بوتين.. وتجديد ذكرى أبي العلاء

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

يقف طه حسين حزينًا وهو يرقب الدمار في مدينة الشاعر الذي أحبه، ومثلما قطع المتطرفون رأس تمثال أبي العلاء المعري، فإن روسيا تقطع اليوم رؤوس أطفال المعرة بقنابلها وتتهم من ينقذهم من القبعات البيضاء بالإرهاب.

في عام 1914 نال طه حسين الدكتوراه من جامعة الأزهر، ونشر أطروحته الشهيرة “تجديد ذكرى أبي العلاء”، وعاود نشرها طوال عقود مبشرًا بالتنوير، وبأدب المعري، وبفلسفته التي لا تزال حيّة إلى اليوم، بينما فلسفة بوتين الرافضة للحرية، وللنقد وللتساؤل، تدمّر مدينة المعري وتبشر أهلها بالموت، ففلسفة الديكتاتور الروسي لا تؤمن إلا بالقوة، وتعتبر قتل الأطفال وتدمير المستشفيات فتحًا جديدًا في حروب الجيل الرابع أو الخامس.

ففي يوم الاثنين الفائت، 22 من تموز 2019، أغارت الطائرات الروسية بشكل مفاجئ وبتكتيك جديد يخفي علامات قدوم الطائرات، ويحرم المدنيين من فرصة الهروب بأرواحهم وبأرواح أطفالهم، بالإضافة إلى التكتيك المبتكر، وهو إعادة الإغارة بعد وصول سيارات الإسعاف ومتطوعي القبعات البيضاء الذين ينتشلون الجرحى والجثث من بين الأنقاض، وخلفت الغارات أكثر من 44 شهيدًا من المدنيين العزّل، وأكثر من ستين جريحًا تتراوح حالتهم بين الموت والحياة، ومنهم عدد من المسعفين والصحفيين، وقد ثبت استشهاد واحد من المسعفين على الأقل حسب وكالات أنباء.

ليس لدى أهل المعرة إلا قبر أبي العلاء الذي يفتخرون بإنجازاته وبأشعاره، بالإضافة إلى جامعها الكبير وحاراتها الشعبية، وسلال القش العمقي والجزراوي والعدس والحلويات، وما تيسر من حلم الحرية التي قاموا من أجلها مع كل السوريين للتخلص من كابوس الأسد ومعتقلاته، التي غيبت المئات من أبنائهم منذ الثمانينيات من القرن الماضي.

بوتين يشترك مع بشار الأسد بتدمير المدن السورية، وبفلسفة احتقار الشعب واعتباره عبئًا على حكامه الأذكياء والخالدين بما تيسر لهما من المذابح، بينما يشترك طه حسين مع أبي العلاء بتحديهما لعاهة العمى التي لم تستطع إحباطهما، وعملهما الجاد لم ينقطع حتى ارتقى كل منهما أعلى قمم الفكر والأدب في عصره، فأبو العلاء المعري تحدى الظلم وصراعات الحكام والاحتلالات المتنوعة، وأتى بما لم يأت به الأوائل، وطه حسين الذي حفر نفق العمى المظلم وصل إلى نور العلم والمعرفة والقدرة على وضع الأفكار موضع التساؤل غير عابئ بما تنهال عليه من التحديات والصعاب.

أبو العلاء جاب البلاد وتعلّم في بغداد في القرن الخامس الهجري، وتتلمذ على يد علماء عصره وعاد إلى المعرة علمًا من أعلام العصر والزمان، تمامًا مثلما وصل طه حسين إلى قبر أبي العلاء في خمسينيات القرن الماضي وزيرًا للثقافة المصرية وهو يحمل منزلة عميد الأدب العربي، وجاء إلى المعرة بخيرة أدباء العرب في القرن العشرين ومفكريهم، وأحيا ذكرى قرينه وحبيبه أبي العلاء المعري في مدينة المعرة.

وبعد أكثر من ستين عامًا من ذلك التاريخ وصل بوتين ليجدد ذكرى أبي العلاء، وهو يحمل القنابل والصواريخ ويحمل خطاباته المعادية للحرية والمناصرة للطغاة، ويردد أن الحرية صارت نغمة قديمة وفاشلة، وكل من يطالب بالحرية هو عميل للغرب، وجاءنا وهو يبشر بعودة النازية وينهال على أطفال المعرّة ببضائعه القاتلة.

الأمم المتحدة أعطت الروس إحداثيات المشافي والمدارس لمنع الأسد من قصفها، ولكن المفاجأة كانت أن الروس هم أنفسهم يقصفون الأهداف المدنية باسترجال يشي بالاستهانة بقيمة الإنسان، وبحقوقه التي نص عليها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولعل الرئيس بوتين يصاب بنوبة ضحك عندما يتم ذكر مثل هذه الإعلانات الإنسانية، التي تعيق عظمته ودخوله التاريخ كهتلر وجنكيزخان وتيمورلنك.

مذبحة المعرة هذه جزء من محاولات بوتين والإيرانيين تفريغ سوريا من سكانها لاستيطان الميليشيات الأجنبية بدلًا من شعبها، الذي يعيش فيها منذ آلاف السنيين، فالروس كما يقول المعارض الروسي أندريه زوبوف من حزب الحرية الشعبية، يفتحون سوريا أمام احتلال استيطاني إيراني جديد بعد أن نجحوا في العراق.

ويقول زوبوف، حسبما أورد ترجمة كلامه الناشط وأستاذ الرياضيات السوري في روسيا محمود الحمزة على صفحته في فيسبوك، سيمتد هذا الاستيطان الأصولي الإيراني إلى أذربيجان والقوقاز وآسيا الوسطى، وسيجعل روسيا في المستقبل محاطة بالنفوذ الإيراني، وستدفع روسيا ثمنًا كبيرًا نتيجة مساندتها للمذابح الأسدية والإيرانية في سوريا، فعدا عن الجريمة الأخلاقية بحق السوريين، كما يقول زوبوف، هناك الجريمة الاستراتيجية بحق مستقبل روسيا التي ستكون محاطة بالميليشيات الأصولية الإيرانية، في الدول السوفييتية السابقة، التي ستخنق مستقبل روسيا وستجعلها محاصرة بهذا النفوذ الذي يخطط له الإيرانيون وهم يحاولون استعادة حدود الدولة الفارسية القديمة ومناطق نفوذها.

رغم المجازر، ستظل معرة النعمان مشغولة بحلم الحرية، وباستراحاتها التي تبدع ما لذ وطاب من قشطة وعسل وحلويات، وبعد ألف عام من ولادته لا يزال شاعرها أبو العلاء المعري محبوبًا، ولا تزال أشعاره تثير النقاشات وتترجم إلى لغات العالم، ولا يزال كتاب طه حسين “تجديد ذكرى أبي العلاء”، بعد أكثر من قرن على صدوره يعاد طبعه، وهو يجمع بين عبقريتين نادرتين عبر ألف عام.

أما قنابل بوتين فلا تزال تقتل المدنيين وتصطاد الأطفال، وهي رمز لاجتماع طاغيتين هما الأسد وبوتين، وسيبقى عار جرائمهما راسخًا في ذاكرة السوريين، ووصمة سوداء في تاريخ العلاقة بين الشعبين السوري والروسي لمئات السنين المقبلة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة