الشهيد سعيد مدور … «راح الحنون يا إمي»

tag icon ع ع ع

«مو وقتها… خليها للمائدة اللي فوق» أجابني سعيد حينما ناديته ليشاركنا وجبة الطعام بينما كنا نستعد للعملية، يقول صديق سعيد ورفيقه في المجموعة التابعة لكتيبة شهداء داريا. «كنا نجهّز لعملية هجومية على أحد مواقع الأمن والشبيحة في المدينة، وكان سعيد من أكثرنا حركة ونشاطًا، كان موقنًا أن العملية ستنجح.»

ليومين سابقين كانت كل حركات وتصرفات سعيد تقول «حاسس حالي لح استشهد»، ذهب إلى أحد الجدران التي كتبت عليها أسماء الشهداء، ليكتب اسمه إلى جانبها، وكأنه كان يعلم أن ساعات فقط تفصله عن الانضمام لهم، يقول رفيق آخر من رفاق السلاح. كثر حديثه عن ابن عمه الشهيد خالد ورفيقه الشهيد هشام أبو بهاء وكان يقلد حركاتهم وطريقة كلامهم «اشتقتلهم كتير وبدي شوفهم» وكأنه كان يعلم أن اللقاء قد اقترب، يتابع صديقه. وصباح يوم تنفيذ العملية وبينما كان جالسًا مع بقية أعضاء المجموعة أوصاهم «أمانة ياشباب إذا استشهدت بتصورونيوبتبعتوا الصور لأمي وأهلي.»

الشهيد سعيد مدور (أبو موفق)

الشهيد سعيد مدور (أبو موفق)

كانت أمه أغلى من لديه، وكان أكثر ما يخافه حزنها أو شعورها بالقلق، كان حنونًا على أمه وإخوته، وحين انضم للجيش الحر لم يخبر والدته بذلك وبقي متكتمًا على الأمر لثمانية أشهر كي لا تشعر بالخوف أو القلق، تقول شقيقته التي تتابع القول: سعيد أخي كنا نناديه أبو موفق وكان اسم على مسمى، كان سعيدًا موفقًا بكل شيء، كان من طلاب المساجد وتعلم القرآن في مسجد المصطفى في المدينة، درس الثانوية التجارية فوُفّق فيها وكان الأول على دفعته على ريف دمشق والثاني على مستوى سوريا، فدخل كلية الاقتصاد بجامعة دمشق وتابع دراسته حتى بداية الثورة وكان حينها في سنته الثانية، فقرر ترك جامعته والتفرغ للعمل الثوري. بدأ بالمشاركة في المظاهرات فكان في الصفوف الأولى، واستمر بالعمل الثوري مشاركًا في النشاط الإغاثي لاسيما مع توافد العائلات الحمصية إلى داريا، كما كان يسهم في المجال الطبي فيعمل على إسعاف الجرحى والمصابين، وتعرض للإصابة بينما كان يسعف أحد المصابين إلى المشفى الميداني في يوم السبت الأسود 4 شباط 2012.

محمد أحد أصدقائه الذين تعرف عليهم أثناء الثورة وخرجا معًا في المظاهرات وعملا معًا في إسعاف الجرحى والمرضى يقول: كان أبو موفق حريصًا وحذرًا جدًا، كان يأخذ أقصى درجات الحيطة أثناء المظاهرات وعمله الإغاثي أو الطبي خوفًا من أن يقع في أيدي الظُلّام، مع أنه كان موقنًا أن المكتوب «ما منه مهروب»، وكان على الدوام يقول «الله يطعمني الشهادة ويحميني من الاعتقال». وفي الأول من أيار 2012 قرر الانضمام للجيش الحر معلنًا بذلك بدء حياة الجهاد حتى النصر أو الفوز بالشهادة، وقرر إخفاء الأمر عن أهله، يتابع صديقه محمد، والطريف في الأمر أن قوات الأمن داهمت محل أخيه في ساحة الحرية في داريا في نفس يوم انضمامه للجيش الحر فاعتقلوهما معًا، لكن وبعد لحظات قرروا الإفراج عن أبو موفق بينما أخذوا أخاه معهم، دون أن يعلم لماذا اعتقلوا أخاه وتركوه.

حين كان يعمل في الإغاثة والإسعاف كان يزورنا مرة في الأسبوع، تقول شقيقته، كان يمضي معنا أغلب اليوم يطمئن علينا، لكن حين اختار الجهاد كان موقِنًا أن الشهادة في انتظاره، فقرر الابتعاد عن عائلته ووالدته شيئًا فشيئًا وقلل زياراته لهم حتى يكون وقْع فقده أخفّ وطأة عليهم. أصر كثيرًا علينا أن نخرج من سوريا، كان يريد أن يعمل ويجاهد وباله مرتاح وهو مطمئن على أهله. وقبل استشهاده بيوم اتصلتُ به لأودعه، لأنني كنت سأسافر في صبيحة اليوم التالي، ولم أكن اعلم أنه هو الذي يودعني… أوصاني كثيرًا «ديري بالك على أمك يا أختي». سألته يومها، مرة جديدة، إن كان ينوي ترك داريا والخروج منها، فرد عليّ غاضبًا «مابطلع إلا بحالتين… يا بطلع أنا والشباب كلها، يا بطلع شهيد… فهموها عاد». في اليوم التالي جاء خبر استشهاده… وأخبر أحد أصدقائه في المجموعة أهله أنه استشهد أثناء عملية هجومية على أحد مواقع عناصر الأمن والشبيحة في المدينة.

ويقول أحد الذين كانوا معه أثناء تنفيذ العملية: كانت عملية تفجير صاروخ ألقته طائرة الميغ على المدينة فلم ينفجر، فقرر الجيش الحر استخدامه في تفجير مكان تجمع قوات النظام، وأسندت المهمة إلى مجموعتها، حضّرنا لها بعناية وبدأنا بتنفيذها، وأثناء اقترابنا من البناء المستهدف تعرض أبو موفق لرصاصة قناص اخترقت كتفه ووصلت إلى قلبه، وبقي للحظات حيًا بين أيدينا، كان مبتسمًا وكأنه يرى نفسه بين من كان يتحدث عنهم بالأمس من الشهداء، وغادرت روحُه جسمَه وبقيت البسمة على وجهه. حزنّا لفقده ولكنّا فرحنا له لأنه حقق حلمه بالشهادة، عدنا إلى مهمتنا ونفذناها بنجاح وأسفرت عن خسائر كبيرة في قوات النظام، وقررنا أن نطلق اسمه على تلك العملية «عملية أبو موفق».

وصل الخبر إلى أمه، فكانت أول كلمة قالتها «راح الحنون يا أمي… راح الحنون».




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة