دراسة “حقوق الإنسان”.. تسخير العلم لخدمة الملف السوري

camera iconنظرة عامة على المشاركين خلال الدورة الـ45 لمجلس حقوق الإنسان- 14 من أيلول 2020 (UN/ جان مارك فيريه)

tag icon ع ع ع

يقول الكاتب الفرنسي فولتير إن “أعظم عمل إنساني هو رد العدالة لمن فقدها”، وعلى مدار أكثر من 11 عامًا تعرّض خلالها السوريون لمختلف أنواع الانتهاكات تحت سلطة النظام السوري، فتح اللجوء الباب لتحويل الضحية لشاهد على الحدث أولًا، وبعد الدراسة والتعمق والبحث لخبير ومتحدث وأخصائي ومحامٍ وحقوقي وغير ذلك، خدمة للقضية التي آمن بها.

ووجد بعض السوريون في مجالات الدراسة الحقوقية والإنسانية، حاجة عملية لتشريح القضية على أمل الدفع باتجاه معالجتها، أو الإسهام بذلك على الأقل.

حسام كتيلة، شاب سوري يدرس ماجستير في حقوق الإنسان في جامعة “يوتيبوري”، إحدى أعرق الجامعات على مستوى السويد والعالم، تحدّث إلى عنب بلدي عن التخصص الأكاديمي وآلية الاستفادة منه مستقبلًا وتوظيف تخصصه في ما يتعلق بالشأن السوري.

وقال حسام إن التوجه لدراسة حقوق الإنسان دافعه الحاجة، وهناك جيل مقيم خارج سوريا يرتبط الأمر بهويته، فالقضية السورية جزء من هوية السوري، لا يحملها فقط، بل يعيشها ويسعى للعمل عليها لأجل القضية والهوية معًا.

السوريون المعنيون بقضايا حقوق الإنسان، سواء كحقوقيين أو خبراء حقوق إنسان، كثر في الحقيقة، بعضهم يتجه لتشكيل لوبيات والعمل بشكل منظم في دول أوروبية، لكن بعضهم لا يزال يعمل بشكل مستقل. ومع ذلك، فكل التنظيمات المتعقلة بمسألة المحاسبة والمسائلة ما تزال غير كافية، باعتبار أن التوجه والإرادة والحاجة أكبر من ذلك، وفق الشاب.

يشدد حسام على عدم فصل الهوية عن وجود السوريين خارج بلادهم، موضحًا أن القضية يجب ألا تُنسى حتى لا يُنسى أصحابها، والسوري باعتباره صاحب القضية المعايش لها فهو أولى بامتلاك أدوات الدفاع عنها، حتى لا يتركها رهينة بأيدٍ غير سورية.

وجهة نظر غير سورية

ما جرى العمل عليه ضمن الملف السوري أخذ إلى حد بعيد وجهة النظر الأمريكية والأوربية للموضوع، كالعقوبات ذات التوجه الغربي، فعند فرض عقوبات على النظام أو أي سلطة مستبدة أخرى، تعي أوروبا وأمريكا أن النظام لن يتضرر بشكل مباشر وسيستمر بالسلطة، بمعنى أن العقوبات لن تزيح النظام.

والغرض من العقوبات خلق حالة تأجيج شعبي ليطالب الشعب بإزالة النظام لإزالة العقوبات كنتيجة، لكن الفارق أن الشعب السوري نادى بإسقاط النظام قبل العقوبات، فقوبل بوحشية، فجاءت عقوبات تحاول تأجيج شعب ثائر أصلًا ما يعني الوقوع في حلقة مفرغة.

وأوضح كتيلة أن العقوبات على أنظمة من هذا النوع لا تؤتي ثمارها، ولم يحصل ذلك سواء في فنزويلا أو إيران أو العراق وغيرها، فعلى العكس، الأنظمة المستبدة تحاول من خلال العقوبات تسويق أيديولوجيتها، بالقول إن سبب المشكلة يكمن في العقوبات الغربية، ما يعني أن العقوبات ليست حلًا، فعند امتلاك السوري لإدراك ومعالجة للموضوع من وجهة نظر سورية، ستكون النتيجة أجدى حتمًا من تطبيق وجهة النظر الغربية.

وحول الآلية العليمة لدراسة حقوق الإنسان، يبيّن الشاب أن أول سنة من الماجستير مخصصة لدراسة المواد النظرية، أما الفصل الأول من السنة الثانية فهو تدريب يختاره الطالب ثم مشروع التخرج في الفصل الثاني الأخير، والماجستير في هذه الحالة ورغم أنه متخصص في حقوق الإنسان، غير مرتبط بحقوق الإنسان ومفهومها القانوني، فحقوق الإنسان، ومنذ نشأتها نظريًا، كانت عبارة عن تطوير قوانين، والحقوق الواجب توفيرها للفرد مذكورة ومتعارف عليها وتصادق عليها دول معينة، فينظر الاختصاصيون لكيفية تطبيق هذه الدول للقوانين على أراضيها ضمن نظامها السياسي.

فمثلًا بالنظر لحقوق الطفل، توجد العديد من البنود بهذا الصدد في اتفاقيات حقوق الإنسان لدى الأمم المتحدة، ويراقب اختصاصيون تطبيقها في الدول التي صادقت على هذه الاتفاقية، وفي حال كانت تطبقها فهو أمر جيد، أما إذا كانت الدولة تخل بهذه البنود فهناك لجان مراجعة وتدقيق تتولى توجيه انتقاد أو توبيخ للدولة، حسب حجم التجاوزات والانتهاكات.

يقول حسام كتيلة، “هذه النظرة لحقوق الإنسان بدأت تختلف منذ بداية القرن الحادي والعشرين، فهي ليست مجرد حقوق، وهي كل لا يتجزأ، ومن غير المنطقي وجود دول تراعي حقوق الإنسان وأخرى لا تراعي تلك الحقوق، لمجرد أن القيادة السياسية في الدولة لم تصادق على المعاهدة أو الاتفاقية، ما يعفيها من تقديم هذه الحقوق”.

الحقوق ليست شيئًا تمنحه الدولة للمواطن، لكنها حق أصيل للمواطن يفترض أن تصونه الدولة، لا تمنحه، سواء كانت موقعة على الاتفاقية أم لا، وفق كتيلة.

ورغم أن الأمم المتحدة لاتزال تحصر عملها في إطار القوانين، تنظر الدراسة في هذا المجال لحقوق الإنسان على أنها أبعد وأوسع من حقوق مذكورة على الورق تصادق الدولة عليها أو لا، فالموضوع اجتماعي أيضًا، يشمل كيفية تطبيق الدولة لحقوق الإنسان، فلتكون حقوق الإنسان مصانة في دولة ما فلا يجب أن تكون مصانة من قبل السلطة فقط، بل أن تكون هناك أرضية اجتماعية للموضوع، وبالحديث مثلًا عن موضوع المساواة، فبوسع الدولة فرض قوانين تمنع العنف المنزلي، ولكن إذا كانت النظر الدونية للمرأة مستشرية في المجتمع فهذا لا يكفي، إذ من الممكن أن تتغير الحكومة أو الحزب الحاكم فتلغي القانون نفسه، هذا بالحديث عن دولة ديمقراطية أصلًا.

وثائق متناثرة في غرفة في مكاتب مهجورة لـ"حزب البعث" في شمالي سوريا- أيلول 2013 (سيجا)

وثائق متناثرة في غرفة في مكاتب مهجورة لـ”حزب البعث” في شمالي سوريا- أيلول 2013 (سيجا)

آلية العمل

حقوق الإنسان يجب أن تكون باتجاهين، من السلطة والمجتمع أيضًا، لاستدامة هذه الحقوق.

والوضع في سوريا، برأي حسام، يتجاوز حقوق الإنسان في إطارها النظري، إذ يمكن مثلًا العمل في المراقبة القانونية أو الإسهام في تقديم خبرة بشؤون حقوق الإنسان عبر التوثيق والمراقبة ورفع التقارير، لكن الوضع في سوريا أوسع وأشمل، ويجب أن يكون هناك نوع آخر من الدراسة مستخدم في هذه الحالات، كدراسات ما بعد الحروب، والعدالة الانتقالية والاجتماعية، أي أن حقوق الإنسان مظلة واسعة شاملة، يندرج تحتها الكثير من المسميات والتخصصات الواضحة في التعامل مع حوادث معينة.

وإذا كنا ننظر للوضع في سوريا، فعند رحيل النظام والتوصل لنظام بديل لا بد من وجود أشخاص لديهم خبرة في آليات بناء مجتمع ديمقراطي بعد الحروب، أو بعد انهيار الأنظمة الاستبدادية، كون المجتمع واسع وحاجته واسعة جدًا بعد أزمة إنسانية بهذا العمق، وهناك حاجات إنسانية وأخرى اقتصادية، وحقوق الإنسان يمكن أن تكون مهتمها التدقيق والتوثيق ورفع التقارير والبناء المجتمعي.

قبل دراسة الماجستر تخرّج حسام كتيلة من كلية الإعلام، بتخصص بناء الرأي، وأوضح أن الدمج بين الدراستين يفيد بأكثر من طريقة، فبناء الرأي توجه نحو أصحاب السلطة والمتأثرين بها، كتوجيه ضغط على أصحاب السلطة وبناء الرأي الموجه للشعب.

وتجنبًا لإعادة السيناريو التونسي والمصري، فلابد من وجود تخصصات من هذا النوع تراقب مسار الدولة والسلطة حتى لا يرى الحاكم إمكانية للاستئثار بالسلطة والاستبداد بها.

وحول آلية العمل بعد الرسالة، أوضح الشاب إمكانية العمل إلى جانب الحكومة في المنحى الاستشاري، أو خارجها ضمن القطاع المدني، للرقابة على الحكومة نفسها ونقدها لإشعارها برقابة دائمة تشبه رقابة الإعلام، لكنها أكثر شرعنة ربما، مع تواصل مستمر مع المنظمات الكبرى، كـ”العفو الدولية”، و”هيومن رايتس ووتش”، لإشعار السلطة بالضغط الدائم.

بواعث أمل

وحول ضيق حيز المحاكمات التي تحدث بحق متهمين بارتكاب جرائم حرب، أوضح حسام كتيلة أن محدودية الإمكانات تلعب دورًا في هذا الصدد، فالعاملون على الأمر دوائر ضيقة، معتبرًا أن من حوكموا في أوروبا خطوة على طريق النجاح، وهو أمر جيد ضمن إمكانات محدودة، بالنظر لجهد كبير تتطلبه المحاكمة، من أدلة ووثائق ومحامين وحقوقيين.

من غير المنطقي مطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة باتخاذ دور أكبر في قضايا من هذا النوع، طالما أن الأمم المتحدة التي يعمل المجلس تحت رايتها، تمثل الأمم الديكتاتورية والأمم الديمقراطية على حد سواء، فتخوين الأمم المتحدة، أو التقليل من شأن جهودها في هذا المجال صحيح، لكن ما نوعية الخدمات التي يمكن أن تقدمها في هذا الصدد؟

الأمم المتحدة، بمجالس حقوق الإنسان التي ترعاها، غير قادرة برأي حسام على تحقيق عدالة اجتماعية، والأمر يتطلب دورًا أكثر فاعلية لمنظمات المجتمع المدني، مع مراعاة أن الوضع بالغ التعقيد ويتطلب جهدًا ضخمًا، فمحاكمة فرد مثل أنور رسلان تطلبت أكثر من عامي عمل انخرط فيها حقوقيون ربما ليسوا موظفين، فبعضهم يعمل على القضية خارج وظيفته، لكن المحاسبة تتطلب تمويلًا وجهودًا أكبر وكوادر أكبر أيضًا، وخططًا ورؤى وتفرّغًا وموارد كبيرة باعتبار أن حجم الكارثة أيضًا كبير، حتى لا تتحول العدالة لمسألة جانبية يطالب بها الحقوقيون خارج الدوام الرسمي.

مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة

بالنظر لنوعية الخطاب الذي تقدمه منظمات المجتمع المدني، فيمكن تحليله في إطارين، فالدول تحاول الموازنة بين المبادر والمصالح، ونحن كسوريون في الخارج نسعى لخلق صوت وتأثير، ما نزال غير قادرين على تقديم مكاسب لهذه الدول، فلا بد من أرضية تجمع السوريين قبل التفاوض مع الآخرين.

 

يشدد حسام كتيلة على أن التطبيع مع النظام يتعارض مع المحاسبة والمسائلة، لكن مع ذاك فهناك دول عربية منخرطة بهذا الاتجاه، لكن القضية في نهاية المطاف هوية لا يجب التفريط بها، وهناك جيل داخل سوريا يعاني ظلم النظام وتبعيات الثورة، ومن المتوقع أن يقوم بتحركات مستقبلية في هذا الإطار، وألا ينتهي الأمر عن هذا الحد، كما يرى الشاب.

وعلى مدار السنوات الأخيرة برزت بعض المحاكمات على السطح، باعتبارها جرت بحق ضباط سابقين في صفوف النظام، لا عناصر، ما يعني تغطية إعلامية أوسع رافقت هذه المحاكمات.

وفي 19 من حزيران 2020، ألقت السلطات الألمانية القبض على الطبيب موسى، المتهم بتعذيب المعتقلين وحرق أعضائهم التناسلية خلال عمله طبيبًا في سوريا.

وعمل علاء موسى طبيبًا في سجن لـ”المخابرات العسكرية” بمدينة حمص عام 2011، كما عمل طبيبًا وعميلًا في جهاز المخابرات بمستشفى “المزة العسكري” رقم “601” المعروف باسم “المسلخ البشري”، حيث التُقطت صور “قيصر”.

وورد في أمر توقيف الطبيب، أنه في نهاية نيسان 2011، بدأت قوات النظام السوري باستخدام “القوة الوحشية” لقمع جميع أشكال الحراك المناهض لسياسة النظام، ولعبت المخابرات السورية حينها دورًا أساسيًا في ذلك، وكان الهدف وقف الحركة الاحتجاجية بمساعدة من المخابرات في أسرع وقت ممكن وتخويف السكان.

ولهذه الغاية، ألقي القبض على شخصيات معارضة، واحتُجزوا وعُذبوا وقُتلوا في جميع أنحاء سوريا، بحسب بيان أمر التوقيف.

وفي نيسان الماضي، عرضت المحكمة العليا في فرانكفورت، غربي ألمانيا، مجموعة من التسجيلات المصوّرة، بعضها من مصادر مفتوحة، وبعضها نُقل عن طريق الآلية الدولية المحايدة والمستقلة المعنية بسوريا.

وتضمّنت التسجيلات المصوّرة وصفًا لزميل سابق مزعوم لعلاء موسى، اتهمه بتعذيب المرضى في مستشفى “حمص العسكري”.

وأقرت المحكمة 18 تهمة موجهة لموسى، لتبدأ في كانون الثاني 2022، جلسات المحكمة بـ18 تهمة تعذيب، بعد أن كان مقررًا أن تفتتح جلسات المحاكمة بثماني تهم فقط.

ويعتبر الطبيب موسى ضالعًا في العنف الجنسي، والتعذيب، وقتل مدنيين في المستشفى العسكري وفرع “المخابرات العسكرية” في حمص.

المتهم الطبيب علاء موسى في جلسة محاكمته الأولى داخل المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت غربي ألمانيا، وبجانبه محاميا الدفاع أسامة العجي وأولريش إندرس- 19 من كانون الثاني 2022 (AFP)

المتهم الطبيب علاء موسى في جلسة محاكمته الأولى داخل المحكمة الإقليمية العليا في فرانكفورت غربي ألمانيا، وبجانبه محاميا الدفاع أسامة العجي وأولريش إندرس- 19 من كانون الثاني 2022 (AFP)

هذه القضية سبقها في محاكمة الضابط السابق قي المخابرات العامة السورية، أنور رسلان (58 عامًا)، والحكم عليه بالسجن المؤبد (15 عامًا على الأقل)، في 13 من كانون الثاني 2022، بقرار من المحكمة الإقليمية العليا “كوبلنز”، جنوب غربي ألمانيا.

دانت المحكمة رسلان بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما فيها التعذيب، و27 جريمة قتل، و25 حالة اعتداء تشمل العنف الجنسي (قابلة للاستئناف).

وكانت المحكمة أصدرت، في 24 من شباط 2021، حكمها الأول بحق العنصر السابق في المخابرات العامة إياد الغريب (45 عامًا)، بالسجن لمدة أربع سنوات ونصف السنة، لإدانته بالتواطؤ في ارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

ولا يعترف النظام السوري بالتعذيب في مراكز الاعتقال التابعة له، بالإضافة إلى إنكاره صور “قيصر” التي سرّبها مصور عسكري منشق، والتي كانت الدليل الأبرز في محاكمة أنور رسلان.

أما الضحايا الذين يُقتلون في أقبية وسجون النظام، فيتم تسجيل سبب الوفاة بأنه “سكتة قلبية” أو “فشل تنفسي”، مع الحرص على توثيق الجثث عن طريق تصويرها وترقيمها بما يدل على صاحبها، وهو ما أدى لاحقًا إلى تسريب هذا الكمّ الكبير من الصور على يد “قيصر”، وهي 55 ألف صورة لجثث معتقلين قُتلوا في المعتقلات.

شخص يحاول التعرف على أحد أقربائه المختفي في سجون النظام السوري من خلال الصور المسربة من قيصر - 13 من تموز 2020 (عنب بلدي / يوسف غريبي )

شخص يحاول التعرف على أحد أقربائه المختفي في سجون النظام السوري من خلال الصور المسربة من قيصر – 13 من تموز 2020 (عنب بلدي / يوسف غريبي )




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة