تعا تفرج

لا للمظاهرات

tag icon ع ع ع

خطيب بدلة

أصار حكم القول بأنني قد أصبحت أتضايقُ من التجمعات البشرية! مسيرات تأييد للنظام، مظاهرات ضد النظام، مظاهرات بأعلام سود، بأعلام بيض، بأعلام ثورة.. كلها لم تعد تثيرني، أو تَسُرُّني، وصرتُ أشعر وكأننا، نحن السوريين، مكتوبٌ علينا تَرْكُ أعمالنا ودروسنا وثقافتنا وإسهامنا في بناء الحضارة الإنسانية، والتجمع، والركض في الشوارع لنؤيد، أو نحتج، وسط الغبار وقلة القيمة.

كان نظام حافظ الأسد يتضايق ويمتعض من أيِّ تجمع لمواطنين يزيد عددُهم على ثلاثة إذا كان تَجَمُّعُهم اختياريًا.. وأما التجمع الإجباري فهو “روح قلب” هذا النظام، يستند في تسويغ حبه التجمعات إلى كونه نظامًا وحدويًا، اشتراكيًا، هدفُه في الحياة خدمةُ الجماهير الكادحة.. وخدمة الجماهير لا تكون بتحسين أوضاعها المادية، وتأمين الماء والكهرباء والمحروقات والأغذية لها، وإنما بإشراكها في الحياة العامة.. وهذا الأمر لا يمكن أن يكون اعتباطيًا، كالسماح للمواطنين بتشكيل الأحزاب، وإصدار الصحف والمجلات، والتظاهر، والاعتصام ضد ما يصدر عن السلطات من أخطاء وتجاوزات، وإنما بالسير في الشوارع وفق خطة منظمة، فبالعادة تَتَّخِذُ إحدى السلطات العليا قرارًا بتسيير مسيرة جماهيرية (عفوية) في مدينة صغيرة، أو في أحد أحياء مدينة كبيرة، وتنزل التعليمات إلى السلطات الأدنى متضمنة الأهداف والخطط، والعدد المطلوب مشاركتُه من الإخوة المواطنين، وهذه السلطات الدنيا، بدورها، توزع الأعلام واللافتات وصور الديكتاتور على السلطات الأدنى، ويجري التفاهم مع الأجهزة الأمنية على تحديد عدد المراقبين والمخبرين، والعواينية الذين يسجلون أسماء الغائبين والهاربين والمتهربين من أداء هذا الواجب القومي العظيم.

عشتُ 59 سنة من عمري، حتى سنة 2011، وأنا لا أعرف، ولا أتوقع، ولا أصدق أنَّ من الممكن أن يأتي يومٌ يتجرأ فيه عشرون مواطنًا سوريًا (فقط) على السير مع بعضهم البعض في مظاهرة احتجاج ضد هذا النظام الأمني الفاشستي الدموي الحديدي.. ولكن الشعب السوري المقهور قدم شيئًا مغايرًا لتوقعاتي، وطلعتْ في سوريا مظاهرات، وضُربت المظاهرات، وقُتل متظاهرون، وذهب أهاليهم ليشيعوهم فقُتلوا في أثناء التشييع، وارْتُكِبَتْ مجازر كبيرة في أثناء فض اعتصامات في ساحات عامة كبيرة، وداست بغال شموسةٌ على أجساد متظاهرين عزل (بدكن حرييي؟)، وحُرق متظاهرون في الأفران، وضُربت المدن السورية بالمدفعية والصواريخ والبراميل، وما انفك الناس يصرون على الاحتجاج، حتى شرع النظام يترنح، ولربما ضب مسؤولون فاشستيون كبار حقائبهم استعدادًا للهرب من البلد.

هذا كله تعرفونه.. وأما الشيء الجديد عندي فهو أن أهلنا الأكارم في المناطق التي أُجبر النظام الفاشستي على مغادرتها لم يكونوا محظوظين بالبديل، وأصبحوا تحت سيطرة تشكيلة من الفصائل المسلحة المتطرفة التي لا هَمَّ لها غير إخافتهم، وسلب إرادتهم، فما عاد الرجل يستطيع أن يأكل أو يشرب أو يلبس أو يتنزه كما يحلو له، ووضعُ المرأة أصعب بكثير، وعندما أراد الناس أن يجددوا ثورتهم، ويخرجوا إلى الشوارع للاحتجاج، منعوهم من حمل أعلام ثورتهم، ومن حمل اللافتات التي يريدون حملها، وبدلًا من أن يطالبوا بإسقاط النظام وسلطة الأمر الواقع السيئة هذه، اضطروا للمطالبة بإسقاط سلطة الأسد غير الموجودة (فقط). وهذا وضع مختل، بالطبع.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة