tag icon ع ع ع

ضياء عودة | أسامة العبود | نور عبد النور

فتح إعلان الانسحاب الأمريكي من سوريا باب التوقعات السياسية والعسكرية مجددًا، وأعاد طرح أسئلة عن الطرف الذي سيملأ الفراغ الناتج عن خروج القوات الأمريكية من منطقة شرق الفرات، التي تسيطر “قوات سوريا الديمقراطية” على معظم مساحتها.

ورغم عدم اتضاح المصير الذي ستؤول إليه المنطقة عسكريًا، من المرجح أن تتراجع سيطرة القوات الكردية المدعومة أمريكيًا، لتحل محلها قوى جديدة ستجني مكاسب على المستوى العسكري والسياسي، وعلى المستوى الاقتصادي أيضًا.

فالمنطقة التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) تشكل 25% من مساحة سوريا، وتعتبر المنطقة الأغنى اقتصاديًا قياسًا ببقية المناطق.

وفي حين يبدو النظام السوري المرشّح الأبرز لوضع يده على أجزاء من المنطقة، فإن ذلك يعني أنه يمكن أن يستعيد “كنزًا” غذائيًا ونفطيًا، كما ستتوفر لحلفائه منافع تجارية واقتصادية استراتيجية.

وكانت روسيا وإيران أكدتا في عدة تصريحات رسمية مؤخرًا ضرورة عودة المنطقة التي يسيطر عليها الكرد شمال شرقي سوريا إلى “الدولة السورية”، في إشارة إلى النظام السوري، رغم عدم اتضاح الصورة الكاملة حتى اليوم من جهة عزم أمريكا على الانسحاب بشكل كامل.

تحاول عنب بلدي في هذا الملف التالي جرد المقومات الاقتصادية التي تتمتع بها المنطقة، وتسليط الضوء على الجهات التي يمكن أن تستفيد اقتصاديًا من السيطرة على مناطق شرق الفرات، إثر الانسحاب الأمريكي، كما ترصد الأعباء التي سيتركها الانسحاب الأمريكي على مستوى إعادة إعمار المناطق المدمرة.

غلة شرق الفرات لم تغرِ أمريكا

خلافًا لما تم الحديث عنه في السنوات الماضية، عن وضع أمريكا يدها على مناطق شرقي سوريا طمعًا بالثروات الموجودة فيها، نفى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ذلك ضمنيًا في تغريدة نشرها في 19 من كانون الأول الحالي، عبر “تويتر”، قال فيها إن التدخل كان بمجمله عسكريًا، وضرورة للقضاء على تنظيم “الدولة الإسلامية”.

وفي حديث سابق لعنب بلدي، قال الخبير في مجال النفط والثروة المعدنية، عبد القادر العلاف، إن “الغلة السورية” من النفط لا تغري الأمريكيين وغيرهم، وإن ما كانت تنتجه سوريا من النفط قبل الثورة لا يفتح شهية الأمريكيين أو غيرهم من أجل بذل جهدهم وبقائهم في المنطقة لأجل ذلك، وإنما وجودهم من أجل شركائهم الأساسيين (قسد)، مشيرًا إلى أن كميات النفط المستخرجة قد تغطي دعمهم لحلفائهم بدلًا من دعمهم بشكل مباشر.

ويعطي قرار الانسحاب تأكيدًا أن أمريكا لم تضع في استراتيجيتها الثروات الموجودة في المنطقة، بل استخدمتها طوال السنوات الماضية لإضعاف النظام السوري الذي كانت العصب الرئيسي له.

امرأة تحمل كيسًا من القمح في القامشلي – 2017 (رويترز)

هل يتحول الشركاء إلى أعداء؟

بتحليل السياقات العسكرية والسياسية التي تحيط بالمنطقة التي تسيطر عليها الإدارة الذاتية شمال شرقي سوريا، نجد أنها أمام ثلاثة أطراف تتهيأ لدخول أجزاء منها في حال انسحبت أمريكا ودول التحالف الدولي بشكل كامل.

الطرف الأول هو الجانب التركي، والذي لا تتعدى أهدافه تأمين الشريط الحدودي بشكل كامل من القوات الكردية، في خطوة لحماية الأمن القومي بحسب الرواية الرسمية، وهو ما أكدته تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، مؤخرًا.

لكن خلال التصريحات الأخيرة لأردوغان، تطرق إلى الثروة الاقتصادية التي تتمتع بها المنطقة، معتبرًا أنها المصدر الأساسي الذي تعتمد عليه القوات الكردية في توسعها وانتشارها في المنطقة، وبالتالي من المهم “نزع” هذه الثروات من يد “قسد” كخطوة للقضاء عليها.

وأكدت التصريحات الرسمية التركية، منذ مطلع العام الحالي، أن هدف الجيش التركي شرق الفرات هو السيطرة على المناطق الحدودية كمدن الحسكة ورأس العين وتل أبيض وعين العرب والتي لا تشكل الثروات فيها أي نسبة تذكر.

سباق روسي- إيراني

أما فيما يخص الأطراف الأخرى، وهي روسيا وإيران، فمن المفترض أن يعود الانسحاب الأمريكي بالفائدة عليهما، وبالأخص الجانب الإيراني، بحسب ما قال محللون اقتصاديون لعنب بلدي.

ويرى الأكاديمي والخبير الاقتصادي ياسر نجار، أن إيران ترى في الواردات النفطية التي تتمتع بها المنطقة الشرقية ثروة لصالحها من شأنها أن تعدل من عبء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها من قبل أمريكا.

وقال نجار لعنب بلدي، إن المساعي الإيرانية، التي من المفترض أن تشهدها المنطقة في حال انسحبت أمريكا، ستصطدم بما ترسم له روسيا، معتبرًا أن “إيران تعاني من الحزمة الثانية من العقوبات ولن تترك الواردات النفطية من دون أن يكون لها الحصة الأكبر”.

ويقود الحديث السابق إلى ما شهده قطاع الفوسفات في سوريا، في العامين الماضيين، إذ كانت إيران حازت على عقد استثمار مناجم الفوسفات في خنيفيس بحمص، خلال زيارة رئيس الوزراء السوري عماد خميس إلى طهران مطلع العام 2017.

لكن روسيا أعلنت أنها الدولة الوحيدة التي ستعمل في قطاع الطاقة السورية وإعادة بناء منشآت الطاقة، ما يقصي إيران عن هذا القطاع. وفي تصريحات له، نُشرت في كانون الأول العام الماضي، قال نائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، إن “بلاده، دون غيرها، ستساعد سوريا في إعادة بناء منشآت الطاقة بها”.

وإضافةً إلى ما سبق، كانت شبكة “فونتانكا” الروسية الإلكترونية واسعة الانتشار، قالت في حزيران 2017، إن شركة “يوروبوليس”، المملوكة لرجل الأعمال الروسي، يفغيني بريغوجينمن (طباخ بوتين)، وقعت مذكرة تعاون مع وزارة النفط والثروة المعدنية في حكومة النظام السوري.

وتنص المذكرة على التزام الشركة وفقًا لبنود الاتفاق بـ “تحرير مناطق تضم آبار نفط ومنشآت وحمايتها”، مقابل حصولها على ربع الإنتاج النفطي.

طهران- دمشق دون عوائق

من جانب آخر، قد لا تكون أهداف الإيرانيين الاقتصادية محصورة بالثروة النفطية التي تتميز بها المنطقة الشرقية، بل بالطريق البري طهران- دمشق، والذي سيكون مفتوحًا بشكل كامل دون أي عوائق عسكرية، في حال الانسحاب الأمريكي.

ويشمل الانسحاب الأمريكي من سوريا جميع المناطق التي تعمل بها، سواء شرق الفرات أو قاعدة التنف العسكرية الواقعة على الحدود السورية- الأردنية، والتي شكلت منذ إنشائها في عام 2016 عقبة كبيرة أمام الممر الإيراني.

ويؤمّن الطريق البري لإيران واجهة على البحر الأبيض المتوسط، وفي حديث سابق مع الباحث في المنتدى الاقتصادي السوري، ملهم جزماتي، قال إن إيران، التي تملك ثاني أكبر احتياطي من الغاز الطبيعي في العالم بعد روسيا، تسعى إلى تصدير غازها إلى أوروبا عبر العراق وسوريا، بعد نقله حاليًا عبر بحر العرب إلى باب المندب ثم البحر الأحمر وصولًا إلى قناة السويس ثم أوروبا، أما فتح طريق طهران- دمشق فسيوفر عليها وقتًا وتكلفة، كونها ستنقل الغاز عبر أنبوب واحد بالبر يمر من العراق وسوريا إلى السفن في البحر المتوسط فأوروبا.

وإلى جانب خط الغاز، يعزز الطريق البري الاتفاقيات الاقتصادية التي وقعتها طهران مع النظام السوري خلال السنوات الماضية في عدة مجالات، وخاصة في مجال الطاقة في البادية السورية، إضافةً إلى مصفاة النفط في ريف حمص، بحسب الباحث ملهم جزماتي، الذي أكد أن الطريق سيصب في مصلحة كل الخطط والمشاريع التي وقعتها إيران.

ويوجد هدف آخر للطريق، وهو الوصول إلى الميناء البحري الذي ستنشئه إيران على السواحل السورية بعدما تم الاتفاق مع حكومة النظام السوري، أوائل عام 2017، على تخصيص خمسة آلاف هكتار لإنشاء ميناء نفطي.

خريطة تظهر الطريق الواصل بين دمشق وطهران مرورًا ببغداد (عنب بلدي)

خريطة تظهر الطريق الواصل بين دمشق وطهران مرورًا ببغداد (عنب بلدي)

القمح والنفط.. ثروة شرق الفرات المهدورة

يشكل الاقتصاد الزراعي حاليًا حوالي 75% من اقتصاد المنطقة التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” في شرق الفرات، بينما تحتل الثروة الحيوانية نسبة 15%، وتضاف إليها التجارة عن طرق المعابر التجارية سواء إلى العمق السوري، أو إلى كردستان العراق مرورًا بمعبر سيمالكا، أو عبر مدينة جرابلس إلى مناطق “درع الفرات”.

هذه النسب تحدث عنها نائب الرئاسة المشتركة لهيئة الاقتصاد في الإدارة الذاتية، ديروك ملا بشير، في لقاء سابق مع عنب بلدي، أما ما تبقى من موارد فتحصل عليها الإدارة من خلال عائدات النفط القليلة الناتجة عن استخراج النفط الخام من حقل الرميلان وبيعه للنظام السوري أو تصديره إلى كردستان العراق.

ولم تشكل هذه الموارد، على اختلافها وتنوعها، عامل استقرار اقتصادي للإدارة الذاتية، الأمر الذي يعود لإغلاق المعابر النظامية التي تربط المنطقة بأراضي سيطرة النظام أو بالأراضي العراقية من جهة، ولتضرر مساحات واسعة من الأراضي الزراعية من جهة أخرى، إضافة إلى صعوبة استثمار آبار النفط الموجودة في المنطقة.

بالمقابل، يمكن أن تشكل الثروات التي تضمها المنطقة موارد جيدة للجهة التي يمكن أن تسيطر عليها، في حال انسحاب أو تراجع “قوات سوريا الديمقراطية”، خاصة إذا ما تم ضم الجزء الأكبر منها لسيطرة النظام وأعيد استثمار حقول النفط وفتح بعض المعابر الحدودية.

القمح.. رأس مال الجزيرة

تعتبر محافظة الحسكة خزان المادة الاستراتيجية بالنسبة لسوريا، إذ كانت تسهم وحدها بنحو 36% من إنتاج القمح في سوريا، بحسب الخارطة الاستثمارية الزراعية بوزارة الزراعة في حكومة النظام السوري 2007.

وتراوح إنتاج القمح في أراضي الإدارة الذاتية بين 550 و600 ألف طن العام الماضي، بحسب ما أكده نائب الرئاسة المشتركة لهيئة الاقتصاد في الإدارة الذاتية، ديروك ملا بشير، لعنب بلدي، لكن الإنتاج قبل الثورة كان يصل إلى نحو مليون طن وسطيًا.

وفي لقاء سابق لعنب بلدي مع الدكتور في العلاقات الاقتصادية الدولية والمحاضر بجامعة غازي عنتاب، عبد المنعم الحلبي، اعتبر أن مناطق الإدارة الذاتية “هي مناطق ذات إمكانيات زراعية كبيرة، لكن طريقة الحكم المتبعة في المنطقة، بالإضافة إلى التطورات المتلاحقة التي مرت بها العديد من هذه المناطق أدت إلى خسارة الجزء الأكبر من الموارد البشرية، والقوى العاملة والخبيرة في الحقل الزراعي نتيجة الهجرة لا سيما من فئة الشباب”.

ونظرًا لأهمية القمح للمنطقة وحاجتها الأساسية له، تمنع “الإدارة الذاتية” بشكل خاص تصدير القمح إلى المناطق المجاورة، بينما تسمح بعبور الشعير والبقوليات، سواء إلى كردستان العراق ومنها إلى تركيا، أو المناطق المجاورة في الداخل السوري.

وكان النظام السوري بدأ العام الماضي بشراء محصول القمح من مزارعي الحسكة ضمن خطة رصدت لها الحكومة مبلغ 80 مليار ليرة سورية، لشراء القمح من الفلاحين في كل سوريا.

كما دخلت الإدارة الذاتية على خط شراء القمح، مطلع العام الحالي، لتكون منافسًا للنظام، وفق خطة لشراء 200 ألف طن، بهدف تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح.

ثروة نفطية مرتبطة بسياسات الدول

تضم منطقة شرق الفرات حقولًا نفطية وغازية ذات أهمية استراتيجية، منها الرميلان والشدادي والجبسة والسويدية، التي سيطرت عليها “وحدات حماية الشعب” منتصف العام 2012، إضافةً إلى مصفاة الرميلان، وحقول كراتشوك وحمزة وعليان ومعشوق وليلاك، عدا عن الحقول الأخيرة التي سيطرت عليها في ريف دير الزور الشرقي، أيلول الماضي، وأهمها كونيكو والجفرة.

ويبلغ عدد الآبار النفطية التابعة لحقل “رميلان” 1322 بئرًا، إلى جانب 25 بئرًا للغاز المسال في حقل السويدية.

تدار الحقول من قبل “إدارة حقول الرميلان” (تتبع لهيئة الطاقة في الإدارة الذاتية)، وتتركز مهامها في إنتاج النفط الخام ومعالجته (فصل الغاز المرافق عن الماء).

وفي لقاء سابق لعنب بلدي مع نائبة الرئاسة المشتركة لهيئة الطاقة التابعة للإدارة الذاتية، سمر حسين، قالت إن عدد الآبار العاملة حاليًا محدود، مقارنة مع العدد الكلي للآبار الموجودة في الحقول.

وأضافت أن العدد الأكبر منها متوقف، ويحتاج إلى العديد من الإمكانيات والمواد، والحفارات الإنتاجية لإعادة تأهيلها وتجهيزها.

مصادر مطلعة أوضحت لعنب بلدي أن “الإدارة الذاتية” بدأت العام الماضي بتصدير النفط بعد السيطرة على المنطقة إلى كردستان العراق، ومنه إلى الأسواق العالمية، بحجم إنتاج 60 إلى 70 ألف برميل يوميًا، من حقول الرميلان.

وفي وقت سابق حصلت عنب بلدي على معلومات أفادت أن النظام السوري منح “الوحدات”، في بداية سيطرتها على الحقول، ميزات تشغيل مقابل عائد مادي، وحصولها على قسم من النفط، وسط غموض الاتفاق المبرم بين الطرفين حاليًا.

وإلى جانب التعامل مع النظام السوري، يصرف قسم من النفط والغاز السوري باتجاه شمال العراق عبر طرق التهريب غير النظامية، إذ يتم خلطه مع نفط أربيل، بعيدًا عن المساءلة.

وتتم عملية التصريف إلى العراق عبر خطوط النفط المؤقتة التي أنشئت في أثناء حرب العراق، وتأكد فيما بعد أن الشركات النفطية الكبيرة التي تدير هذه العملية هي شركات في أربيل، بحسب المصدر.

لكن المسؤولة في هيئة الطاقة نفت تمرير النفط عبر الأنابيب المذكورة، مشيرةً إلى أنه “من المؤكد عدم وجود أي أنابيب ناقلة للنفط في أي اتجاه، وأن معظم الأنابيب القديمة تعرضت للتخريب والتدمير من قبل الجماعات الإرهابية”، بحسب تعبيرها.

وأكد نائب الرئاسة المشتركة لهيئة الاقتصاد في الإدارة الذاتية، ديروك ملا بشير، حديث حسين حول أهمية القطاع النفطي للمنطقة كمورد اقتصادي رئيسي في مختلف الأحوال.

لكن من وجهة نظره، فإن هذه “القوة” لا يمكن أن تكون ركيزة اقتصادية لفيدرالية شمالي سوريا، لأنها ليست سلعة تجارية، بل تحتاج إلى موافقات الدول، مشيرًا إلى أن اقتصاد الفيدرالية “زراعي بحت”، حسبما قاله لعنب بلدي في لقاء سابق.

بينما يرى الدكتور في العلاقات الاقتصادية الدولية والمحاضر بجامعة غازي عينتاب، عبد المنعم الحلبي أن “الاعتماد الحقيقي للإدارة في تأمين مواردها هو على النفط، وكذلك الرسوم الضخمة التي تتلقاها من خلال الحواجز والمعابر غير الشرعية على النقل التجاري حتى إلى المناطق التي تسيطر عليها”.

وقال الحلبي إن “كل العمليات (في قطاع النفط) تتم حاليًا عبر كوادر كانت تعمل في السابق وبموافقة النظام، مع الاستعانة بالخبرات الاستشارية الغربية”.

واعتبر أن “النظام يحقق فوائد كبيرة قياسًا بعدم تحمله الأعباء الأمنية واللوجستية الضرورية لاستثمار النفط في تلك المناطق، نظرًا لما تعرضت له من تطورات عسكرية وأمنية بدءًا من العام 2012”.

مقاتلون كرد يطفئون النار في حقل قمح بعد اشتباكات مع تنظيم “الدولة” – 1 كانون الأول 2017 (رويترز)

قواعد أمريكية أسهمت باستقرار المنطقة

ينظر إلى القواعد الأمريكية المنتشرة شرق الفرات باعتبارها صمام أمان وعاملًا مساعدًا على استقرار المنطقة وتهيئة ظروف اقتصادية، في وقت كانت تشهد فيه معظم الأراضي السورية معارك تراجعت وتيرتها في النصف الثاني من عام 2018.

وأٌنشأت أمريكا جنوب شرق مدينة الرميلان في الحسكة، أول قاعدة جوية لها داخل سوريا، في تشرين الثاني 2015، بعد أن حوّلت مطار “أبو حجر” الزراعي إلى مطار عسكري، مستقدمةً مروحيات كخطوة أولى لتنسيق عملياتها ضد تنظيم “الدولة الإسلامية” في سوريا والعراق.

وجهّزت الولايات المتحدة المطار بفنّيين، ووسعت مدرجاته ليصل طولها إلى 2500 متر.

القاعدة الثانية تقع في بلدة خراب عشق، قرب مدينة كوباني (عين العرب)، وعلى مسافة 90 كيلومترًا شمال مدينة الرقة التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، وتبعد قرابة 35 كيلومترًا عن الحدود التركية.

وتضم القاعدة طائرات حربية ومركزًا عسكريًا للدعم اللوجستي، وقال الفريق أول في القوات الأمريكية، كارلتون إفيرهارت، في نيسان 2017، إن المطار “سيلعب دورًا مهمًا في نقل المستلزمات والمعدات والأفراد”.

ووفق مصادر عنب بلدي، تدير أمريكا ثلاثة مواقع عسكرية أخرى في الحسكة، أولها في بلدة تل بيدر شمالي المحافظة ويضم عناصر القوات الخاصة الأمريكية، إلى جانب موقع في الشدادي جنوبًا، لدعم عمليات “قسد”، فضلًا عن موقع في منطقة تل تامر الزراعية على الحدود السورية- التركية، وقواعد في صرين غربي كوباني.

وتدير الولايات المتحدة قواعد عسكرية في كل من الرقة ومنبج.

وأنشأ التحالف الدولي، الذي تقوده أمريكا، قاعدة التنف بإشراف بريطاني- أردني، في أيار 2016، على الحدود الأردنية- العراقية، وكان منطلقًا للعمليات ضد التنظيم في المنطقة.

ودُرّبت فصائل عسكرية في “الجيش الحر”، داخل القاعدة التي تعتبر غرفة عمليات مشتركة، وأبرز تلك الفصائل: “جيش مغاوير الثورة”، “أسود الشرقية”، “جيش سوريا الجديد”، وتقتصر إدارتها اليوم على أمور لوجستية، بعد أن سيطرت قوات الأسد والميليشيات المساندة لها على كامل المنطقة المحيطة بها، في حزيران 2016، قبل تقدمها إلى البوكمال.

قاعدة أمريكية في منبج بريف حلب الشرقي – أيار 2018 (رويترز)

إعادة إعمار شرق الفرات..

عجلة مهددة بالتوقف

تعهد “التحالف الدولي”، عقب تأسيسه عام 2014 ، بالالتزام بإعادة الاستقرار إلى المنطقة التي يطرد منها تنظيم “الدولة”، وخاصة منطقة شرق نهر الفرات في شمال شرقي سوريا، والتي شهدت وجودًا عسكريًا بريًا وقواعد عسكرية لقوات التحالف الدولي.

في منتصف شهر آب الماضي، علقت الولايات المتحدة الأمريكية إسهاماتها في مشاريع “إحلال الاستقرار” في سوريا، والتي كانت تقدر بنحو 230 مليون دولار أمريكي، بعدما حصلت واشنطن على تعهدات من دول خليجية بالإسهام في تلك المشاريع بمبلغ 300 مليون دولار أمريكي.

ليضاف ذلك إلى أكثر من 400 مليون دولار قال التحالف الدولي إنه قدمها ما بين حزيران 2015 وحتى شباط 2018، لمشاريع إنمائية تهدف إلى إعادة الاستقرار عبر 1200 مشروع كانت ضمن التنفيذ، بما فيها تأمين محطات معالجة المياه الرئيسية والمحطات الكهربائية والمدارس، ومشاريع زراعية وصناعية.

ومع إعلان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، قرار سحب قواته من سوريا، يصبح مصير إعادة استقرار المنطقة وإعمارها مجهولًا، في ظل مخاوف من تراجع دعم التحالف الذي تقوده أمريكا عن تنفيذ التزاماته تجاه سوريا.

الرقة أنموذجًا

وتبدو الحاجة إلى مشاريع إنمائية تنهض بالمنطقة أكثر إلحاحًا في مدينة الرقة التي شهدت عمليات عسكرية مكثفة بدعم من التحالف الدولي، في تشرين الأول 2018، أسفرت عن دمار أكثر من عشرة آلاف مبنى بحسب أرقام الأمم المتحدة.

مصطفى العبد، عضو مجلس الرقة المدني، الذي شكل منتصف نيسان من العام 2017، كوحدة إدارية لدى “الإدارة الذاتية”، قال لعنب بلدي إن نسبة ما حققته عملية إعادة الاستقرار للمنطقة في شرق الفرات لا تتجاوز 20%.

ويرى العبد أن العمل لا يزال طويلًا لتعود المنطقة كما كانت عليه في السابق، أمام هول آثار الحرب التي خلفها تنظيم “الدولة” والحرب ضد التنظيم.

وفي خضم الحديث عن الانسحاب الأمريكي، انتشرت أخبار عن توقف المشاريع الإنمائية الأمريكية في المنطقة، لكن عبد الجليل دلو، مدير أحد المشاريع التي تدعمها وكالة “USAID” الأمريكية في مدينة الطبقة بمحافظة الرقة، نفى وجود قرار إيقاف من المنظمة الداعمة، كما أنه لا يتوقع وجود أي قرارات تخص هذا الجانب.

لكن دلو يرى، في حديث إلى عنب بلدي، أن قرار الانسحاب قد يعرقل الوتيرة الزمنية من أجل البدء بمشاريع جديدة لتحقيق تعافي المنطقة وإعادة تنميتها.

وعقد مجلس الرقة المدني اجتماعًا، في 22 من كانون الأول، لبحث ما ستؤول إليه المنطقة بعد إعلان الولايات المتحدة سحب قواتها، لكنه أكد على استمرارية تنفيذ المشاريع التنموية، وتحقيقها لأهدافها.

ومن أبرز المنظمات التي تنشط في المنطقة بالتنسيق مع التحالف الدولي في إطار استقرار وإعادة تنمية مناطق شمال شرق سوريا “الصندوق الدولي الإنمائي” التابع للأمم المتحدة، ووكالة “USAID” للتنمية الأمريكية، والتي تعمل بالتنسيق مع منظمات محلية أو مع  المجالس والهيئات الإدارية التي تتبع للإدارة الذاتية.

ويتركز عمل هذه المنظمات في مدينة الرقة التي تعد أكثر المدن السورية التي تضررت من تنظيم “الدولة” والحرب ضد “التنظيم”.

وتلقي منظمة العفو الدولية مسؤولية أكبر على التحالف الدولي في تدمير بنى تحتية مدنية خلال الحرب ضد تنظيم “الدولة” في المدينة.

ربيع، من أهالي الرقة، عمل سابقًا كمتطوع في فريق منظمة الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (يونيسف)، في آب 2018، قال لعنب بلدي إن ما يؤخر عملية دعم وإعادة الاستقرار في الرقة هواجس عدة أهمها الوضع الأمني وتدخلات الإدارة الذاتية ومجلس الرقة المدني، في عمل المنظمات.

وأشار ربيع إلى أن الخشية من الألغام التي لم يتم الانتهاء من إزالتها حتى اليوم، كان سببًا في عرقلة عمل المنظمات ضمن إطار زمني واضح ومستقر.

وهو ما ظهر في تقرير لمنظمة “USAID” بالشراكة مع الأمم المتحدة، صدر مطلع كانون الأول الحالي، عن الوضع الخدمي في الرقة.

وعلى سبيل المثال، أشار التقرير إلى أن إمكانية الوصول إلى المياه ما زال محدودًا، إذ يوجد مرفق صحي واحد فقط يعمل بكامل طاقته من أصل 77 مرفقًا في المحافظة.

بيروقراطية تعطل التنمية

لقمان الملا، عضو الهيئة الإدارية في “الإدارة الذاتية”، قال إن الأموال التي توفرها الدول المانحة في إطار دعم استقرار المنطقة تتعرض لإجراءات بيروقراطية لعدة أسباب، منها عمل كل دولة بشكل منفصل عن الأخرى عند تنفيذها مشاريع التزمت بها أمام بقية أعضاء التحالف.

كما أن لكل دولة سياسات وأجندات تنفيذية خاصة بها في إدارة مشاريعها، وكيفية اختيار مقاولين لتنفيذها، بالإضافة إلى عدم استقرار تلك الأجندة بسبب تعاقب الحكومات وتغيرها في تلك الدول، ما قد يؤثر على برنامجها للدعم التنموي والإنساني.

وتعد الولايات المتحدة أكبر مانح للمساعدات الإنسانية في العالم، إذ قدمت عبر منظمة “USAID” ما يقارب من 7.7 مليار دولار من المساعدات الإنسانية للشعب السوري منذ عام 2011، منها أكثر من 875 مليون دولار في إطار الاستقرار، و200 مليون دولار في عام 2017 وحده.

العلاقات في تنفيذ المشاريع التنموية تنقسم إلى ثلاثة أشكال من الشراكات، وهي شراكة مع المنظمات الدولية الرسمية والأمم المتحدة، والتي غالبًا ما تكون موجهة للاستجابات الطارئة والإغاثية، وشراكات مع منظمات غير حكومية تعتمد على كوادرها أو تنتدب موظفين محليين، أما النوع الثالث فتكون الشراكة فيه مع الجهات الإدارية التي تعد السلطة الإدارية للمنطقة المستهدفة.

ويرى لقمان أن هذا الخلط في الشراكات يعكس تفاوتًا في الأهداف والأولويات ويضيع الجهود، ويصنع فروقات كبيرة في تنفيذ مشاريع التعافي في مختلف القطاعات.

 


English version of the article

مقالات متعلقة