tag icon ع ع ع

حباء شحادة | رهام الأسعد | ميس حمد

تركت العصا أثرها على جسمه الغض وألحقت ضربات الكبل الثخين خطوطًا زرقاء وحمراء على جنباته. لم يعلم قصي، البالغ من العمر عشر سنوات، أن الساعات الست التي قضاها وهو يخضع لجلسة “العقاب” ستتحول إلى قضية رأي عام في البلد الذي قُدست فيه شعائر “التربية” القاسية.

قُبض على معذبه، ومديره في ورشة للحدادة بمدينة التل شمال دمشق، بعد أن نالت القضية استهجان الشارع السوري، في شهر تموز الماضي.

فقد تعرض قصي لكسر في الجمجمة وضعف في البصر ثماني درجات في العين اليسرى، إضافة إلى كدمات وجروح في الفك والظهر واليدين والفخذين، بحجة سرقة الطفل، يتيم الأب، مبلغًا من المحل الذي يعمل فيه على دفعات، حسبما ذكرت وزارة الداخلية السورية، آنذاك.

ما لاقاه الطفل من عذاب لم يكن أبشع ما شهده السوريون في صيف العام التاسع للصراع الذي التهم مئات آلاف القتلى وخلف الملايين من أشباههم وراءه، إذ اعتاد السوريون مشاهد الأطفال كضحايا للقصف أو مصابي حرب أو نازحين ومعتقلين، وبات العنف الأسري والاجتماعي ضد الأطفال قضية ثانوية، أمام معاناة الحرب.

بالمقابل، يخلق تداول الإعلام حوادث مشابهة لما تعرض له قصي، مخاوف حول تنامي ظاهرة العنف الجسدي ضد الأطفال، كانعكاس للحرب، وما يتبعها من آثار نفسية ومجتمعية، تعزز من دائرة العنف.

يناقش هذا الملف احتمالية تعزيز الحرب لظاهرة العنف الجسدي ضدّ الأطفال، من خلال رصد حوادث متعلقة، ومناقشتها مع اختصاصيين نفسيين واجتماعيين، ويتطرق إلى مدى إحاطة القوانين السورية بهذه القضية، والموقف التشريعي منها، كما يلاحق قضية العنف ضد الأطفال لدى السوريين في الخارج، ويسلط الضوء على آثارها النفسية المحتملة.

طفل جالس في مدرسة مدمرة – 2016 (يونسيف)

إعادة الظاهرة إلى الواجهة

هل عززت الحرب العنف ضد الأطفال

تعنيف الأطفال وعقابهم الجسدي ليس جديدًا في المجتمع السوري، لكن بروز بعض الحوادث عبر الإعلام مؤخرًا أعاد الظاهرة إلى الواجهة بعد أن تراجع الحديث عنها في ظل تعرض الأطفال لمخاطر الموت والإصابة والتشرد، مع انتشار عنف السلاح.

إذ تداول السوريون حادثة “دار الرحمة” للأيتام في مدينة دمشق، بعد أن نشرت الشابة رنا جاكوش، المقيمة بجوار مكان الدار، في منطقة ركن الدين، منشورًا عبر “فيس بوك”، تحدثت فيه عن معاناة الفتيات في الدار.

عكست رنا من خلال منشورها ما تتعرض له الفتيات اليتيمات من تعنيف وإهانات، مؤكدة أنها شهدت تعرض فتاة في التاسعة من العمر للضرب بكعب حذاء عال على خدها.

شكواها لم تقد إلا لاعتقالها، مع نفي وزارة الداخلية السورية، في 19 من أيلول الحالي، لحادثة الضرب، بناءً على تفقد سريع أجراه ممثلون من وزارة الشؤون الاجتماعية للدار سألوا فيه الفتيات عن حالهن، وأكدوا على أساس إجاباتهن أنهن لم يتعرضن “للتعنيف اللفظي أو الجسدي”.

انتقل اهتمام المتابعين للشكوى من سلامة الفتيات إلى استهجان سرعة التحقيق وإغلاق القضية واعتقال الشابة، التي أُفرج عنها بعد ساعات، لينضم السعي لإنقاذ الأطفال من التعنيف إلى قائمة المحظورات المجتمعية والأمنية.

حوادث أخرى لتعنيف أطفال في سوريا أثارت الاستهجان، ودفعت إلى الربط بينها وبين انتشار السلاح الذي زاد خلال السنوات الماضية، مثل قضية تعذيب طفلة في السادسة من العمر مع أخيها البالغ ثلاث سنوات، في تموز الماضي، من قبل والدتهما وزوجها في منطقة السلمية بريف حماة، اللذين استخدما أداة “البانسا” لقلع أظافر الطفلين والسجائر لحرقهما.

بيئة خصبة للعنف الأسري

تغيب الإحصائيات الدقيقة التي تتيح مقارنة نسب تعنيف الأطفال في سوريا قبل الحرب وبعدها، إلا أنها تتبع لقاعدة عامة تقضي بازديادها في ظل الحروب والعنف السائد، حسبما قال الاستشاري النفسي، الدكتور جلال نوفل، لعنب بلدي.

ويتجلى أثر الحرب، وفق نوفل، بزيادة الضغوط النفسية والاقتصادية على الأهل، ووقوعهم تحت ظروف قاهرة تدفعهم لتعنيف الأطفال، من سوء المعاملة المتمثل بالضرب الجسدي، والحرمان من التعليم، وعمالة الأطفال، وتزويج البنات القاصرات، وفقدان الرعاية الأسرية نتيجة الموت أو الهجرة أو النزوح أو الاعتقال.

إذ تسببت الحرب بوقوع أربعة من كل خمسة سوريين تحت خط الفقر، واضطرار أكثر من 6.7 مليون شخص لمغادرة ديارهم واللجوء إلى دول أخرى، واجه 90% منهم فيها تحديات زادت من تعنيف الأطفال ومعاناتهم، حسب إحصائيات وكالة الطفولة التابعة للأمم المتحدة “يونيسف“.

وبحسب إحصائيات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، فقد توفي ما يزيد على 28500 طفل منذ آذار 2011 حتى آذار 2019، وقضى 177 طفلًا تحت التعذيب، واعتقل 4721 آخرون، وتعرض 2116 طفل للإخفاء القسري على أيدي جميع الأطراف في الصراع السوري.

وبينت “يونيسف“، في تقرير نشرته خلال شهر آب الماضي، أن ثمانية ملايين طفل بحاجة للمساعدة، بينهم 2.5 مليون طفل لاجئ خارج سوريا، و2.6 مليون طفل نازح داخلها.

أطفال سوريون يعانون من الصدمة – 2017 (وكالة الأناضول)

شخصية “الجلّاد”

لم تحمل الحرب آثار الدمار والألم المادي وحسب، إذ سببت جراحًا نفسية بالغة في نفوس الكبار والصغار، الذين واجهوا أحاسيس انعدام القيمة والكرامة نتيجة العنف السائد وحُرموا من مصادر قوتهم الداخلية، ما أدى لتبنيهم العنف بدورهم، فيما يُعرف باسم حالة “التماهي مع الجلاد”، حسبما قال نوفل.

يعمد ضحايا العنف إلى تمثل شخصية معنفيهم، لنبذ إحساسهم بالضعف والعجز المهين، ويتجهون إلى تطبيق عنفهم على الفئة التي يستطيعون السيطرة عليها.

وأوضح نوفل أن تطبيق العنف في أكثر الحالات “بالنسبة للرجل هي زوجته وأطفاله، وبالنسبة لباقي الناس ممن حملوا السلاح يطبقونه على المدنيين، فتغدو ثقافة الحرب موجودة عند الجميع والكل يطبقها على مقدار الساحة الخاصة به”.

وأضاف أن الإنسان يعمد إلى استعادة ميزان القوى الخاص به، بعد إحساسه بالتجرد من قوة معينة نتيجة تعرضه للعنف، لذلك يسعى للتماهي مع “جلاده” ليرسم صورة ذهنية أنه “جلاد أيضًا وليس ضحية”.

آثار ضرب الطفل قصي الكوز من قبل مديره في ورشة الحدادة في التل – تموز 2019

استطلاع رأي: الحرب زادت من العنف ضد الأطفال

على اعتبار أن تزايد حجم ظاهرة نتيجة ظروف محددة أمر يصعب إخضاعه للقياس، بقي موضوع تنامي ظاهرة العنف الجسدي ضد الأطفال في إطار الملاحظة والاحتمالات المبنية على نظريات نفسية واجتماعية.

وفي هذا الإطار، توجهت عنب بلدي لمتابعيها عبر “فيس بوك” باستطلاع للرأي، في محاولة لفهم النظرة العامة لدى السوريين حول علاقة الحرب بازدياد هذه الظاهرة.

وطرحت عنب بلدي السؤال التالي: ” برأيك.. هل أثرت الحرب في زيادة ظاهرة تعنيف الأطفال في سوريا؟ ولماذا؟”.

89٪ من المشاركين في الاستطلاع أجابوا بـ “نعم”، بينما استبعد 11٪ من أصل أكثر من 600 مشارك، العلاقة بين الحرب والعنف ضد الأطفال.

المستخدم أحمد مليح الحسون أيد الخيار الأول، وعلّق على منشور الاستطلاع قائلًا، “الظاهرة كانت في الأصل موجودة تقريبًا في 80٪ من البيوت ومؤسسات المجتمع الأخرى، ومع حالة اليأس التي اجتاحت البلاد فقد معظم الناس السيطرة على مشاعرهم وتوازنهم وانعكس هذا بشكل كارثي على الحلقة الأضعف، الأطفال”.

وأيدت المستخدمة بتول محمد رأي أحمد، وكتبت “الظاهرة كانت موجودة سابقًا، ولكن بسبب الحرب، وعدم توفر الشروط الملائمة لحياة طبيعية، أصبح الأهالي يمارسون العنف ضد أولادهم لتفريغ الضغط النفسي”.

بينما ينطلق المستخدم نصر حداد من تجربته الشخصية في الحكم على الأمر، “كنت قبل الأزمة أكثر عصبية في التعامل مع أولاد، ولكني أصبحت الآن أتحكم في غضبي”، بحسب تعبيره.

تأديب أم تعنيف..

قوانين هشّة لم تحمِ الأطفال من تعنيف ذويهم

مضى على قانون العقوبات السوري نحو 60 عامًا، فقد خلالها القانون مرونته في الاستجابة للحالات الطارئة والمتغيرات التي فرضها الزمن، حتى أصبح تعنيف الأطفال من قبل ذويهم وإلحاق الأذى بهم خارج سلطة ذلك القانون، وخاضعًا لثقافات مجتمعية موروثة سمحت للأهالي بتعنيف أطفالهم من باب “التأديب”.

قانون يجيز “ضرب التأديب”

لا توجد مادة صريحة في قانون العقوبات السوري تحمي الطفل من تعنيف ذويه أو أي شخص آخر باعتباره من الفئات المستضعفة في المجتمع، بحسب ما يقول المحامي السوري عبدو عبد الغفور لعنب بلدي، مشيرًا إلى أن هناك مادة واحدة في قانون العقوبات تسمح للأهالي بضرب أولادهم تحت اسم “ضروب التأديب”.

وتُجيز المادة “185” من قانون العقوبات السوري “ضروب التأديب التي ينزلها بالأولاد آباؤهم وأساتذتهم على نحو ما يبيحه العرف العام”، إذ فسر المحامي عبدو عبد الغفور تلك المادة بأنه في حال تعرض الطفل للضرب من قبل أحد والديه أو أساتذته دون أن يترك الضرب أي أثر، فإن القائم بفعل الضرب يحصل على “عذر محل”، أي تسقط عنه العقوبة بالكامل تحت بند المادة السابقة.

ما هو التعنيف؟

هو “كل أشكال العنف أو الضرر أو الإساءة البدنية أو العقلية، والإهمال أو المعاملة المنطوية على إهمال، وإساءة المعاملة أو الاستغلال، بما في ذلك الإساءة الجنسية” على النحو الوارد في الفقرة 1 من المادة 19 من اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1989.

وعرفته منظمة الصحة العالمية أنه “الاستعمال المتعمد للقوة البدنية أو القدرة، سواء بالتهديد أو الاستعمال الفعلي لها من قبل الشخص ضد نفسه أو ضد شخص آخر أو ضد مجموعة أو مجتمع، بحيث يؤدي أي منهما إلى حدوث أو رجحان حدوث إصابة أو موت أو أذى نفسي أو سوء النمو أو الحرمان”.

فهو يشمل أشكال سوء المعاملة الجسدية أو النفسية أو الجنسية أو اللفظية التي تطبق على الطفل، وممارساته واسعة الانتشار، حسب إحصائيات منظمة الصحة العالمية التي تبين أن واحدًا من كل أربعة بالغين حول العالم تعرض للتعنيف الجسدي خلال طفولته.

أما في حال وصل التعنيف لدرجة إلحاق الأذى الجسدي بالطفل أو التسبب بعاهة مستديمة له، فإن القضية تخضع لأحكام قانون العقوبات العام، ويتم التعامل معها وكأن شخصًا غريبًا اعتدى على شخص آخر، دون الأخذ بعين الاعتبار إن كان المُعتدى عليه طفلًا أم بالغًا، أو إن كان قد تعرض للضرب من قبل أحد والديه أو شخص آخر، بحسب عبد الغفور.

وغالبًا ما تخضع القضية في حالة الضرب المبرح للمواد “540” و”541″ و”542″ من قانون العقوبات السوري، التي تعامل الطفل معاملة الشخص البالغ في حال لحق به أي أذى.

تنص المادة “540” على أنه “من أقدم قصدًا على ضرب شخص أو جرحه أو إيذائه ولم ينجم عن هذه الأفعال تعطيل شخص عن العمل لمدة تزيد على عشرة أيام، عوقب بناء على شكوى المتضرر بالحبس ستة أشهر على الأكثر، أو بالحبس التكديري وبالغرامة من خمس وعشرين إلى مئة ليرة أو بإحدى هاتين العقوبتين”.

في حين تنص المادة “541” على أنه “إذا نجم عن الأذى الحاصل تعطيل شخص عن العمل مدة تزيد على عشرة أيام، عوقب المجرم بالحبس مدة لا تتجاوز السنة وبغرامة مئة ليرة على الأكثر أو بإحدى هاتين العقوبتين”.

أما المادة “542” فتنص على أنه “إذا جاوز التعطيل عن العمل عشرين يومًا، قضي بعقوبة الحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات فضلًا عن الغرامة السابق ذكرها”.

ورغم أن القانون السوري، الذي تم تشريعه عام 1959، لا يدعم بشكل أو بآخر إلى ضرب الأطفال وإلحاق الأذى بهم، فإنه بالمقابل لا يولي معاملة خاصة لهم في حال تعرضوا للضرب أو التعنيف من قبل ذويهم أو أي شخص آخر.

ويرى المحامي عبدو عبد الغفور، العضو في مجلس “نقابة المحامين الأحرار” في حلب، أن المجتمع السوري أصبح بحاجة إلى ثورة في القوانين، خاصة فيما يتعلق بحماية الفئات المستضعفة من المجتمع السوري، وعلى رأسها الأطفال والنساء.

وأشار المحامي، الذي امتهن المحاماة منذ عام 2005، إلى أن المتغيرات التي طرأت على المجتمع السوري خلال سنوات الحرب، تفرض استحداث قوانين جديدة من شأنها حماية الأطفال من أي انتهاك، خاصة مع انتشار ظواهر العمالة والتسرب من المدارس والزواج المبكر والتسليح والتعنيف.

طفل سوري يقف إلى جوار والده في انتظار الحصول على مساعدة إنسانية في إدلب – 13 كانون الثاني 2013 (رويترز)

مصادقة “شكلية” على اتفاقية حقوق الطفل الدولية

في تشرين الثاني من عام 1989 صادقت الجمعية العامة للأمم المتحدة على “اتفاقية حقوق الطفل”، التي دخلت حيز التنفيذ في أيلول عام 1990، وتتكون الاتفاقية من 54 مادة، مكتوبة في ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.

وتصب بنود الاتفاقية بمجملها في أن للطفولة الحق بالحصول على رعاية ومساعدة خاصتين، وأن على الأسرة أن تمنح الحماية والمساعدة اللازمتين لأطفالها، باعتبار أن الطفل “بسبب عدم نضجه البدني والعقلي، يحتاج إلى إجراءات وقاية ورعاية خاصة، بما في ذلك حماية قانونية مناسبة، قبل الولادة وبعدها”.

وبعد ثلاث سنوات على دخول الاتفاقية الدولية حيز التنفيذ، صادقت الحكومة السورية عليها بموجب القانون رقم “8”، إلا أنها تحفّظت على بعض المواد الواردة في الاتفاقية، بحسب ما قال قاضٍ سوري مختص بالقانون الدستوري لعنب بلدي.

القاضي المقيم في سوريا، والذي فضل عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية، قال لعنب بلدي إن سوريا اعترضت حينها على عدة مواد وردت في اتفاقية حماية الطفل الدولية، على اعتبار أنها “لا تلائم” المجتمع السوري وعاداته وأعرافه وقوانينه.

هذه المواد هي المادة “14” التي تمنح الطفل حرية اختيار الدين والفكر والوجدان، والمادة “20” و”21″ المتعلقة بالسماح للعائلة بتبني الأطفال وإدراجهم في بياناتها العائلية بشكل قانوني، وهو أمر يخالف العقائد الدينية التي تتبعها غالبية الشعب السوري.

ومع ذلك، يرى القاضي السوري، الحائز على دكتوراه في القانون الدستوري، أن انضمام سوريا لاتفاقية حقوق الطفل هو انضمام “شكلي”، إذ لا توجد هيئة ناظمة تراقب وتتابع تطبيق الاتفاقية، كما هو معمول به في البلدان الغربية، وسط غياب للدولة السورية وأجهزتها، على حد تعبيره.

وأضاف أن الاتفاقيات الدولية تعادل القانون المحلي المعمول به في كل بلد، وإذا حدث تنازع بينهما في قضية معينة، يتم العمل بالقانون المحلي لا بالاتفاقيات الدولية، وهذا الأمر يعرقل تطبيق بنود اتفاقية حقوق الطفل فيما يتعلق بالتعنيف الأسري، على اعتبار أن القانون السوري لا يولي اعتبارات خاصة لقضية تعنيف الأطفال من قبل ذويهم، ويتعامل مع الأمر على أنه جناية عامة.

ثقافة الضرب “متأصلة”.. من يشتكي؟

تشير دراسة أعدتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، في أيلول عام 2014، إلى أن هناك ما يقارب مليار طفل حول العالم، أو ستة من كل عشرة أطفال في سن 2-14 عامًا، يتعرضون للعقوبة البدنية من أولياء أمورهم ومقدمي الرعاية لهم بشكل منتظم.

الدراسة التحليلية التي حملت اسم “محجوب عن الأنظار: تحليل إحصائي للعنف ضد الأطفال”، تناولت 190 دولة حول العالم، ومن بينها سوريا، وتوصلت إلى أن 78% من أطفال سوريا يتعرضون للعنف البدني كعقاب تربوي، في حين يتعرض 25% من الأطفال السوريين لضرب يصل إلى درجة العنف الجسدي الشديد، بحسب الدراسة.

وبهذا الصدد، يرى القاضي السوري، الذي فضّل عدم الكشف عن اسمه، أن مشكلة تعنيف الأطفال في سوريا سببها العقبات “الإجرائية”، موضحًا أنه في حال تعرض الطفل للتعنيف من قبل أحد والديه، اللذين هما أولياء أمره، يجري التستر على الأمر خاصة أن الطفل غير مؤهل قانونيًا لتقديم شكوى.

وأضاف أنه في حال وجدت خلافات بين الأم والأب، وتقدم أحدهما بشكوى ضد الآخر تحت دعوى تعنيف الطفل وإلحاق الأذى به، تتم محاسبة المتهم تحت بنود قانون العقوبات العام في حال ثبت الاعتداء.

وانطلاقًا من ذلك، يرى القاضي، الحائز على دكتوراه في القانون الدستوري، أن المجتمع السوري بحاجة لتوعية كبيرة من ظاهرة تعنيف الأطفال، عبر تخصيص برامج تؤهل الشباب قبل الزواج، وترشدهم لأصول التربية، بالإضافة إلى تفعيل دور المدرسة في حال استشعرت تعرض أحد الأطفال للضرب والأذى من قبل ذويه.

وأشار القاضي في حديث لعنب بلدي إلى أنه “لا يمكن تطبيق قوانين الغرب المتعلقة بتعنيف الأطفال في مجتمعاتنا، على اعتبار أن القانون ابن بيئته”، ويضيف “لكن أنا مع استحداث نصوص قانونية خاصة، تراعي العلاقات الاجتماعية والأعراف السائدة في المجتمع السوري وتحمي الطفل من التعنيف في الوقت ذاته”.

وكذلك يرى المحامي السوري عبدو عبد الغفور، أن ثقافة المجتمع السوري “غير كافية” لحماية الطفل من التعنيف الأسري، على اعتبار أنها ثقافة “متأصلة وموروثة” لدى بعض الأسر السورية، تحت ذريعة التربية والتأديب.

وأشار المحامي لعنب بلدي إلى أن “نقابة المحامين الأحرار” التي ينتسب إليها في ريف حلب الشمالي، عقدت ورشات عدة للتوعية ضد ظاهرة تعنيف الأطفال في الشمال السوري، إلا أنها لم تثمر حتى الآن، على حد تعبيره، منوهًا إلى ضرورة سن قوانين لحماية الأطفال من مظاهر التعنيف كافة، تحترمها جميع الأسر السورية دون استثناء.

في أرض القانون..

أطفال سوريون بين الحرية و”التربية المنزلية”

حمل السوريون الذين غادروا البلاد خلال الحرب أعرافهم وسلوكياتهم معهم إلى الخارج، ومنها ما يتعلق بأساليب تربية الأبناء وتوجيههم، وهو ما اصطدم بالعادات والقوانين التي تحكم عملية التربية في المجتمعات المضيفة.

في دول اللجوء العربية، لم تتراجع ظاهرة العنف الجسدي ضدّ الأطفال بشكل كبير، بحكم تقارب العادات الاجتماعية، وعدم وجود قوانين تحمي الأطفال عمومًا، ففي لبنان، على سبيل المثال، أظهر مسح أجرته “يونيسف” عام 2016، أن 65% من الأطفال السوريين تعرضوا للعنف في المنزل أو في المدرسة.

كما أكدت منظمة “هيومان رايتس ووتش” في تقرير نشرته عام 2016، تعرض أطفال سوريين في لبنان للتعنيف في المدارس.

بالمقابل، تخضع العلاقات الأسرية في الدول الأوروبية لقوانين تهدف إلى حماية الطفل من التعنيف بكل أشكاله، عن طريق ضمان تلقي الطفل لحقوقه، مع التهديد بسحبه وحرمان عائلته في حال أثبتت الدولة خطورة بقائه معهم.

تربية للأهل؟

في السنوات الأولى من لجوء السوريين إلى أوروبا انتشرت حالات سحب الأطفال من العائلات السورية، التي لم تكن قد تآلفت مع قوانين الحماية الاجتماعية في بلدانها الجديدة، حسبما قالت الاختصاصية النفسية العاملة في النمسا الدكتورة، تماضر عمر، لعنب بلدي، مضيفة “في كل شهر تقريبًا كنا نسمع عن حالة سحب طفل نتيجة التعنيف”.

فيما بعد أصبح الأهالي أكثر حذرًا في قضية تعنيف الأطفال، بحسب الاختصاصية النفسية، “فهم غير قادرين على تطبيق التربية التي يفهمونها والتي تتمثل بسياسة التعنيف والتوبيخ، وبنفس الوقت إن لم يطبقوها فقدوا طفلهم”.

وأشارت الاختصاصية إلى أن قسمًا من الأهالي باتوا يطلبون العون من الدولة التي وفرت تدريبات تربوية مكنت بعضهم من تعديل أساليب تعاملهم مع الأطفال، بما يضمن عدم نفورهم من القيم التي يرغب الأهل في زرعها.

طفلة سورية كردية تبكي عند قطعها الحدود التركية – 23 أيلول 2014 (يونسيف)

صدمة المجتمع الجديد

ترتبط قضية تعنيف الفئات الأضعف في المجتمع، ومن ضمنها فئة الأطفال، بقائمة المحظورات الاجتماعية والقانونية في أغلب الدول الأوروبية.

ففي السويد، على سبيل المثال، يشتعل النقاش والحوار فيها كلما ظهرت إشاعة أو قصة جديدة عن سحب الخدمات الاجتماعية لأي طفل من أهله، حسبما قال المدرّس ومرشد التعليم السابق، عمر السيد أحمد، الذي يقيم ويعمل في السويد.

وأشار السيد أحمد، الذي اهتم باستقبال الأطفال اللاجئين الجدد خلال عمله في إحدى المدارس الحكومية السويدية لثلاث سنوات، إلى أن الأطفال السوريين الذي شاهدهم كانوا في حالة “صدمة” في المجتمع الجديد، بالمقارنة مع ما اعتادوا عليه من أساليب تربوية.

بالمقابل، جردت قوانين الدولة الأهل من أداة الضرب، وفق السيد أحمد، ما دفعهم للإحساس بفقد السيطرة التامة على الأطفال جراء “جهلهم” بالقوانين.

وأوضح السيد أحمد أن القانون في السويد لا يمنح الطفل الحرية الكاملة، بل إن قراراته كلها تعود لوالديه، ولكن فقدان الأهل لأدواتهم وخوفهم من تدخل الدولة دفع بعضهم للامتناع عن التدخل بأبنائهم تمامًا، كما “دفع آخرين لممارسة الضغط النفسي على الأطفال وتخويفهم من الإفصاح عما يتعرضون له من تعنيف في البيت مع استمرارهم باستخدام الضرب كوسيلة للتربية”.

ما الأثر النفسي لتعنيف الأطفال

تنتج سلوكيات العنف المؤذية عن جملة من العوامل والأسباب، من أبرزها ضعف الروابط الأسرية وخلل علاقاتها وقلة وعي الأبوين، حسبما قال الاستشاري النفسي، الدكتور عمار بيطار، لعنب بلدي.

وتضاف تلك الأسباب إلى الضغوط النفسية أو الاقتصادية أو الأمنية الطارئة التي تمر بها أي عائلة، وقبول نهج العنف والقوة في المجتمع، واتخاذ العقوبة الجسدية كعقاب مقبول فيه.

بينما اعتبر اختصاصي علم النفس، الدكتور أحمد شخيص، أن اعتناق المجتمع السوري لثقافة العنف كوسيلة لإنشاء الطفل وزرع الصفات العدوانية فيه بحجة الدفاع عن النفس أو عدم السكوت عن حق، أنتج صفة “إيجابية” للعنف عنده.

كما امتد القبول الاجتماعي للتعنيف في سوريا ليصبح نهجًا مؤسساتيًا، ينتشر في المدارس ومراكز التدريب والتربية، وخلافه هو التعامل الغريب الذي يجلب النقد ويستدعي التدخل، لينشأ الطفل محملًا بذكريات القسوة ومشبعًا بنهجها، وفق شخيص.

يحمل تعنيف الأطفال تبعات بالغة السوء على المستويين النفسي والجسدي للطفل، على حد تعبير الدكتور والاستشاري النفسي عمار بيطار، وتكون آثاره عميقة جدًا، وقد تستمر للمستقبل، وتحدث تشوهات بدنية وروحية لا تفارق الطفل مدى الحياة، كما قد تؤدي للوفاة أحيانًا.

وأشار بيطار إلى أن العنف يحمل علامات تدل عليه في سلوك الطفل وجسده، من آثار الجروح والكدمات إلى إبداء الخوف والهلع عند سماع الصراخ، وإن لم يكن هو المعني به.

وأضاف أن الطفل المُعنَّف يعمد إلى العزلة والابتعاد عن الناس، ويعاني من بطء التطور واكتساب المهارات أو القدرات التي يكتسبها الأطفال في عمره، وفقدان ما اكتسبه سابقًا، مع عدم قدرته على النمو في بعض الحالات والخوف من التعامل مع الأبوين.

وتلحق به أيضًا آثار نفسية مثل انخفاض الثقة بالنفس والقلق والتوتر والاكتئاب والتفكير بالانتحار، مع انخفاض الأداء المدرسي والعصبية.

وترتفع كذلك احتمالية ارتكاب الطفل لجنح أو جريمة أو ممارسة التنمر والعنف ضد الآخرين، واتخاذه لسلوكيات مثل الكذب والسرقة، حسبما قال الاختصاصي في علم النفس الدكتور أحمد شخيص، وأضاف أن الطفل يعاني كذلك من صعوبات في النوم ورؤية الكوابيس والتبول اللاإرادي.

English version of the article

مقالات متعلقة