة والاضطلاع بدور المثقف العمومي تجاهها، هو اتخاذ موقف حازم إلى جانبها.

لم يكن من الصعب على كل متتبع لمسار الثورة السورية أن يعرف إلى أين تتجه سوريا مع رصاص لا ينتهي من طرف النظام وخطاب طائفي وجد له أرضية أوسع نتيجة لذلك، لكنهم قليلون جدًا أولئك الذين تحركوا لفعل شيء لإيقاف هذا السيل، كثر تحدثوا سرًا أو علنًا وأشبعوا الدنيا كلامًا، ولكن فدوى قررت التسلل ليلًا إلى حمص عاصمة الثورة السورية في سنواتها الأولى لمشاركة المتظاهرين هناك آلامهم وآمالهم.

لم تنجح محاولاتها كما هو معلوم، ولكنها استطاعت تأخير مسار مدمر على الأقل، لساعات؟ لأيام؟ لأسابيع؟ لا أحد يعرف، ولكن لا يجب أن ننسى أنها فرد واحد استطاع أن يفعل كل ذلك، انتهت الثورة في حمص خلال السنوات التي تلتها، وخرج ثوار حمص في مشهد تكرر في مدن سورية عدة، وكما هي حال فدوى التي رحلت وحيدة في باريس، هو حال الساروت الذي خرج إلى شمال سوريا يتخطّفه أخوة المنهج وضيق العيش. رحلت فدوى ومازال دريد لحام يفتك فينا.

في ورقته سابقة الذكر، ينتقد بشارة نزعتين انتشرتا مؤخرًا بين عدد من الكتاب العرب وغير العرب، والنزعة الأولى تلخص بكلام إدوار سعيد: “المثقف الحقيقي غريب أو خارجي يفرض على ذاته المنفى على هامش المجتمع”، أما الثانية فهي “توقع النقدية من الأدباء والفنانين”، فنحن نتوقع موقفا “ضميريًا” و”إنسانيًا” من الناس العاملين في مجال الأدب والفن، أو في مجالات العلوم الإنسانية، وهو توقع في غير مكانه بحسب بشارة، لكنه يقول شيئًا “عنا” وليس بالضرورة “عنهم”.

لقد كانت فدوى تشبهنا “نحن” المعذبون في الأرض، الهائمون على وجوههم في أصقاعها، المقتولون من الإرهاب والحرب على الإرهاب، أصحاب الأحلام الكبيرة التي لا يفوقها حجمًا إلا حجم مآسينا، لروحها السلام.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة