رجل في الستين ترتمي عليه خيمته

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

تفاجأ الرجل الستيني بالكاميرا وهي تصل إليه، وداهم اللحظة بشكايته وهو يعلن أن خيمته ارتمت عليه البارحة، كان مبهوتًا، ولكنه أصر على إيصال شكايته من الشمال السوري معتبرًا أنه لا يستحق ذلك!

شعرتُ بأنني أعرف الرجل، وجهه مألوف، فيه طيبة ظلت ظاهرة رغم سواد المأساة التي حلت به، ربما كان معي في المدرسة الابتدائية، أو ترافقنا في سفر، أو كان جارًا لنا منذ زمن بعيد، هذا الرجل ليس غريبًا عني، وقد تكون مأساة التهجير هي ما تجمعنا!

الطائرات الروسية ساقت لاجئ الشمال السوري، وهي تقوم بهندسة البلاد على مقاس حليفها بشار الأسد، فروسيا تضع كل ثقلها الحربي والمعنوي مع بشار الأسد، ولا تترك مستشفى ولا مدرسة إلا وتقصفها من أجل أن تؤدّب المتمردين على الطاغية، فالعالم حسب المقاييس الروسية هو مكان نموذجي للطغاة، وعلى الشعوب أن تتوقف عن المطالبات المشبوهة بالحرية وبالكرامة، فالروس خلال المئة سنة الماضية ومنذ أن تركوا إبداعات تولستوي ودستويفسكي وتشيخوف، لم ينتجوا إلا الجيوش الجرارة والصواريخ والسجون التي لا تحدها حدود، ولم تنتج الثقافة الروسية خلال المئة سنة الماضية إلا ابتسامة ستالين، وغطرسة بوتين.

كان الثلج يلوّن محيط الخيمة وشيب الرجل الستيني يندمج بالبياض المحيط به، وكان البرد يتسلل إلى عظام الرجل الوحيد في خيمته التي ارتمت عليه خلال العاصفة الثلجية، ولكنه لم يشرح لنا التفاصيل، فقد عبرت الكاميرا إلى الخيام المجاورة. وهذه الكاميرات تتفقد الخيام كل شتاء بشكل استعراضي، بدلًا من أن تدعو العالم إلى إنشاء بيوت للسوريين ما دامت روسيا وإيران ترفضان إعادة السوريين إلى بيوتهم!

عاودتني قشعريرة البرد التي تحتل عظامي، ولكن وجه الرجل لم يفارقني وأنا أرتجف من جديد، ربما بسبب فيروس “كورونا المستجد” (كوفيد- 19) الذي حل بجسدي، العالم يدور حولي وأنا أتشبث بالرجل الستيني المبهور من الحال التي وصل إليها في وحدته، كنت أرتجف معه بعدما غادرته المفاجأة بوصول الكاميرا إليه.

قبل أيام بلغتُ الـ60، وصرتُ نظيرًا للرجل صاحب الخيمة الذي لم أعرف في أي مخيم هو، فالسوريون زرعوا البلاد بالخيام التي وصلوا إليها تحت مطاردات الطائرات الروسية المشغولة دائمًا بصناعة الندم في نفس كل سوري متمرد، والمشغولة أيضًا بفتح الطريق أمام استسلام السوريين لمخابرات النظام وإرضاء جلاديها الذين يطالبون بحقوقهم المشروعة في التعذيب وفي التنكيل الذي برعوا فيه منذ أيام حافظ الأسد حليف الروس والإيرانيين، الذين يجمعهم الاستخفاف بالسوريين ومحاولة إعادة هندسة عقولهم ومذاهبهم وتحويلهم إلى قطعان من كائنات التجارب.

طائرات بوتين هذه الأيام مشغولة بصناعة مأساة جديدة في أوكرانيا، ولم تلتفت إلى خيمة الرجل الستيني التي ارتمت عليه، فبوتين يبحث عن أمجاد جديدة لطائراته التي انتصرت في الشيشان وفي جورجيا وفي سوريا، وحطمت إرادة الشعوب بغرور القوة التي لن تجعل روسيا دولة حديثة، ولن تجعل السوريين يقبلون بالاحتلال الروسي أو الاحتلالات المتاخمة له.

انتابتني رجفة عميقة ودوار عنيف، ولم يكن أمامي إلا شيبة الرجل الستيني ووجهه المألوف الذي حقق انتصاره الصغير بإعلان مأساته في وقوع الخيمة عليه! تفكرتُ بدهشته التي أنسته للحظات مأساته في البرد، وتشبثتُ بصمته الذي داهمه قبل أن يشرح بالتفصيل مأساته، ولم يكن لخيمته كيان واضح كانت حشوة بين خيمتين، وبالكاد تتسع لجسده الذي كابد البرد ليلة البارحة وفي الليالي التي قبلها، تشاركتُ معه نوبة البرد، هو في مخيمه البعيد، وأنا على سرير يدور بي ويتحول غطاؤه إلى صقيع يعبر إلى عظامي، هو وحيد في خيمته وأنا لستُ وحيدًا، ولكن البرد لا يأبه بالناس الذين حولي، يهزني عميقًا، والرجل صار بعيدًا عني بعدما تجاوزته الكاميرا وتركته ليكابد ليلة باردة من جديد.

الطائرات الروسية تصطف على حدود أوكرانيا بانتظار تجمّد الأراضي في الشهر المقبل لتعبر إلى كييف وتحتلها معيدة السيناريو السوري بكل مآسيه، فروسيا التي استسلمت لغرور القوة لن تتوقف عن تهديد العالم، ومحاربة الشعوب، روسيا التي أوصلتني إلى هذه البلاد البعيدة، وأوصلت نظيري الستيني إلى خيمته في الشمال السوري، تبشر نفسها بصناعة مخيمات جديدة في أوكرانيا، وإعادة قصة الشيشان من جديد. إنها روسيا التي تنتحر بالكراهية التي توزعها على الشعوب، وهي تحلم دائمًا بدكتاتور ومخابرات ودبابات وأجهزة إعلام لا تنتهي أكاذيبها، هذه هي الحضارة التي يبشرنا بها راسبوتين الجديد.

تتوقف رجفة البرد، ويطل عليّ وجه صديقي الستيني، آخذ فسحة من توقف الألم والبرد، أبتسم للحظة قبل وصول الرجفة القادمة، ولكنني أشعر بالدفء وأنا أتأمل طيف رجل الخيمة البعيد!




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة