نريد قبورًا نبكي عليها

camera iconمقبرة مدينة دوما في الغوطة الشرقية (رويترز)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – عهد مراد

“يا ريتو مخطوف عند النصرة أو داعش يا ألف ريت لو خاطفتو شي عصابي!!”.. لم أكن محتاجًا لأن أسمع هذه العبارة من أم مكلومة لأفهم حجم القهر الذي تعيشه، أو لأتفهم غضبها ومقداره، بالقياس مع العجز الذي يصيبها، فمنذ أن اعتقل النظام ابنها وهي تحاول الحصول على معلومة واضحة عن سبب اعتقاله، ثم تحول البحث من “ما هو سبب الاعتقال” إلى “أين اعتقلوه وفي أي مكان هو موجود الآن”، وككل أهالي المعتقلين، بعد فترة تطور السؤال إلى “هل هو حي أم ميت”، لنصل للسؤال الأكثر مرارة والذي تكرر مع أعداد كبيرة من أهالي المعتقلين.. “أين الجثة؟!”.

هذه الأسئلة، والتي تنتهي بعدم الحصول على الجثة ولا حتى على الخبر اليقين، هي وراء تمنيات تلك المرأة، “يا ريتو مخطوف عند شي عصابي”، لأنها باتت تحمل يقينًا بأنها تستطيع التفاوض مع العصابات بسهولة أكبر، فقد شاهدت بعينها كيف باعت إحدى عصابات الخطف في السويداء جثة المخطوف لذويه بمليونين ونصف المليون ليرة سورية، ولاحظت كيف سارع ذوو المغدور إلى دفع المبلغ ليحصلوا على الجثة، عندها تخيلت للحظة: لو أن النظام يفكر كهذه العصابة، “لو يبيعني جثة ابني، لكنت حظيت بقبر له أستطيع البكاء فوق شاهدته!”.

هذه هي الحقيقة، لربما، وعلى الرغم من هول الكارثة التي تصيب البلاد من سقوط القيمة وانهيارها، وعلى الرغم من أن المجرم صار يعلن جريمته على الملأ ويبيع المخطوفين أحياءً أو جثثًا، يتمنى أهالي المعتقلين لأولادهم قدرًا بين أيدي هذه العصابات لكي يستطيعوا أن يشتروا أولادهم.

حضرت مرة اجتماعًا حول المعتقلين والمخطوفين، حاول فيه أحدهم تعديل بند حق “معرفة المصير”، وجاء فيه “ينبغي على جميع أطراف الصراع الكشف عن مصير المعتقلين والمختفين قسرًا والمختطفين لديها”، وطلب هذا الشخص، وهو حقوقي، إضافة كلمة “بالمجان”، كان مرعبًا أن يتخيل شخص أنه بحاجة إضافة كلمة “بالمجان” إلى هذا النص، ولكن هذا تمامًا ما يعبر عن أي حال وصلنا إليه، فالمعتقلون والمختفون قسرًا والمفقودون والمخطوفون لم يعودوا فقط على بازار المفاوضات السياسية في جنيف، بل صاروا على الطاولة العسكرية في أستانا، واستمروا على ساحة الابتزاز المادي في كل مساحة في البلاد.

الابتزاز المادي، الذي انجرت وراءه آلاف الأسر، يتم من خلال أشخاص وليس بواسطة القانون، أما نحن، فلضمان حقنا، قد نحتاج لقانون ينظم عمليات بيع جثث معتقلينا، أو حتى المعلومات عنهم، وأن لا يترك هذا لضباط يأخذون المال ويخذلوننا.

ماذا إذًا؟ نحتاج لفكر العصابة، نحتاج لأن يرأف هذا النظام بنا ويكون عصابة أقل احترافًا، وأن يبيعنا جثث أبنائنا، “كي نحظى بقبور نبكي عليها!”، هو لن يخسر شيئًا على الإطلاق، فهو لو فعل وباع الجثث، سيجني عشرات المليارات، وقد تساعده على إعادة الإعمار! فتعمّر جثثُ أولادنا هذه البلاد المهترئة، لم لا؟ لقد تمت الجريمة، وإن استثمرها اقتصاديًا فإن أمًّا من حقها أن ترتدي الأسود حدادًا على ابنها، ستفعل هذا، إن يفعلها فإن أمًّا تنظر طوال الوقت لصورة ابنها المعلقة على الحائط غير معترفة بموته ستتجرأ وتضع شريطًا أسود على صورته وتبكيه أمام الجميع، إن يفعلها فإن أمًّا تقف كل يوم أمام النافذة متوقعة عودة فلذة كبدها ستستبدل هذا الوقوف بزيارة إلى القبر، إن يفعلها سيحمي عقول الكثير من الأمهات من الضياع والخرف المبكر.

فليفعلها، أقسم إن يفعلها ستجد الناس طوابير تنتظر شراء جثث أولادها، سيحملون الجثث فرحين ويحفرون القبور وهم يشعرون بالفرج، ويهيلون التراب على أحبائهم وهم يعيشون الخلاص.

حقًا أنا لا أمزح، تعالوا نطلق حملة نقول فيها إننا نريد شراء جثث أبنائنا، نريد دفن أحبائنا كما يليق بوجعنا، نريد منك أن تكون عصابة تعمل لأجل المال فقط لا لأجل السلطة، وإن كنت تخجل أن تعلن عن فعلتك، اختر وسيطًا تسلمه الجثث ونسلمه المال.. فنحن لا نريد الآن إلا قبورًا نبكي عليها!




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة