ما الذي يجب أن يتعلمه السوريون من تجربة كمبوديا؟

  • 2018/11/18
  • 12:00 ص
منصور العمري

منصور العمري

منصور العمري

“عدم اليقين كان أقسى ما عانيته. فمن يُظهر نشاطه في العمل، يجبرونه على العمل حتى الموت، أما من يظهر ضعف جسده وعدم قدرته على العمل فيُقتل”. هكذا اختصر لي بن باو الناجي الكمبودي المعضلة التي واجهته في حياته داخل معسكرات الموت الكمبودية التي أنشأها الخمير الحمر، في سبعينيات القرن الماضي.

التقيت باو، بمنزله في فرجينيا الأمريكية في كانون الأول/ ديسمبر الماضي. جلسنا في مطبخ بيته، الذي زيّنت جدرانه صور العائلة وتحف من التراث الكمبودي ووطنه الأم. بينما كنا نتحدث عن تجربتينا في النجاة من أنظمة قاتلة، روى لي الرجل الستيني تجربته في معسكرات العمل الشيوعية في سبعينيات القرن الماضي، والأهوال التي تعرض لها في أثناء احتجازه فيها. انعكست أضواء شجرة الميلاد القريبة، على وجهه، بشكل مستمر، بدت وكأنها تتلون مع تعابير وجهه. كافح باو للبقاء في هامش بين حالتَيْ مقتول- مقتول، وهو ما أسهم في نجاته من “حقول القتل”.

يعيش بن حياة آمنة وهادئة اليوم مع زوجته وأبنائه في الولايات المتحدة التي استقبلت آلافًا من اللاجئين الكمبوديين إثر مجازر الخمير الحمر، ويرأس مؤسسة يوم الاحتفال الكمبودي الثقافية الاجتماعية.

ارتكب الخمير الحمر بقيادة بول بوت “الأخ الأول” أو القائد بين عامي 1975 و1979 واحدة من أبشع جرائم القرن العشرين. مات نحو مليوني شخص في ظل حكم الحركة الشيوعية المتطرفة، التي فرضت نظامًا وحشيًا للعمل القسري، والسيطرة على الفكر، والإعدامات الجماعية في كمبوديا. كان الهدف هو تحويل الدولة الواقعة في جنوب شرق آسيا إلى مدينة فاضلة زراعية لا طبقية، وكانت النتيجة دمارًا شاملًا لتراث أصيل، ومصطلحًا جديدًا مرعبًا واجهه العالم: “حقول القتل”.

بدأ الخمير الحمر عهدهم بقتل المسؤولين المستسلمين من الحكومة السابقة والإفراغ الوحشي للعاصمة والمدن الأخرى. قام جنود يرتدون ملابس سوداء بتسيير ملايين الناس إلى الريف ووضعهم في العمل كعبيد في حفر القنوات وزراعة المحاصيل. حظر الخمير الحمر الدين والثقافة الشعبية وكل أشكال التعبير عن الذات، وفصلوا العائلات عن بعضها، حيث أُجبر الأطفال على الانضمام إلى ألوية العمل المتنقلة.

صنّف الخمير الحمر الكمبوديين بين مواطنين “أنقياء” وهم المؤهلون لبناء الثورة، وغير الأنقياء، على أسس مشابهة لتصنيف نظام الأسد المواطنين السوريين بين مواطنين “جيدين” و”سلبيين” في مراسلاته الرسمية السرية. بعد وقت قصير من الاستيلاء على السلطة، قاموا باعتقال وقتل آلاف الجنود والضباط العسكريين وموظفي الخدمة المدنية. كل من شكك في النظام الجديد تعرض للتعذيب والقتل. على مدى السنوات الثلاث التالية، قاموا بإعدام مئات الآلاف، من المفكرين وسكان المدينة والأقليات مثل الشام والفيتنامية والصينية، وحتى عديد من جنودهم وأعضاء أحزابهم، الذين اتهموا بأنهم خونة. احتُجز عديد منهم في السجون، حيث اعتُقلوا واستُجوبوا وعذبوا وأعدموا. كان إس-21 أشهر سجون كمبوديا، الذي استوعب 14000 سجين، نجا منهم نحو اثني عشر سجينًا فقط. كما أدى سوء إدارة الاقتصاد إلى نقص في الغذاء والدواء، وتوفي عدد كبير من الكمبوديين بسبب المرض والجوع.

غزت ​​فيتنام كمبوديا وأطاحت بنظام بول بوت، لكن بدأت حرب أهلية جديدة ومرّت نحو ثلاثة عقود قبل تقديم أي من قادة الخمير الحمر إلى العدالة. في عام 2006، افتتحت الأمم المتحدة والحكومة الكمبودية محكمة مشتركة تعرف باسم الدوائر الاستثنائية في محاكم كمبوديا. حتى الآن أدانت بضعة متهمين وحكمت عليهم بالسجن لمدد طويلة.

اليوم وبعد نحو 40 عامًا أدانت المحكمة رئيس نظام الخمير الحمر خيو سامفان (87 عامًا) ومعاونه “الأخ الثاني” نون تشيا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجريمة  الإبادة الجماعية ضد أقليات مثل الشام، والمسلمين الذين أجبروا على أكل لحم الخنزير، ومُنعوا من الصلاة، وأحرقت مصاحفهم. انتظر الكمبوديون طويلًا للحصول على بعض من العدالة، وإدانة قتلتهم. رغم أن بعض رؤوس الإجرام في سوريا أدينوا في دول أوروبية، لا يزالون أحرارًا ومستمرين في ارتكاب جرائمهم، كما أن الأمم المتحدة لا تزال تعترف بنظام بشار الأسد الذي لم يتعرض للإدانة القضائية ولا يزال طليقًا، ممثلًا شرعيًا للسوريين رغم أنه قتل وشرد نحو نصفهم، ويتحمل مسؤولية مقتل كل السوريين من جميع الأطراف.

لا تعمل محكمة الخمير الحمر على المحاكمات وحسب، بل أيضًا على محاولة إعطاء قدر من السلام والخاتمة للضحايا والمجتمع الكمبودي ككل. إجراءاتها مفتوحة للجمهور. يمكن للضحايا التسجيل كـ “أطراف مدنية” لاستجواب المدعى عليهم في أثناء جلسات المحاكمة والمطالبة بأنواع مختلفة من التعويضات.

يمثل مجموعة من المحامين 4000 من ضحايا نظام الخمير الحمر وأقارب الضحايا بشكل جماعي في المحاكمة، أما في الحالة السورية فحتى الآن لا يتجاوز المدعين من السوريين العشرات.

واجهت المحكمة انتقادات لارتفاع تكلفة العملية وانخفاض عدد لوائح الاتهام. رغم ذلك عكست المحكمة توافقًا عالميًا متعاظمًا على أنه مهما مر الوقت، تجب محاسبة مرتكبي أسوأ جرائم العصر الحديث، وفي إطار يساعد الناجين على إصلاح حياتهم. وهنا تبرز الأهمية الرمزية أيضًا للمحاكمات، فمن جانب تعيد هذه المحاكمات ثقة السوريين بقيم المجتمع الدولي وإنسانيته، ومن جانب آخر توجه رسائل إلى المرتكبين ومن يفكر بارتكاب جرائم مماثلة بأن العدالة هي المصير النهائي مهما طال الزمن.

مراجع

موقع منظمة “مراقبة محكمة كمبوديا

موقع متحف الهولوكوست في واشنطن

مقالات متعلقة

  1. أولًا قتلوا أبي.. فصل من فصول معاناة الحروب
  2. كوبارسي.. صخرة دفاع لمستقبل برشلونة الإسباني
  3. من يعوي لا يعضّ..
  4. "إنذارات أمنية" في ثمانية مطارات فرنسية

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي