منفي في بيتي.. بوح خالد خليفة

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

“أيها الموت لماذا أخطأتني للمرة الألف، أنا في مرماك أجول الشوارع وحيدًا، أي حياة تافهة تعاقبني بها، في شوراع فارغة إلا من جثث أحبتي، أيها الموت لم نعد نخافك، نحن من يبحث عنك، وتفلت كزئبق من راحتنا”.. لا يجد الروائي السوري خالد خليفة كيانًا يمكن الحوار معه ومعاتبته على ما حل به وبمحيطه، إلا الموت، وعندما يختار أن يبوح عن تجربته كإنسان سوري عاش طوال السنين العجاف الماضية في دمشق، فإنما يستهل بوحه، بعتاب الرصاص الذي أصاب ذلك وأخطأ ذاك، وجعل من المدينة مقبرة تبدو معها السكينة في المنزل المظلم خيرًا من التجوال في الشوارع.. الشوارع التي لا يرى فيها إلا جثث أحبته.

في الفيلم القصير “منفي في بيتي” من إخراج لينا سنجاب، الذي يبدأ وينتهي ببوح خالد، تبدو كل التفاصيل اليومية التي اعتاد عليها هي كلمات باتت جزءًا من قاموس السوريين اليوم في تعاطيهم مع الراهن المحيط. لغة معتمة وقاسية تلك التي عليك التعامل فيها مع يومك كسوري، تحاول التكيف بها مع صوت القذائف والقصف اليومي، وانقطاع الكهرباء والماء، وصعوبة الحصول على الوقود وتأمين التدفئة في الشتاء، وغيرها وغيرها. كلها تجعل الكاتب الذي يقضي ساعاته في الكتابة، بل وقضى الحيز الأكبر من سنوات عمره في ممارستها، يجدها مجرد كلام، طالما أن كل ما كتبه، وسيكتبه، لن يقدر على “مساعدة طفل”، الكتابة تتحول إلى جزء من تجليات العجز، حيث ما ينتجه من صفحات لا يغير شيئًا من راهنه أو راهن من حوله، يتعزز حضور هذا العجز في النفس، بمكونات الحياة الكئيبة، التي تمثل العزلة أحدها.
ساعات طويلة يقضيها خالد بالكتابة في المقهى، يعود بعدها إلى البيت، البيت الذي تمسّك به ولم يغادره في ظل حرب لم تبقِ ولم تذر، يغدو وجوده به حسب قوله حكاية، وكل شيء قابل في ظل هذه العزلة أن يتحول إلى حكايات قد لا يكتبها الكاتب كرواية أو نص سردي، إنما يتحسس تفاصيلها كجزء من محاولة التغلب على العزلة، أو فهمها بطريقة مختلفة تخفف من آثارها عليه، لعلّ تلك الحكايات هي ما تجعل هذا الأمل متجددًا في عينيه، الأمل الذي لا يزال يتمسك به.
يتجول خالد بسيارته في شوارع من دمشق، يصعب بالفعل تمييزها حتى لمن يحفظ المدينة عن ظهر قلب، في ظل ظلام دامس، يدلل على الأمكنة بأسمائها مدركًا أنه من الصعب تمييزها اليوم، بعتمتها التي تبعث العتمة في كل شيء داخلها وفي كل من يسكنها، ثم يقرأ من يوميات يحتفط بها، جملة من الأحداث التي حدثت منذ ست سنوات، حيث “رحل أكرم أنطاكي ولم تودعه نصف دمشق كما يليق به، وقُصف جسر دير الزور المعلق، وقُصفت مئذنة الجامع الأموي بحلب، وقُتل كثير من السوريين، وهيثم سافر إلى مصر وستلحقه ديمة وشادي، ريتا تفكر بالسفر إلى ألمانيا أو لندن، ولينا سافرت إلى لندن، وفي الأخير أنا لا أستطيع النوم منذ أسابيع عديدة” يلخّص فيما قاله، تلك التفاصيل اليومية التي على أي سوري، خاصة ممن بقوا في سوريا، أن يتكيف معها، وأن لا يراها ضربة قاضية في حياته، حيث ستسدد الحياة المزيد من الرميات المشابهة غدًا وبعده.

بالطبخ والقراءة والكتابة، يلون حياته التي من الصعب رؤية أي جانب مشرق فيها، فهو يشعر بالوحدة، ويعيش العزلة، على وقع الأنباء اليومية العابقة بروائح الدم والنار، لكنه يرفض تمامًا بناء ذاكرة جديدة في مكان جديد، يريد البقاء.. البقاء فقط، والكتابة التي علها توسّع من نافذة الأمل الذي ما زال متمسكًا به.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة