طريق البيت.. جدران المنزل المفتوحة للسرد

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

لا يخلو البحث عن أي مضمون مرتبط ارتباطًا وثيقًا ببنية الشخصية ومحدداتها ومكوناتها وجذورها، من أنانية ما، أنانية تبدو مبررة، كما أنها تبرر أحيانًا للفرد أساليب بحثه، وتجعله من الجرأة بمكان أن يسأل أمه وأباه ما لم يتوقعاه منه بهذه الجرأة. لكن هذه الأنانية الجميلة عندما تسعى فيما تسعاه إلى فهم عميق للشخصية والأسرة، وتلك العلاقات المتشابكة التي يمكن أن تبني فردًا ما زال ينظر أمام المرآة ويسأل أسئلة وجودية كبرى عن نفسه، تكون غاية في الصدق والجمال، ويمكن أن تبني شريطًا تسجيليًا ممتعًا إذا تتبعتها كاميرا محترفة، كتلك التي حملها السوري وائل قدلو في شريطه “طريق البيت”، متتبعًا شخصيته وحياته ومكوناتها على لسان أمه وأبيه، في قصة بقدر ما تبدو كلاسيكية، بقدر ما تم البناء عليها بشكل مختلف ومؤثر.

في الفيلم المنتج عام 2018، والذي عرض مؤخرًا ضمن فعاليات مهرجان مالمو السينمائي، يبحث المخرج عن إطار منطقي ما، يمكنه من خلاله فهم محيطه الضيق، بل ومحيطه الأوسع، فما يبدو من أسئلته الموجهة لأمه وأبيه، اللذين انفصلا باكرًا عن بعضهما، أنه لا يبحث عن القصه لجعلها مروية قادرة على خلق استقرار نفسي ما داخله، أو لوضع نقاط على حروف ما زالت غير مستقرة في سيرته الشخصية وسيرة عائلته، إنما يحاول أن يقود هذه السيرة خارج إطارها البسيط الكلاسيكي، ليربطها بعوالم أوسع في الحياة والمجتمع والإنسان، يخرجها من جدران المنازل المغلقة إلى الشارع والحياة، ويخرج معها وصولًا إلى أسئلة وجودية لا تطرح بشكل مباشر في الفيلم.

أب وأم من بيئتين مختلفتين، ولد الصراع مبكرًا في أسرتهما بين التحرر والمحافظة، نتج عنه طلاق أودى بالطفل ليعيش في بيت جدته، ويحرَم من رؤية أمه سنوات طويلة، بينما والده كان أصلًا يعمل في الكويت، ثم يعود فيلتقي أمه بعد أن شَب، ويبدأ بطرح أسئلة أكبر كلما تقدمت به السن، ثم يحوّل هذه الأسئلة بعد أن قارب الأربعين من العمر إلى مصارحة يثبّت فيها الكاميرا أمام أمه ويسألها، وكذا والده وعمّه، بينما تغيب جدته ذات الأثر والموقع البطولي الأهم في الحكاية بسبب وفاتها، ولربما هذه الثغرة التي لا يمكن تجاوزها في هذه الحكاية، هي النقطة الوحيدة التي يمكن لفيلم روائي تظهر فيه الجدة أن يعوّض النقص الذي يحل بالوثائقي، فصوتها الذي قد يكون الأهم هو غائب هنا.

لكن لم يكن في نية المخرج إلا أن يظهر الحقيقة كاملة بكل تفاصيلها، بل ويصدم الكاميرا بالحقيقة وبالتفاصيل لدرجة أنه يمكن أن ينشب خلاف بينه وبين أمه أمام تلك الكاميرا بشكل واقعي بحت لا يترك أي مكان للشك بتركيب هذا الخلاف أو حتى بانصياع أحد طرفيه لوجود كاميرا ترقبه فيعدِّل من سلوكه. كان خلافًا فاقعًا في واقعيته، تزداد فيه أصابع الأم والابن حدة وارتجافًا وهي تقطع الفاصولياء التي ربما لن يأكل منها أحد بعد طهوها إثر هذا الخلاف.

لا يريد وائل اتهام أمه بشيء، ولا والده ولا عمه، ولا حتى جدته التي تنال ما تناله على لسان أمه بينما هي لا تستطيع الرد، إنما يريد استدراج السيرة إلى مكان أكثر وضوحًا له، وللمشاهد أيضًا، لمكان يمكن معه رؤية هذه السيرة الكلاسيكية في كثير من تفاصيلها، كحكاية صنعت إنسانًا ما زال مرتبكًا بفهمها، وبفهم أثرها تمامًا عليه، بل وبتجريدها من أسماء أبطالها المحددين، لتخرج خارج المنزل الصغير، وتذهب باتجاه تشكيل الحكاية، وتكوين المتعة التي لا تضل طريقها إلى المشاهد في كثير من تفاصيل الفيلم بقصد من المخرج أو من دون قصد.
يغتسل صاحب الفيلم قبل أن يخوض في الحكاية، ليدخل إلى عوالمها، ويسأل ما شاء لأمه وأبيه، اللذين يبدو أنه قد عانى رحلة طويلة معهما قبل أن يقتنعا بالظهور أمام كاميرا والحديث مليًا عن قصة ربما هي أهم ما مرَّا فيه في حياتهما الكلاسيكية غير البسيطة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة