التقاضي الاستراتيجي.. كيف تتحول القضية الخاسرة إلى نجاح

محكمة العدل الدولية 12 من كانون الثاني 2010 - (وكالة إيران برس)

camera iconمحكمة العدل الدولية 12 من كانون الثاني 2010 - (وكالة إيران برس)

tag icon ع ع ع

عادةً تقوم المرافعة أمام القضاء على إثبات الادعاءات الفردية، من قبل أصحاب العلاقة، من خلال تقدم المحامي بمرافعة قانونية (مداخلة) أمام القاضي تتضمن دفاعًا عن الشخص المعني بالأمر (الموكل).

والمرافعة (legal argument) هي إجراء معين يقوم به المحامي أو النائب العام في المحكمة من اتهام أو أوجه الدفاع.

بالإضافة إلى هذا الشكل من التقاضي الذي يهتم بالقضايا الروتينية اليومية، هناك قضايا تعزز تأثيرها على القانون ليتم الوصول إلى تعديل معين فيه، لتتجاوز نطاق الحالة الفردية من أجل كسب القضية المطروحة أمام القاضي، إلى إحراز تغيير شامل في المجتمع، باستخدام الوسائل القانونية.

ما التقاضي الاستراتيجي؟

بحسب مؤسسة “Open Society” الأمريكية المعنية بدعم المجتمع المدني والعدالة، يرتكز هذا التقاضي (strategic litigation) على تقديم دعوى من قبل منظمة حقوقية أو فرد، بإمكانها من خلال نجاحها تغيير سياسات أو ممارسات قانونية عامة.

أو في حال خسارتها، بإمكان هذه الدعوى تسليط الضوء على الظلم وزيادة الوعي حول القضية، إذ يعتمد على الإكثار من استعمال القضية الخاسرة نفسها بعدة مرافعات في عدة محاكم من قبل أكبر عدد ممكن من المحامين بهدف تغيير في التعاطي مع هذه القضايا.

وهذا التقاضي المتعلق بالتأثير ينطلق من حث القضاء على أداء دور ريادي من شأنه تغيير أنماط وسياسات غير عادلة في الفقه القانوني.

آلية عمل التقاضي الاستراتيجي

تتجلى فكرة هذا النوع من التقاضي، من خلال الأسبقيات القضائية (Precedents)، وهو حكم تصدره المحكمة لأول مرة في قضية فيؤسس قاعدة قانونية تأخذ بها المحاكم الأخرى المساوية لها والأدنى منها والواقعة في نطاق اختصاصها للحكم، في القضايا المماثلة للقضية الأولى.

ونشأت الأسبقيات القضائية في الدول التي تعتمد النظام القانوني الأنجلوسكسوني (Common law)، ويأخذ هذا النظام بالسابقة القضائية كحجة ملزمة ومصدر للقاعدة والمبادئ القانونية، كبريطانيا وأمريكا.

إلا أن التقاضي الاستراتيجي استخدم أيضًا في الدول التي تعتمد النظام القانوني اللاتيني (Latin system)، إذ يبقى المشرع هو الذي يضع القاعدة القانونية، فيما ينحصر دور القضاء في تطبيقها.

واستعمل محامون في لبنان التقاضي الاستراتيجي، حيث أدى استخدام هذا التقاضي في مرافعة نموذجية لتعديل قوانين مكافحة التحرش بالعمل.

وتعتبر سوريا من بين البلدان التي تعتمد النظام اللاتيني في قوانينها العامة والخاصة.

حراك قانوني لتعديل الأحكام التشريعية

حين يتم الطعن من قبل المحكمة في مادة قانونية، ضمن قضية تضم فئة اجتماعية واسعة، يظهر دور التقاضي الاستراتيجي بأوضح أشكاله.

وأهم استعمالات التقاضي الاستراتيجي هي المرافعة النموذجية، والتي تشكل أداة دفاع جاهزة للقضية المراد تسليط الضوء عليها، التي تكون بيد المحامي أو الفرد العادي، أهم ما فيها هو إمكانية تقديمها أمام محاكم مختلفة من أشخاص مختلفين في أوقات مختلفة.

ومع التداول بالمرافعة، والحكم لصالحها من قبل محكمة واحدة على الأقل، تصبح بمثابة مستند سابق للدعوى القضائية، تمامًا كالقاعدة القانونية المطعون فيها.

ويؤدي هذا التداول إلى إعطاء القضية محل المرافعة ثقلًا معينًا، ليصبح هناك نقاشًا اجتماعيًا حولها، ويتم تحديد مصائر أشخاص بواسطتها.

ونشرت “المفكرة القانونية” في تشرين الأول لعام 2016، مرافعة نموذجية للدفاع عن اللاجئين في لبنان المهددين بالترحيل والاحتجاز التعسفي.

كما شاركت منظمة العفو الدولية في الاضطلاع بعمليات التقاضي الاستراتيجي منذ 1987 على الأقل.

فوائد خسارة القضية

وفق ما قاله الكاتب بن ديبورتر، في كتابه “The upside of losing” تحمل خسارة القضايا التي تمس الأفكار المهمة مرآة للمجتمع عن الوضع القانوني غير العادل، إذ تبين فشل النظام القانوني في حماية حقوق معينة.

وهذا الفشل بالنسبة لديبورتر يؤدي إلى ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول: الأكثر إيجابية، وهو تشكيل الخسارة ضغطًا على السلطات التشريعية لكي تسن قوانين أو تعدلها، أي أن تصنع الخسارة غضبًا شعبيًا على البرلمان في الدولة، وهو احتمال يصعب تخيله في سوريا وسط تحكم النظام السوري بمجلس الشعب بدمشق.

الاحتمال الثاني: وهو الأكثر واقعية من الأول، وهو أن تؤدي خسارة القضية إلى تعزيز الوعي العام لأهمية القضية المطروحة وأيضا لعدالتها.

الاحتمال الثالث: وهو أن تؤدي الخسارة إلى تحويل القضية إلى قضية رأي عام حول الموضوع، مؤيدًا أو معارضًا، لتجذب هذه الخسارة اهتمام الإعلام من خلال إعطاء وصف قانوني لما يحدث، وبالتالي تفسير القانون للرأي العام.

قيصر يدلي بشهادته في الكونغرس الأمريكي – 2014 (حساب معاذ مصطفى عبر تويتر)

محو أمية قانونية

يستخدم التقاضي الاستراتيجي لتأمين حق الأشخاص المهمشين بالوصول إلى القضاء الذين يعجزون لفهم حقهم القانوني، أو غير قادرين على تحمل أعباء المحامي.

تقدم المرافعة النموذجية في حال انتشارها بين القضاة وسيلة للدفاع عن الفئة المهمشة المعنية حتى في ظل غياب محامي، ليدقق القاضي في الحجج الواردة في المرافعة الجاهزة. تظهر هنا المرافعة النموذجية كمساعدة قانونية من نوع غير تقليدي.

كما يكون لهذا التقاضي الاستراتيجي أبعاد ثقافية عميقة لحلول اجتماعية ممكنة إزاء التصرفات غير المرغوب بها (كالأشخاص المدمنين) أو حتى الصلة بين حماية المصالح الوطنية والتضامن الإنساني (كاللجوء)، أو إيصال معاناة المغيبين ومعتقلي الرأي في البلدن ذات الأنظمة الدكتاتورية.

ويعتبر التقاضي الاستراتيجي قادرًا، بحسب الكاتب ديبورتو، على تغليب المنطق القانوني على المسلمات الاجتماعية والسياسية، والأهم من ذلك، هو انعكاس هذا التخاطب المنطقي على الفئات المهمشة نفسها، بما يتضمن من تمكين وتعزيز ثقافة المهن القانونية والرأي العام في المجتمع.

التقاضي الاستراتيجي في سوريا

يعمل المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، على إدخال التقاضي الاستراتيجي في القضية السورية، من أجل محاسبة الانتهاكات الجسيمة المرتكبة في سوريا من قبل جميع الأطراف الناشطة بالنزاع، خاصة من خلال دراسة وتوظيف مبدأ الاختصاص العالمي.

وبثَّت قناة “ARD” الألمانية عام 2018 فيلمًا وثائقيًا عن التقاضي الاستراتيجي لجرائم الحرب المرتكبة في سوريا، وذلك بمشاركة رئيس المركز السوري للإعلام وحرية التعبير، مازن درويش، ورئيسة وحدة العدالة ودولة القانون في المركز، يارا بدر، والمحامي أنور البني، ضمن شهود تمت مقابلتهم في الفيلم.

وقال المحامي السوري أنور البني، لعنب بلدي، إن آلية التقاضي الاستراتيجي لحماية حقوق الإنسان في سوريا، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب من كل الأطراف، ما تزال مستمرة في عدة محاكم في العاصمة الألمانية برلين.

ويوثق الفيلم الذي حمل اسم “شهود ضد الأسد” (Zeugen Gegen Assad) الدعوى التي رفعها المحاميان السوريان مازن درويش وأنور البني إلى القضاء الألماني بخصوص جرائم الحرب، إذ لم يكن ممكنًا التقاضي عبر المحكمة الجنائية الدولية لعدم كون سوريا عضوًا في المحكمة، بالإضافة إلى العرقلة الروسية الدائمة لأي محاولات تقاضي عبر مجلس الأمن.

بوستر الفيلم الوثائقي عن التثاضي الاستراتيجي ضد الانهاكات في سوريا

ملصق دعائي للفيلم الوثائقي “شهود ضد الأسد” 2018 – (المركز السوري للإعلام وحرية التعبير)

وفي 29 من تشرين الأول 2019، اتهمت المحكمة الإقليمية في مدينة “كوبلينز” الألمانية، اثنين من ضباط مخابرات النظام السوري السابقين المسؤولين عن ارتكابهما جرائم ضد الإنسانية في سوريا.

والمتهمان هم أنور.ر، المتهم بتعذيب أربعة آلاف شخص على الأقل في الفترة بين 2011 إلى 2012، نتج عن هذا التعذيب مقتل 58 شخصًا.

وأما المتهم الثاني فهو إياد.أ، المتهم بتعذيب 30 شخصًا على الأقل.

وجمعت المحكمة الأدلة الرئيسية بعد معرض الأمم المتحدة 2015، والذي صور جثث ضحايا التعذيب في سوريا في عهد بشار الأسد.

ومن المتوقع أن تبدأ محاكمتهما في شهر شباط المقبل.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة