tag icon ع ع ع

نور عبد النور | ضياء عودة | رهام الأسعد | حلا إبراهيم

غادر التنظيم الرقة تاركًا خلفه آلاف الشواهد على حقبة سوداء من ثلاثة أعوام عصفت بحاضرة سوريّة، وجعلت من معالمها خرابًا ينام على آلاف الجثث.

وبعد عام على تحول المدينة إلى سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية”، التي دخلتها في تشرين الأول 2017، لم تتكشف هذه الشواهد عن إجرام تواطأت جهات عدّة في ستره، بل بدأ طمس الجريمة دون تحرك يذكر.

تحت الدمار الموثق بالصور الجوية وصور الأقمار الصناعية، تختبئ عشرات المقابر الجماعية التي تضم أعدادًا كبيرة من جثث أبناء المدينة. جثثٌ قد تكون وثائق مهمة تكشف أسباب الوفاة، وبالتالي المتسببين به، ما يمكن أن يفتح بابًا للمحاسبة.

لكن أعمال نقل مقابر جماعية تجري في المدينة على قدم وساق، تنذر بطمس معالم جرائم لأطراف عدة، أبرزها تنظيم “الدولة الإسلامية” والتحالف الدولي.

أجساد مدفونة تحت الركام

قدرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” عدد القتلى المدنيين خلال معارك “تحرير” الرقة بأكثر من 2323 مدنيًا، بينهم 543 طفلًا، و346 امرأة بالغة، في الفترة بين تشرين الثاني 2016 وتشرين الأول 2017.

كما وثق التقرير المنشور في كانون الأول من العام الماضي، وقوع 99 مجزرة خلال العمليات، واعتقال ما لا يقل عن 1896 شخصًا، بينهم 33 امرأة و28 طفلًا، على يد أطراف النزاع الفاعلة وهي التحالف الدولي و”قسد” وتنظيم “الدولة”.

“استجابة أولية” لعشر مقابر

تكررت إعلانات “مجلس الرقة المدني” منذ خروج مقاتلي التنظيم حول الكشف عن مقابر جماعية، وخاصةً في الساحات العامة والحدائق، ومع بداية عام 2018 شكل المجلس فريقًا تحت مسمى “فريق الاستجابة الأولية” مهمته العثور على المقابر الجماعية، ونقل الجثث فيها والتعرف عليها.

الفريق قال في بيان نشره في آب الماضي إن عدد المقابر الجماعية في مدينة الرقة وصل إلى عشر، وتم إنهاء العمل في خمس مقابر منها، إضافةً إلى إخراج الجثث من تحت الركام في البيوت المدمرة.

أبرز المقابر التي تم الكشف عنها كانت مقبرة البانوراما، والتي بدأ العمل فيها، مطلع تشرين الأول الحالي، وسط توقعات بتجاوز عدد الجثث فيها حاجز 1500، وكانت قد سبقتها مقبرة “الجامع العتيق”، والتي تم الانتهاء من سحب الجثث منها، في أيلول الماضي، بالإضافة إلى مقبرة حديقة الأطفال، ومقبرة الحديقة البيضة، ومقبرة حديقة الجامع القديم، ومقبرة حديقة بناء الجميلي، ومقبرة التاج، ومقبرة السلحبية الغربية، ومقبرة الفخيخة، ومقبرة معمل القرميد، وبعض البيوت المدنية في حي البدو، ومقبرة الرشيد.

ويقول قائد فريق الاستجابة، ياسر خميس، إن أسباب نقل الجثث من المقابر الجماعية يأتي من منحى إنساني، “هو إكرامها وتنظيمها ودفنها بالمقبرة المخصصة بشهداء الحرب على أيدي داعش من المدنيين”.

ويضيف خميس لعنب بلدي أن العمل على انتشال الجثث ونقلها يأتي أيضًا من منحى صحي، إذ إن تفسخ الجثث وتحللها يؤدي إلى انبعاث روائح من الأبنية والمنشآت، ويطرح مخاوف من انتشار أمراض وأوبئة.

لكن تقريرًا لمنظمة الصحة العالمية صدر عام 2009 أكد عدم وجود دليل واضح يربط بين الجثث وانتشار الأوبئة، لكن المسعفين الذين يتعاملون كثيرًا مع الجثث عادة ما يكونون عرضة للإصابة بالسل والنزلات المعوية، بالإضافة إلى التأثير على الصحة العقلية.

وربما يأتي انتشال الجثث وكشف المقابر الجماعية، كخطوة لإعادة إعمار المدينة، خاصًة أن “فريق الاستجابة الأولية” يتبع لـ “لجنة إعادة الإعمار”، والتي أعلن عن تشكيلها من قبل “مجلس الرقة المدني” للعمل على فتح الطرقات وإزالة الألغام التي خلفها تنظيم “الدولة”.

وبحسب خميس يتخصص “فريق الاستجابة الأولية” باكتشاف المقابر الجماعية وتوثيقها ودفنها ضمن أرقام وقيود للمجهولة الهوية ليصار إلى التعرف إليها من قبل ذويها.

آلية نقل الجثث

عند البدء بنقل المقابر الجماعية، يتم وضع الجثث بأكياس مخصصة وفق ترتيب دقيق مع توثيق لما احتوت عليه الجثة من أي شيء من المتعلقات الشخصية أو الأوراق وفق قيود يوثق فيها مكان وزمان ومتعلقات الجثة.

ويوضح خميس أن الجثث بمعظمها يتم دفنها في مقبرة تل البيعة الواقعة على مسافة خمسة كيلومترات شرق الرقة، وهي مقبرة عامة.

ويقول “تتم الأعمال بوجود فريق متكامل إضافة إلى أطباء شرعيين ومساعديهم، ونقوم بتوثيق كل المعلومات عن الجثث المستخرجة ضمن محاضر رسمية”.

وبحسب خميس، عند التأكد من هوية صاحب الجثة من خلال الإثباتات الشخصية والشهود يتم تسليمها إلى ذويها، أما في حال كانت الجثة مجهولة الهوية فيتم دفنها حسب الأصول.

وكانت مديرة قسم الطوارئ بالوكالة في منظمة “هيومان رايتش ووتش”، برايانكا موتابارثي، تحدثت في تموز الماضي عن وجود “تسع مقابر جماعية على الأقل في مدينة الرقة، في كل منها عشرات الجثث إن لم تكن المئات، ما يجعل استخراج الجثث مهمة غير سهلة”.

وأكدت أن المساعدة التقنية ضرورية لتوفير الأجوبة للعائلات وعدم إلحاق الضرر أو “تدمير الأدلة الحاسمة لجهود العدالة المستقبلية”.

ودعت المسؤولة، في تقرير نشرته المنظمة، أعضاء المجتمع الدولي، وخصوصًا الولايات المتحدة، إلى “دعم السلطات المحلية في تطوير وصيانة نظام أكثر دقة لتخزين المعلومات المتعلقة بالمفقودين”، كما ناشدت “المنظمات الدولية التي لديها خبرة في الطب الشرعي توفير الدعم الفني، بما فيه إرسال خبراء الطب الشرعي لدعم عمليات تحديد الهوية واستخراج الجثث”.

آثار قصف التحالف الدولي على مدينة الرقة شمال سوريا – 27 أيار 2017 – (صوت وصورة)

نقل المقابر..

عملية عشوائية تخفي أثر الجريمة

رغم ما يتحدث عنه “فريق الاستجابة الأولية” من محاولة للحفاظ على البيئة و”إكرام” القتلى في الرقة بنقل جثثهم من المقابر والجماعية ودفنها، لكن تلك العملية تترك حولها شكوكًا كثيرة ومخاوف من طمس دلائل مهمة عن سبب وكيفية مقتل الأشخاص، فالجثث ومكان وجودها وشكلها، هي أدلة لا يجوز العبث بها قبل معاينتها جنائيًا وقانونيًا في إطار تحقيقات.

تلك المخاوف عبرت عنها منظمة “هيومان رايتس ووتش” التي شددت في تقرير لها بعنوان “مقابر جماعية في مناطق داعش السابقة” نشرته في تموز الماضي، على حاجة الناشطين الذين يعملون على الكشف عن المقابر الجماعية إلى دعم وتمكين في مجال الحفاظ على الأدلة وتحديد الرفات البشرية.

ودعت المنظمة إلى إلقاء مزيد من الضوء على الفظائع التي “لا توصف” التي ارتكبها التنظيم في أثناء وجوده هناك، ووجهت نداء إلى المجتمع الدولي للتدخل وتقديم الدعم للسلطات المحلية.

ويتضمن هذا الدعم الأجهزة والآلات التي تتيح انتشال الجثث من تحت الأنقاض، والمساعدة التقنية وبناء القدرات لدى المنظمات المعنية، بما في ذلك مختبرات الحمض النووي، وتدريب الكوادر، وتصوير الجثث وتحديد هوياتها، وجمع وتخزين المعلومات بطريقة تسمح بالرجوع إليها في المستقبل.

وتتطلب عملية استخراج وتحليل بقايا الهياكل العظمية من المقابر الجماعية خبرة في جمع المعلومات حول المفقودين، وقدرة على إجراء الحفريات، ومهارات في التعرف على الجثث وتحديد سبب الوفاة.

وعندما تنطوي القضية على انتهاكات لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، فإن استخراج الجثث من دون وجود خبراء الطب الشرعي يمكن أن يدمر الأدلة المهمة، ويزيد من تعقيد تحديد هوية الجثث.

يرى مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة”، بسام الأحمد، أن القانون الدولي يتعامل مع المقابر الجماعية على أنها “مسرح للجريمة” لذلك تجب مراعاة معرفة أسباب الوفاة، سواء بقصف للتحالف، أو أن المدفونين  كانوا معتقلين عند تنظيم “الدولة”، وقتلوا فتم دفنهم في تلك المقابر.

ويشير الأحمد في حديث لعنب بلدي إلى ضرورة وجود فرق تقنية، تتوخى قواعد التعامل مع الرفات لأن “معرفة أسباب الوفاة أمر ضروري جدًا من أجل المحاسبة”.

كيف يتعرف الأهالي على جثث ذويهم؟

يواظب مجلس الرقة المدني عبر صفحته في “فيس بوك” على نشر أخبار نقل جثث القتلى على يد “فريق الاستجابة الأولية” ويرفق أخباره حول الأمر جميعها بعبارة “سيتم تسليم الجثث بعد التعرف عليها إلى ذويها، والمجهولة سيتم دفنها في مقبرة الشهداء بتل البيعة”.

ولا يمكن أن يتم التعرف على الجثث إلا بوجود أهالي القتلى، ما يعني أن الأهالي الذين لم يتمكنوا من الوصول إلى المدينة أو مكان المقبرة، سيتم دفن جثث ذويهم في المقابر الجماعية.

الطبيب محمد الكحيل، رئيس لجنة الطبابة الشرعية في حلب سابقًا، يشرح لعنب بلدي بعض الآليات التي تساعد أهالي الضحايا للتعرف على جثث أقربائهم وأبنائهم.

ينصح الكحيل الأهالي الذين يبحثون عن جثث أبنائهم في المقابر الجماعية بمحاولة الالتزام بالهدوء، ويقول يجب ألا ينجر الأهالي وراء عواطفهم في أثناء انتشال الجثث، لأن الحفاظ على الملابس أو متعلقات الضحية يفيد كثيرًا في التعرف عليها، ويغني عن اللجوء إلى فحص الحمض النووي DNA مرتفع التكلفة”.

ويؤكد على ضرورة الحذر في انتشال الجثث، مشيرًا إلى أن ملابس المتوفين المدفونين في المقابر الجماعية من الممكن أن تدل بشكل كبير على هوياتهم، ويقول “احتفظت ذات مرة بجيب من رداء إحدى الجثث منذ سنوات، فكانت السبيل لدى أهله للتعرف عليه”.

فملابس الشخص تكشف هويته إن كان مدنيًا أم عسكريًا، كبيرًا أم صغيرًا، رجلًا أم امرأة، بالإضافة إلى متعلقات أخرى، مثل خاتم أو ساعة.

كذلك من الممكن التعرف على الجثة من العظام كوجود كسر قديم في عظام إحدى الجثث يدل على هوية صاحبها، أو الأسنان، كوجود أسنان صناعية من ذهب أو معدن آخر.

ويضيف الكحيل “يجب الاعتماد بالدرجة الأولى على هذه المعايير لكشف هوية الجثة، خصوصًا أن تحليل الحمض النووي مكلف جدًا، وغير متوفر إلا في مناطق النظام، أو خارج سوريا مثل تركيا، ويجب أن يكون هناك حمض نووي من أحد أفراد عائلته، ويجب أن تكون درجة القرابة كبيرة، لكي تتم المقارنة بين الحمضين لتحديد ما إذا كانت الجثة تعود لفلان أم لا”.

فريق الاستجابة في الرقة يبحث عن جثث ما زالت عالقة بين ركام المنازل – 9 نيسان 2018 (رويترز)

في حرب التحالف والتنظيم..

أغلب ضحايا الرقة من المدنيين

في وقت تؤكد فيه منظمات حقوقية أن معظم ضحايا المقابر الجماعية في مدينة الرقة هم مدنيون، تختلف التخمينات بشأن الجهات المسؤولة عن وقوع تلك المجازر، رغم أن دائرة الاتهام تحوم حول متهمين رئيسين هما التحالف الدولي والميليشيات المساندة له من جهة، وتنظيم “الدولة الإسلامية” من جهة أخرى، كونهما طرفي النزاع الرئيسين في معارك الرقة.

مدنيون أم عسكريون

تقول منظمة العفو الدولية (أمنستي)، في تقرير مفصل نشرته في 12 من تشرين الأول الحالي، إن ما يزيد على 2500 جثة تم استخراجها من مدينة الرقة، منذ خروج تنظيم “الدولة الإسلامية” منها في تشرين الأول 2017 حتى تاريخ صدور التقرير.

“أمنستي” أكدت أن غالبية الجثث التي تم استخراجها تعود إلى أشخاص مدنيين لا علاقة لهم بالنزاع الدائر سوى أنهم كانوا يقيمون على أرض المعارك، وتعتقد المنظمة أن حوالي 3000 جثة لا تزال تحت الأنقاض أو في مقابر جماعية، غالبيتهم من المدنيين أيضًا.

أما فريق الاستجابة الأولية في مجلس الرقة المدني، والمسؤول عن استخراج الجثث، فيقدّر أن عدد ضحايا المقابر الجماعية حتى الآن هو 2520، تختلف أسباب وفاتهم بين الحريق والغرق وعمليات القصف.

ويقول ياسر الخميس، قائد فريق الاستجابة الأولية، إن الجثث المستخرجة انقسمت بين مدنيين وعسكريين، مشيرًا في حديث لعنب بلدي، إلى أن جثث المدنيين تُعرف من خلال المتعلقات المدنية التي توجد بحوزتهم، مثل الهوية الشخصية أو أي إثبات شخصي، وكذلك الجثث التي تعود لنساء وأطفال هي جثث مدنيين بالطبع، حسبما قال.

وأضاف الخميس أن جثث العسكريين تعرف من خلال الزي والأسلحة التي تكون بحوزتهم، مشيرًا إلى وجود جثث تعود لمعتقلين لدى تنظيم “الدولة” في أكثر من موقع.

ولا توجد إحصائية دقيقة لأعداد الجثث المدنية والجثث العسكرية، لكن معظم التقارير الحقوقية تشير إلى أن غالبية ضحايا المقابر الجماعية هم من المدنيين.

التحالف يعترف “على استحياء”

لم ينكر التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، وقوع ضحايا مدنيين في عملياته العسكرية ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا، لكن اعترافاته أشبه ما تكون بالإنكار بسبب فارق الأرقام التي يعترف بها هو، وتلك التي تنشرها التقارير الحقوقية.

منظمة العفو الدولية وجهت اتهامات حادة اللهجة للتحالف الدولي بسبب تجاهله لأعداد المدنيين الذين قتلهم في سوريا، وقالت إن التحالف اعترف بمسؤوليته عن مقتل 100 مدني في الرقة فقط، و”رفض القيام بواجبه حتى تجاه هؤلاء القتلى رغم إقراره بمسؤوليته عن قتلهم، وهذا أمر شنيع”.

وأشارت إلى أن الإنكار المتواصل للتحالف الدولي هو “إهانة” للناجين، مطالبة إياه بإجراء تحقيقات لمعرفة عدد المدنيين الذين قتلوا خلال عملياته ضد تنظيم “الدولة” في الرقة تحديدًا.

ومع ذلك، يصدر التحالف الدولي باستمرار تقارير دورية عبر موقعه الرسمي يعترف فيها بعدد المدنيين الذين قتلوا في عملياته في سوريا والعراق، إذ يشير آخر تقرير له صدر في أيلول الماضي إلى أن 1114 مدنيًا قتلوا على يديه في كلا البلدين، وذلك في الفترة بين عام 2014 وحتى آب 2018.

ويقول التحالف، الذي تقوده واشنطن، إن ما يزيد على 219 تقريرًا ورد إليه بشأن وقوع ضحايا مدنيين على يد قواته، وتم فحص 60 تقريرًا منها خلال شهر آب الماضي، مشيرًا إلى أن تسعة تقارير فقط “ذات مصداقية”.

“الشبكة السورية لحقوق الإنسان” اتهمت التحالف الدولي بالمسؤولية عن مقتل ما يزيد على 2286 سوريًا، بينهم 674 طفلًا و504 سيدات، منذ بدء عملياته عام 2014 وحتى أيلول 2017، والتي دعم فيها معارك تقودها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) للسيطرة على المدنية.

أما منظمة “Air Wars”، التي توثق ضربات التحالف الدولي في سوريا والعراق، فتقول إن أكثر من ستة آلاف مدني، قتلوا في البلدين خلال تلك الضربات، من عام 2014 وحتى تموز 2018.

وتتبع منظمة ““Air Wars لقسم الإعلام والاتصال في جامعة “جولد سميث” في لندن، وتتكون من فريق عمل ومتطوعين يقيمون في الشرق الأوسط ومناطق النزاعات، وتهدف إلى متابعة وتوثيق ضحايا الأعمال العسكرية الجوية الدولية في سوريا والعراق وليبيا.

أما تنظيم “الدولة الإسلامية” فلا يعترف بمسؤوليته عن ضحايا المقابر الجماعية، فيما وثقت منظمات حقوقية وناشطون قيامه بإعدامات ميدانية في مدينة الرقة، خلال فترة سيطرته عليها من عام 2014 وحتى 2017، حيث دفن مئات الأشخاص في مقابر جماعية.

ويعتبر القانون الدولي تعمّد استهداف المدنيين “جريمة حرب”، حتى وإن كانوا بالقرب من أهداف عسكرية “مشروعة”، لكن ثغرات عدة تم استغلالها في هذا النطاق من قبل الأطراف المتنازعة، إذ تنص المادة “23” من اتفاقية لاهاي على أنه “عند توجيه ضربات ضد أهداف عسكرية يجب الحرص على ألا تتخطى الأضرار الجانبية المتوقعة الفائدة العسكرية المرتقبة”.

تتلخص تلك المادة بقاعدة دولية شهيرة تعرف باسم “النسبة والتناسب”، والتي يقاس من خلالها حجم الأضرار بين المدنيين مقارنة مع الفائدة العسكرية، لكن التحالف الدولي برر انتهاكاته ضد المدنيين تحت هذه القاعدة.

خريطة تظهر توزع المقابر الجماعية في مدينة الرقة (عنب بلدي)

الرقة.. مدينة الرشيد لم تعد كما كانت

تقول معاجم اللغة إن الرقة هي “الأرض الملساء التي يغمرها الماء ثم ينحسر عنها”، لكن المدينة التي نامت قرونًا طويلة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، غُمرت في عهد الأسد بالبارود والديناميت وخلّفها خرابًا ودمارًا.

مصيَف الخليفة العباسي المنصور، وحاضرة هارون الرشيد، قسا عليها الزمان، فشوّه ودمّر أبرز معالمها، وحشر آلافًا من أبنائها جثثًا مجهولة الهوية، تحت أكوام من الأنقاض.

استقبلت المحافظة الثورة السورية برحابة صدر، وقدّمت نفسها قربانًا للحرية، فانتهى بها المطاف عاصمة لأحد أكثر التنظيمات الإسلامية تشددًا في العصر الحديث.

على مدار ثلاث سنوات من سيطرة “تنظيم الدولة” وسمت الرقة بأنها وكر لـ “الإرهاب” خلافًا لما تمتعت به سابقًا من مكانة تاريخية كبيرة فرضها الموقع الذي تشغله، وما احتوته من معالم أثرية.

وجاء توصيف “الإرهاب” على المدينة نتاج سنوات متناقضة تعاقبت عليها قوى عسكرية أبرزها تنظيم “الدولة الإسلامية” في عام 2014، وسبقه نفوذ فصائل إسلامية استولت عليها مطلع الثورة السورية بعد انسحاب قوات الأسد منها.

عام 2013 كان نقطة التحول الجذري في تاريخ المحافظة، إذ خرجت فيه عن سيطرة النظام السوري بالكامل، بعد إعلان كل من: “جبهة النصرة” و”الجبهة الإسلامية” و”لواء أحرار الشام”، و“لواء ثوار الرقة”، و“لواء أويس القرني”، و“كتائب الفاروق” السيطرة عليها، وأسرت حينها كلًا من محافظ الرقة وأمين حزب البعث، كما حطمت أكبر تمثال لحافظ الأسد، وحررت جميع السجناء في سجن الرقة المركزي.

وصل عدد سكان الرقة قبل الثورة السورية إلى أقل من مليون نسمة بقليل، وفق الإحصائيات الرسمية، لكن بعد وصول التنظيم تبدلت التركيبة السكانية ذات الطابع العشائري، إذ هاجر أغلب السكان، وحلّ مكانهم “مجاهدون” من جميع أنحاء العالم.

وبين مهاجرين ووافدين شهدت الرقة مقتل أكثر من 2800 مدني بين عامي 2014 و2018، إضافة إلى آلاف المدنيين الذين لا تزال جثثهم تحت أنقاض المدينة، وفق “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.

تعرضت أغلب أحياء المدينة إلى دمار شبه كامل، كما لم تسلم آثارها الكثيرة من وحشية الحرب، فمنذ سيطرة تنظيم “الدولة” عليها، تعرضت المواقع الأثرية في الرقة لانتهاكات عدة على يد أطراف النزاع المختلفة، بدأت بمحاولة التنظيم طمس معالم المدينة وتدمير الكثير من الآثار والتماثيل بحجة أنها “أصنام”، وانتهت بقصف جوي ومدفعي من قبل طيران النظام السوري وقوات التحالف الدولي بحجة القضاء على “الإرهاب”.

إلى جانب الآثار، خبأت أرض الرقة الكثير من الثروات على مدى التاريخ، إذ تميزت بكونها أثرى المناطق الزراعية في سوريا سابقًا، زاد من خصوبتها وجود ثلاثة سدود على الفرات قربها، أهمها سد الفرات الذي تعرض لأضرار جراء قصف التحالف الدولي المرافق لمعارك “قسد”، بالإضافة إلى سد الطبقة الذي كان يغذي سابقًا الرقة ومدينة حلب بالماء والكهرباء، وأخيرًا سد البعث (المنصورة).

لكن الرقة التي تقبع اليوم تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” تخبئ، بدلًا من الكنوز، مقابر جماعية دفن قتلاها مع سرّ مقتلهم.

فريق الاستجابة ينتشل جثثًا من مقبرة جماعية في الرقة – 5 تشرين الأول 2018 (مجلس الرقة المدني)

حمص وحلب والغوطة ودير الزور..

عمليات نقل ونبش علنية للمقابر

تغطي عمليات نقل المقابر الجماعية في مدينة الرقة نصف هدفها الكامل، أي خمس مقابر من أصل عشر، وفق فريق “الاستجابة الأولية، ورغم ما يثار حول هذه العملية من مخاوف، لكن الضغوط الحقوقية يمكن أن تثمر لمنع دفن آثار الجرائم والمعلومات التي تحملها الجثث حول المجرمين وطريقة القتل.

هذا الأمل الذي يمكن أن يُترجم إلى واقع فيما يخصّ القضية في مدينة الرقة، لم يجد أي طريق له في مدن ومناطق سورية أخرى، تم العبث بقبورها دون أدنى تحرك، ومنها:

حمص.. وجهة الجثث مجهولة

نفذت قوات النظام السوري عدّة عمليات نبش للقبور في محافظة حمص، منها ما وثّقته منظمات حقوقية، ومنها ما شهد عليه الأهالي.

وكانت المحافظة شهدت أولى عمليات فتح قبور لمدنيين وإخراج الجثث من داخلها، ففي عام 2015 أصدرت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان” تقريرًا بعنوان “حتى المقابر لم تسلم”، أكدت فيه أن قوات النظام طوقت بتاريخ 22 من كانون الثاني من العام ذاته منطقة منزول آل رجوب في حيّ باب الدريب، وحديقة مسجد الشيخ كامل في حي بستان الديوان، وفرضت حظر تجوال في المنطقة، ثم قامت بعد ذلك بحفر القبور ونبشها وسرقة ما يقارب 20 جثة.

التقرير الذي وثق الحادثة بالصور والشهادات، لم يتطرق إلى سبب قيام قوات النظام بعملية النبش، بل استدل منها على عدم صدقية الهدن والتسويات التي كان يسعى النظام لتمريريها في المنطقة آنذاك فقط، كما لم تتبين الجهة التي نُقلت الجثث إليها.

بعد تلك الحادثة بنحو ثلاثة أعوام ونيّف أعاد النظام الكرة، ولكنه استهدف هذه المرة مقابر لعناصر من “هيئة تحرير الشام”.

وكان مراسل عنب بلدي في حمص نقل في 24 من أيلول الماضي، أن المقابر التي تعرضت للنبش في بلدة دير فول وقرية عز الدين في القسم الشمالي والشرقي من ريف حمص، والتي كانت تحت سيطرة “تحرير الشام” في أثناء سيطرة فصائل المعارضة.

وأوضح المراسل حينها أن الخطوة التي أقدم عليها النظام تأتي لغاية البحث عن السلاح من جهة، وللبحث عن جثث قادة وعناصر أجانب كانوا يعملون في صفوف “الهيئة”.

حلب.. نقل بفتوى شرعية

في نيسان الماضي أصدر مفتي مدينة حلب، محمود عكام، فتوى تبيح نقل جثامين ضحايا الحرب إلى مقابر أخرى.

الفتوى سرّبت عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهي عبارة عن كتاب خطيّ موجه من عكام إلى مدير مكتب دفن الموتى بحلب، مؤرخ في 5 من نيسان، يجيز فيه فتح القبر على المتوفى، قبل مضي المدة الشرعية وهي ثماني سنوات.

وأضاف عكام أن الأصل شرعًا أنه لا يجوز فتح القبر، وأن يدفن كل ميت بشكل مستقل، إلا إذا دعت الحاجة، فيشترط وقتها أن يكون جسد الميت قد بلي، ومدة تحلل الجثة في بلادنا هي ثماني سنوات.

تلك الفتوى، جاء بعد مرور نحو ثلاثة أشهر على أكبر وأوضح عملية نقل قبور جرت في سوريا، بقرار من محافظة حلب نقل بموجبه 5500 قبر “عشوائي” من المناطق الشرقية التي سيطرت عليها فصائل المعارضة بين عامي 2012 و2016 إلى المقبرة الإسلامية الحديثة شرقي المدينة.

ردًا على قرار محافظة حلب، أصدرت هيئة الطبابة الشرعية في محافظة حلب الحرة مناشدة لجميع هيئات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان لعدم السماح بنقل هذه القبور إلا تحت إشراف هيئات ومنظمات حقوقية محايدة.

ودعت المناشدة الصادرة عن الهيئة بتاريخ 16 من شباط الماضي إلى “ضرورة توثيق كل عمليات النقل وفق المعايير المتبعة في عمليات التوثيق المتعارف عليها دوليًا، وذلك حرصًا على حفظ الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية لهؤلاء الموتى وأسرهم”.

دير الزور.. نقل الجثث عمل “إصلاحي”

في شباط الماضي بدأ النظام السوري بنقل نحو ألف جثة مدفونة في سبع حدائق ضمن الأحياء السكنية في مدينة دير الزور، بعد أن أتم سيطرته عليها.

ونقل مراسل عنب بلدي في دير الزور حينها شهادات لمواطنين تؤكّد عملية النقل، وتوضح المخاوف التي سادت بين الأهالي من إخفاء أثر القتلى في ظل صعوبة تحديد هوية الجثث في الغالب.

ورغم أن عملية النقل هذه تأتي في إطار أعمال البلدية لإصلاح الطرق وتنظيف الحدائق وإزالة الركام بعد خروج تنظيم “الدولة الإسلامية” من المدينة، لكن بعض الأهالي وجدوا فيها محاولة لطمس الذاكرة، وفق الشهادات التي نقلها مراسل عنب بلدي.

الغوطة الشرقية.. التستر على جريمة الكيماوي بإخفاء الجثث

عقب سيطرته على الغوطة الشرقية في نيسان الماضي، تحرك النظام على عدة أصعدة لإخفاء وطمس أي شاهد على مجزرة الكيماوي التي ارتكبها عام 2013.

إحدى تلك الوسائل كانت محاولة نقل قبور بعض القتلى إثر قصف الكيماوي منعًا لوصول جهات دولية إليها في إطار تحقيقات تهدف إلى محاسبة النظام، وفق ما أكدته مصادر متطابقة من الغوطة الشرقية لعنب بلدي.

الصحفي منتصر أبو زيد، من الغوطة الشرقية، أكد أن قوات الأسد والأفرع الأمنية التابعة للنظام السوري نفذت حملات اعتقال طالت شبانًا في سقبا وحمورية والمرج ودوما ومسرابا، وكان لمدينتي زملكا وعربين النصيب الأكبر منها، وذلك بهدف استجواب الشبان لتحديد أماكن قبور ضحايا مجزرة الكيماوي.

ويسعى النظام لتغيير مقابر الغوطة الشرقية بشكل عام ونقلها إلى منطقة نجها بالقرب من الكسوة بريف دمشق، وفق أبو زيد.

سكان يمشون بين الأبنية المهدمة في الرقة – 12 تشرين الأول 2018 (رويترز)

English version of the article

مقالات متعلقة