هل تُسجن "أرامل الشهداء" اجتماعيًا

هل تُسجن “أرامل الشهداء” اجتماعيًا

camera iconامرأة سورية تمشي أمام جثة مقابل دار الشفاء في مدينة حلب - 10 تشرين الأول 2012 (AFP)

tag icon ع ع ع

 عنب بلدي – صبا الكاتب

لأجل طفلتها البريئة، دفنت غدير قلبها في قبر زوجها محمد، وسافرت من ماضي ذكريات جميلة أمضتها معه، إلى عالم من كانت تعتبره أخاها الصغير، وأصبحت حينها “زوجةً لأخ زوجها”.

غدير شابة في العشرين من العمر، من ريف أريحا الجنوبي بمحافظة إدلب، تداعت عليها المصائب سراعًا إثر مقتل زوجها، وزاد عليها حملها الذي كان في شهره الأول.

“كان زوجي يدرس بجامعة حمص وفي آخر سنة له، استشهد إثر تفجير سيارة مفخخة”، تقول غدير، موضحة أنها اضطرت لقضاء “العدة” في بيتها، “أمضيت عدتي في بيتي حاملة طفلي ببطني تسعة أشهر، وأنا أدعو ربي أن يرزقني رجلًا يحمل اسم أبيه ويدافع عني في أيامي المرّة المقبلة”.

ولدت غدير، ولكونها صغيرة في العمر اضطرت أن تغادر بيت زوجها، وتعود لأهلها حاملة معها همومًا ثقيلة وطفلة صغيرة أسمتها وفاء.

السجن المركزي للعادات والتقاليد

تحكم المجتمع السوري عادات وتقاليد ماتزال تلقي بكاهلها على أكتاف مظلومين، حكم على حياتهم بالسجن المؤبد فيها، من هذه العادات زواج الأرملة من أخ زوجها المتوفى (السِّلف).

فالمحافظة على الأسرة من الضياع وحماية الأطفال من “التشرد”، واتباع المثل الشهير “القريب أولى من الغريب”، مبررات عديدة لزواج يحدد نمط حياة المرأة دون مراعاة لرغباتها أو مشاعرها، بل وأحيانًا بعدم الإصغاء لرأي أخ الزوج نفسه في رسم حياته، والتي يتولى الإمساك بقلمها أسرته أو محيطه.

انتشر هذا النوع من الزيجات في سوريا وامتد ليصل إلى بلدان اللجوء خارجها، فالحرب الممتدة على سبع سنوات جعلت نسبة وفاة المدنيين من الرجال تقفز لتطال حدود 162 ألفًا، موثقين بالاسم بحسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، إلا أن غياب الإحصائيات الرسمية لأعداد أرباب الأسر من بين الضحايا الرجال، تجعل لشهادات أناس عايشت هذه التجربة أو سمعت بها الدور الأبرز في إثبات وجودها.

بين الضحايا معتقلون غيّبت السجون أرواحهم داخلها، ومنهم من طالتهم يد القنابل والمتفجرات سارقة أنفاسهم، ليرحل الزوج ويترك للمجتمع تقرير مصير عائلته من بعده.

أهل الزوج لا يسمح لأولاد ابنه المتوفى أن تطالهم يد الغرباء، فيضعون والدتهم في مفترق طريقين “أحلاهما مرّ”، فإما الزواج من أحد إخوة زوجها السابق، أو الخروج عن مظلة العائلة الكبيرة وتأسيس حياة جديدة لها خاليةً من أبنائها.

أما عائلة الزوجة فترى أن الثقل المادي والاجتماعي سيلحق بها حال وفاة الزوج، فالحرب أتعبت جيوب بعض العوائل السورية، وعودة ابنتهم لحضنهم، خاصًة في حال وجود أطفال لها، يزيد من هذا الإرهاق المادي، أما فرضية زواجها من جديد فهو خيار اجتماعي محبّذ عندهم، وبالتالي لا مانع لديهم ويرحبون بهذه الحالة بزواجها من أخ زوجها.

هذه العادات رسختها قرارات لجهات فرضت نفسها في مناطق من سوريا، كحال قرار لحكومة “الإنقاذ” في إدلب، الأسبوع الماضي، منع “أرامل الشهداء” من السكن لوحدهن، وطالبهن بوجود محرم تحت المساءلة “الشرعية والقانونية”.

قبول على مضض

لم تطل فترة بقاء غدير في بيت أهلها، إذ بدأت المشاكل تستعر، بحسب ما أخبرتنا، بين عائلتها وعائلة زوجها التي لم تقبل أن تعيش حفيدتهم بعيدة عنهم، وقالت “لذلك طلبوني للزواج من ابنهم الأصغر مني بثلاث سنوات”.

وبدأت الحيرة تشغل بالها وخاصةً أن والدها مصرّ على هذا الزواج، وبحكم أن زواجها أمر لا مفرّ منه في جميع الأحوال، لم تجد “أم وفاء”، حلًّا سوى قولها “رغم أن قلبي لا يتسع إلا لشخص واحد، لكني مجبرة على هذه الحياة فهذا هو الحل الأنسب لحياة طفلتي، وبذلك تترعرع بين ذراعي، وتكون الذكرى الوحيدة التي أصونها لزوجي”.

أبت المشاكل مغادرة حياة غدير، بل تنامت يومًا بعد يوم بعد زواج أُجبر طرفاه على القبول به، فحال غدير لم يكن بأسوأ من حال زوجها الجديد، الذي كانت حجة لم شمل عائلة أخيه تؤرق باله، ومصير ابنة أخيه الشهيد متعلق بجوابه، فمضى العم إلى حياته الجديدة بـ “قبول على مضض”.

قبول عمّ وفاء الصغيرة بالزواج، يماثل مواقف عدد من الشباب الذين ترغمهم على هذا الزواج أحيانًا عواطف جياشة تجاه أطفال قتل آباؤهم وأصبحوا بدون معيل، أو ربما عادات وتقاليد لا تبرح تذكرهم بواجب ملزم لا هروب منه، بل وأحيانًا استغلال لميراث ربما يضيع بين أيادي أناس لا يستحقونه وهم أولى به، بحسب رأيهم.

كثير من هؤلاء الشباب (أشقاء الزوج القتيل) كانت لديهم عائلاتهم وأبناؤهم أو كانوا عازبين يرسمون معايير زوجة مستقبلية، تختلف تمامًا عن زوجة أخيهم، لكن مقتل أخيهم غير هذه المخططات أو أفسد حياتهم الزوجية السابقة.

تبعات الزواج النفسية والتربوية

ورغم أن الشرع والقانون لا يمانع من زواج المرأة من أخ زوجها في حال انقضت العدة الواجبة عليها، إلا أن للإخصائية في علم الاجتماع، أماني سندة، رأيًا مخالفًا، فمن خلال الحالات التي شهدتها في الداخل السوري، حينما كانت تعمل مديرة حماية الطفل وإدارة الحالة في الهيئة الطبية الدولية، رأت أن معظم هذه الزيجات تتم بالإجبار وفي جميع هذه الحالات كان هناك أطفال يرفض أهل الزوج تربيتهم خارج نطاق عائلتهم.

فالمرأة، بحسب أماني، هي الضحية الأولى في هذه المعادلة عندما تركض إليها المشاكل العاطفية منذرة إياها بعدم وجود أي مشاعر أو عاطفة تجاه زوجها الجديد، وينشأ عنها بالتالي “انفصال عاطفي” يولّد البحث عن بديل يوصل إلى محطة الانحراف، وفي حال ذاعت قصتها في المجتمع ينتج عنها مشاكل أسرية وعائلية، أما في حال بقاء مشكلتها حبيسة جسدها تبدأ قصة الصراع الداخلي الذي يتنازع فيه الشعور بالذنب مع الإحساس بالجفاف العاطفي مع الزوج.

والأمر نفسه ينطبق على الزوج المجبر على هذا النوع من الزواج، فهو لا يتبادل مع زوجة أخيه السابقة أيًّا من هذه المشاعر، ما يدفعه إلى الانحراف أو سلوك طريق زوج غدير، الذي تزوج من امرأة أحلامه “ضرة” على غدير، وأرجع بذلك صفحة الآلام والأوجاع وبدأت “مشاكل الضرائر”.

الضحية الصغرى

يعتبر الجو العاطفي حجر الأساس في الأسرة، فالأطفال بحسب الخبيرة في علم الاجتماع، يكونون مدركين تمامًا في ذلك الوقت غياب رائحة العاطفة داخل الأسرة من الطرفين، فالأم لا تتبادل مع زوجها أي مشاعر، وكذلك العم، وما يزيد السوء في الأمر وعي الأطفال إلى أن رب الأسرة هو ليس والدهم الحقيقي المتوفى.

ومن الكلمات المتداولة على ألسنة أطفال عايشت الخبيرة حالتهم، “بابا استشهد وماما تزوجت عمي وأنا ما بحب عمو”، فسهام الاضطرابات النفسية والمشاكل ليست ببعيدة المنال عن إصابة هؤلاء الأطفال بها، وستظهر نتائجها في المستقبل بسبب فقدان الحب والحنان.

ومن ضمن هذه المشاكل ما يشبه “الوصمة النفسية”، فالانطواء على الذات والخجل من المحيط الاجتماعي ومن الاعتراف بواقعهم أمام المجتمع، بأن الوالد متوفى والأب الموجود هو ليس الأب الحقيقي، أفكار كثيرة تدور في بال أطفال يتوقع من العنف أن يأخذ طريقًا سريعًا إليهم.

أوجاع المجتمع منه وإليه

أساس المجتمع هو الأسرة، وأطفال اليوم هم بناة الأسرة المستقبليون، ومعايشة الأطفال لهذه الحالات تجعلهم يقلدون الأساليب نفسها التي شهدوها في حياتهم، وبالتالي فهم غير قادرين على تشكيل أسرة متكاملة أو صحيحة بالمعنى الفعلي.

وبحسب الخبيرة أماني، فإن صورة الأسرة الحالية للطفل غير سليمة، ما يُنشئ انتشار أمراض الفشل الاجتماعي من تفسخ وانحراف وصولًا إلى عدم وجود علاقات اجتماعية صحيحة، أقلها الخلافات الحاصلة بين أهل الزوج وأهل المرأة التي عادةً تكون قديمةً قدم العلاقة الإلزامية نفسها.

هوت الضغوطات والهموم على زوج غدير، فحل مرض الصداع عليه آخذًا من جسده صحته وعافيته، وفقد إثر ذلك عمله، فأجبرت “أم وفاء” على العمل بالخياطة “أصبحت الخادمة والمعيلة المسؤولة عن جلب المال لزوجي وطفلتي وعائلته الثانية”، حسب قولها.

تبكي غدير وهي تخيط ثوبًا تنتظر أجرته بفارغ صبرها، فالعائلات جياع وتنتظر جسدها الضعيف ليزودهم بلقمة العيش.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة