tag icon ع ع ع

شكلت الكتائب والفصائل في المرحلة الأولى من بداية العمل المسلح ما يعرف بـ “الهيئات الشرعية”، التي بدأت كلجان تحكيم لفض النزاع بين الفصائل، سرعان ما تحولت إلى محاكم ثابتة يحكم فيها “الشيخ” في أغلب الأحيان بدماء الناس وأموالهم، وليس الحقوقي أو القانوني.

هنا بدأت مرحلة الانحدار، كما يقول الحقوقيون الذين استُطلعت آراؤهم في هذا التحقيق مثل أسامة أبو زيد، بتسليم شرعيين (غالبًا لا يحملون شهادات شرعية) مناصب قضائية، وفي أحسن الحالات تسلم علماء شرعيون هذه المناصب، وتم إقصاء القضاة ورجال القانون التقليديين.

محاكم لتحكم بالتراضي وأخرى للبت بالجنايات

انقسمت الهيئات الشرعية منذ بداية تأسيسها إلى قسمين، الأولى لم تحكم بالجرائم والجنايات، سعت إلى فض النزاعات بالتراضي، ولم تكن تملك القوة التنفيذية للحكم بين الفصائل المتنازعة، وإنما اهتمت فقط بأمور المدنيين، وقد نشأت لسد فراغ خلّفه انسحاب مؤسسات الدولة، لتسيير الأمور التجارية والمعيشية والشرعية (زواج، طلاق، إرث…). وعند حدوث مشكلات كبيرة بين الفصائل كانت غالبًا ما تلجأ الأخيرة إلى لجنة تحكيم خارج المحكمة، يتم تعيينها من قضاة توافقيين بين الطرفين.

وهذا النوع من المحاكم يصح إدراجه تحت مسمى “محاكم الضرورة”، أو “قضاء الضرورة”، التي أفتى فيها كبار العلماء، أمثال رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يوسف القرضاوي، وفق شهادة أحد الحقوقيين.

أما القسم الثاني، فهي المحاكم التي امتلكت قوة تنفيذية، وكانت تحكم في الجنايات، وهي من يعتبرها القانون والشرع “غير شرعية”، فالقانون من جهته لا يرى شرعية لها بتنفيذ الأحكام وتعيين القضاة، والشرع ينص على تعطيل تنفيذ الحدود حتى استقرار البلاد ووجود ولي أمر، ويستبدل الحدود بالتعذير في ظروف عدم الاستقرار.

وبشكل عام كان قضاة المناطق المحررة (الجدد) يعانون من ضعف الخبرة، يقول أبو زيد “الأصل في القاضي، أن يدرس القانون لأربع سنوات، ثم يتابع في معهد القضاء إذا حصّل نسبة نجاح معينة، وبإتمامه السنتين في معهد القضاء، يؤهل كمساعد في قضاء الصلح، وبعد ذلك يبدأ بالترفع، أي أن دراسة ست سنوات في القانون لا تؤهل للحكم في القضايا الجنائية” ، غير أن ما فعلته الهيئات الشرعية، هو إرسال متدربين لدورات تدريبية لمدة شهر أو 45 يومًا يحكمون في قضايا الناس، وهو ما اعتبره حقوقيون “جريمة بحق القانون”.

حقوقيون: الهيئات الشرعية تخالف مبادئ الثورة

يرى قضاة ومحامون سوريون أنّ الهيئات الشرعية خالفت مبدأ فصل السلطات الذي نادت به الثورة السورية كأهم مطلب من مطالبها إلى جانب الإصلاح القانوني، “ونافت استقلالية القضاء، وكرست الديكتاتورية عندما هيمنت الفصائل المسلحة عليها”.

وبحسب حقوقيين مطّلعين على سير الأمور في سوريا، اضطرت بعض الكتائب إلى إنشاء هذه المحاكم لسد الفراغ، ولم يكن في الغالب بدافع “السيطرة”، وهي أيضًا تندرج تحت مسمى محاكم الضرورة، وفق راي المحامي عبد الناصر حوشان، في حين يلوم الكثيرون تقصير الائتلاف بملء هذا الفراغ.

كان للعسكريين رأي متوافق مع ما طرحه هؤلاء الحقوقيون حول عمل هذه الهيئات، إذ يقول قائد تجمع “فاستقم كما أمرت” أبو قتيبة، لعنب بلدي “في ظل الحروب وعدم الاستقرار كان تسلّط العسكريين على الحكم من النتائج الطبيعية عبر التاريخ، ولا يتم الحكم على النجاح في فصل السلطات حتى تنتهي الثورة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الكثير من الكتائب اضطرت للتحكم بمرفق القضاء بسبب عدم شغره من أي جهة سياسية أو قانونية، ولم يكن بدافع النفوذ والسلطة”.

أبو قتيبة القائد العسكري لتجمع فاستقم كما أمرت في حلب

أبو قتيبة القائد العسكري لتجمع فاستقم كما أمرت في حلب

 

ويرى أبو قتيبة أن القضاء “عبء” على العسكريين، مدللًا على ذلك بالمبادرات التي سعت لإنشاء قضاء مستقل بمساعدة الكتائب، التي تجاوبت معها بتأمين القوة التنفيذية المستقلة لها، ولكنها لم تنجح إلى الآن، بسبب “وجود الفصائل المتسلطة التي تحكم بالقوة، ولا يمكن بوجودها إنصاف الضعيف”.

 

 

 

غياب مفهوم الدولة وتعدد المرجعيات القانونية أهم المآخذ على عمل الهيئات الشرعية

يفتي حقوقيون ومحامون التقتهم عنب بلدي بـ “عدم شرعية إنشاء هذه المحاكم”، لأن تأسيسها يجب أن يستمد الشرعية من الدولة ومن الحاكم، وتعيين القضاة من مسؤولية السلطة القضائية، ويجب أن تتوفر الحماية للمحكمة وللقاضي ولقرار المحكمة في ظل الدولة، “بينما كل ما تقوم به الكتائب الآن من إقامة المحاكم وتعيين القضاة هو جرائم حرب برأي القانون”.

ويقول حقوقي (طلب عدم الكشف عن اسمه لأسباب أمنية)، إذا رأى الشرعيون بضرورة هذه المحاكم لملء الفراغ الذي قد تحكمه قوة السلاح في حال غيابها، فيجب أن يقتصر دورها في إطار القضايا المدنية، (زواج، إرث، طلاق، وما شابه ذلك)، وأن تقوم بالفصل في النزاعات بالتراضي، أما فيما يتعلق بالجنايات، فالحكم فيها (خارج إطار التعذير) بتطبيق الحدود في ظل الحرب وغياب الدولة والحاكم “أمر مرفوض شرعًا وقانونًا بالإجماع”.

ووفق رأي الحقوقي فإنه “كان من الممكن أن تستمد المحاكم شرعيتها من الائتلاف، الذي يمثل شرعية ثورية، ممثلة للشعب السوري بصفته جسمًا سياسيًا حاز على اعتراف 120 دولة، لكن تقصيره بهذا الأمر حال دون وجود مرجعية شرعية”.

من جانب آخر، يؤكد خبراء أنّ من أخطر سلبيات الهيئات الشرعية، هي “ازدواجية الأحكام”، إذ لا يوجد مرجعية قانونية ثابتة لها، فكل محكمة تصدر حكمًا استنادًا للشريعة الإسلامية، ولكن كل باجتهاده وفهمه لنصوص القرآن والسنة، بحيث من الممكن أن يحصل المتهم الواحد على حكمين مختلفين في المدينة نفسها أو ربما في الحي الواحد، وفي كثير من الأحيان يكون الحكم مخالفًا تمامًا لحكم المحكمة الأخرى “لأسباب كيدية بحتة”، بل تعدى الأمر في بعض الحالات إلى ما هو أبعد من ذلك، “إذ عاين عدد من المحامين حالات لمتهمين اختلف القضاة على أحكامهم في المحكمة نفسها”، وفق محامين عملوا في الداخل.

كما يؤخذ على هذه المحاكم أيضًا، ملاحقة المواطنين من أجل تأدية فروض يومية ومحاسبتهم، مقابل عدم ملاحقة مجرمين وقطاع طرق، (فقائد الكتيبة مثلًا لا يحاسب)، بما يجسد مفهوم “التجاوز عن القوي ومحاسبة الضعيف”.

المحامي عبد الناصر حوشان

المحامي عبد الناصر حوشان

لكن الحقوقي والمحامي عبد الناصر حوشان، يقر بفضل هذه الهيئات في ضبط 80% من أراضي سوريا، رغم سلبياتها، إذ حكمتها برهبة القاضي بدلًا من رهبة وسطوة السلاح، لا سيما عندما كانت تشترك في رئاستها أقوى الفصائل الموجودة بدلًا من أن يتفرد فصيل واحد بالسيطرة عليها، فكانت بهذه الحالة تشكل “مجتمعةً” قوة توازي المحاكم الخاضعة لسيطرة فصيل مستقل بنفس المنطقة، وكانت تشكل قوة ردع للأخيرة، ما يعني أنها حققت استقلالية إلى حد ما، وقد شهدت حالات تم إخضاع كبار القادة فيها للمحاكمة، كما شهدت حالات جلب لمعتقلين من داخل سجون الكتائب بالقوة، ترقى لاستعمال السلاح أحيانًا، مع جلب المتورطين بعمليات الاعتقال القسري والتعذيب بالسجون وإخضاعهم للمحاسبة القانونية.

 

 

 

 

 

تابع القراءة:

مقالات متعلقة