تعا تفرج

عَلَم بلادي ليس مرفوعًا

tag icon ع ع ع

خطيب بدلة

في مدينة الريحانية التركية القريبة من الحدود السورية، ربيع سنة 2013، تشاجرَ شاب سوري مع شاب تركي في المقهى، فخرجتْ، على إثرها، مجموعة من الشبان الأتراك مارسوا أعمال شغب بحق بعض المواطنين السوريين، وفي قسم الشرطة أراد أحدُهم ابتزازَ عاطفة رجال الشرطة فقال لهم إن الشاب السوري أهان العَلَم التركي!

أتذكر هذه الحادثة وأنا أرى البلاد السورية مكتظة بالأعلام، وأفترض أن رئيس قسم الشرطة في أحد أحياء دمشق، مثلًا، إذا جاءه مَن يقول له إن فلانًا الفلاني قد أهان العَلَم، يسأله دون تفكير: أي عَلَم؟ هل أهان العلم السوري، أم الروسي، أم الإيراني، أم علم حزب الله، أم علم الحشد الشعبي الشيعي؟ وأتخيل الشيء نفسه يحصل في منطقة خارجة عن سيطرة النظام الأسدي، وفيها كوكتيل من أعلام سوداء عليها كتابات بالأبيض، أو بيضاء عليها كتابات بالأسود، وأحيانًا، بالمصادفة، يوجد علم الثورة.

في أواخر سنة 1977 ذهبتُ لأداء خدمة العَلَم. التسمية فيها الكثير من المعاني النبيلة.. فالشاب السوري يبقى تحت السلاح سنتين ونصف، وأحيانًا يحتفظون به فترات إضافية طويلة، لكي يَبْقى علمُ بلاده مرفوعًا.

على صعيد آخر، نحنُ السوريين كنا نرى، في كِتَاب القراءة المخصص لتلاميذ الصف الأول الابتدائي، صورًة للعَلَم السوري وهو يرفرف، يظهر تحته عسكريٌّ يرنو إليه بزهو، وعبارة مكتوبة بالخط النسخي العريض: عَلَمُ بلادي مرفوعٌ.. وفي افتتاح برامج التلفزيون كنا نرى المشهدَ نفسه مترافقًا مع نشيد “حماةَ الديار” الذي كتبه خليل مردم بك، ولَحَّنَه اللبنانيان الأخوان فليفل.

بسهولة ويسر، بدأت كذبةُ العَلَم المرفوع بالتكشف أمامي. صحيح أنني شاهدتُ عَلَمَ بلادي مرفوعًا فوق مدخل المدرسة العسكرية التي أفرزوني لاتباع الدورة فيها، مرفرفًا كما يليق بعَلَم وطني عظيم، ولكن صور الديكتاتور حافظ الأسد كانت تحيط به من كل جانب، وحيثما مشيتُ أو تَلَفَّتُّ كنت أرى أقوال الديكتاتور (التي يُقال إنها من تأليف كاتبِ خطاباته الدكتور إسكندر لوقا) مكتوبة بالأبيض على مستطيلات حديدية حمراء أو سوداء محمولة على قائمتين مغروزتين بالأرض.

الشاب الذي يأتي إلى هذه المدرسة العسكرية أو غيرها، لكي يُبْقي علمَ بلاده مرفوعًا، يُواجَهُ، منذ اللحظات الأولى لدخوله المدرسة، بالإذلال. يُمضي النهار والليل في الـركض والغبار وقلة القيمة.. انتبه، استرح، استعد، منبطحًا، واقفًا، جاثيًا، إلى الوراء دُرْ، التمرين التاسع خود وَضْع، مشية البطة خود وَضْع، على الأشواك تَدَحْرَجْ!

تعرفت، خلال الأشهر الأولى للخدمة على شاب من مدينة جبلة كنت أرتاح لهدوئه، وطريقته الباردة في تحليل الأمور. تدحرجنا، ذات مرة، على الشوك، ووصلنا معًا إلى أسفل الوادي، وفجأة تركنا طالبُ الضابط المتفرغ لتعذيبنا وذهب في سبيله. سألته: برأيك ليش كل هذا الإذلال الذي يمارسونه علينا؟ قال لي: لأنهم فقراء ونحن أغنياء! ضحكت وقلت له: ولكن معظم أفراد دورتنا، على علمي، فقراء. قال: أعرف. ولكنهم ألصقوا بنا تهمة الغنى لأننا نساق إلى خدمة العلم سوقًا، بينما هم متطوعون.

قلت: حسنًا. أنا سأتطوع في الجيش.

ضحك وقال: لا تعذب حالك. ما بيقبلوك!




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة