العلوم الإنسانية.. مفهوم غيّبه النظام وأعادت تشكيله الثورة في سوريا

camera iconطالبتين خلال حفل تخرجهما من إحدى الجامعات التركية-18 من تشرين الأول 2021(اتحاد طلبة سوريا/فيس بوك)

tag icon ع ع ع

“الثورات تكسر النمط المجتمعي، وفي بلادنا استطاعت أن تكسر جزء من الإهمال الكبير للعلوم الإنسانية”.

يتحدث يمان زباد (30 عامًا)، وهو مساعد باحث في مقر عمله في “مركز عمران للدراسات الاستراتيجية”، عن التغيير الذي صنعته الثورة في حياته الشخصية وفي الفكر المجتمعي تجاه العلوم الإنسانية.

درس زباد طب الأسنان لثلاث سنوات، انتهت باعتقاله إثر مشاركته في الحراك السلمي عام 2011، والذي كان نقطة تحوّلٍ في حياته من العلوم التطبيقية إلى العلوم الإنسانية.

تخصصات على الهامش

انقسمت العلوم الإنسانية خلال السنوات التي سبقت الاحتجاجات في سوريا، إلى قسمين، تخصصات محتكرة لفئة معينة، وأخرى مرتبطة بالمعدلات المتدنية، أو بالفشل الدراسي باعتبارها بلا فائدة.

العلوم الإنسانية:  التخصصات التي تمكن الطلاب من دراسة الإنسان من وجهات نظر متعددة مترابطة من خلال العلوم البيولوجية والاجتماعية لمعالجة القضايا والمشاكل الرئيسية التي يواجهها البشر.

“كانت العلوم الإنسانية مهمشة، وليست من ضمن خيارات الطلاب الذين يبحثون عن مستقبل جيد في بلادنا”، بهذه الكلمات برر زباد سبب اختياره لدراسة طب الأسنان.

وتابع، في حديثه لعنب بلدي، “كانت أحلامنا متوارثة، ما أريده يشبه ما يريده أبي، وما أراده جدي قي وقت سابق”، مشيرًا إلى أن الطب والهندسة هي الحلم المرتبط بالتفوق والنجاح، في المقابل ترتبط تخصصات الشريعة والعلوم الإنسانية بالدرجات المتدنية، وبمفاهيم خاطئة ومتوارثة.

وأوضح زباد أن الفلسفة ترتبط بالجنون والتاريخ بحفظ التواريخ فقط، وهذه العلوم جميعًا ترتبط بـ”البصم لا الفهم”، معتبرًا الصورة الذهنية للعلوم الإنسانية مشوهة في بلادنا.

“هذه التخصصات محتكرة على فئة معينة، ومستقبلها واضح لمن هم خارج هذه الفئة” هذا ما قالته الباحثة في المركز نفسه رهف اللحام، في حديث إلى عنب بلدي، حول رحلة انتقالها من تخصص الأحياء إلى العلوم السياسية.

ورغم ميول اللحام إلى دراسة العلوم السياسية منذ إنهائها المرحلة الثانوية، قوبلت بالصد من قبل المقربين منها بسبب النظرة السلبية لذلك النوع من التخصصات، بحسب قولها.

وخضعت تخصصات العلوم الإنسانية للتغييب من قبل السلطة في سوريا من خلال الحدود التي رسمتها لمستقبل الراغبين بدراسة بعض التخصصات مثل العلوم السياسة، والنظرة الدونية لغيرها من التخصصات مثل علم الاجتماع.

كما فرض غياب فرص العمل وندرة مراكز الأبحاث تهميشًا وتغييبًا أكبر، إذ جعل المستقبل قاتم بالنسبة للراغبين بدراسة هذه التخصصات.

وبحسب التقارير الصادرة عن منظمة “إسكوا” بين الأعوام 2010 و2017، تعد نسبة الإنفاق المالي على البحث العلمي داخل سوريا منخفضة للغاية، وهي ذات مصادر تعتمد على التمويل الحكومي الذي يصعب تقديره بسبب عدم لحظ هذا التمويل بوضوح في خطط التمويل السنوية للجامعات والمراكز البحثية.

ويواجه البحث العلمي في مجال العلوم الإنسانية العديد من التحديات، أبرزها ضعف الثقة بأهميته، بالإضافة إلى النزعة الفردية في إجراء الأبحاث وندرة تكوين الفرق البحثية المتكاملة، إلى جانب آليات تمويل المشاريع البحثية التي تحبط الباحثين، وفق تقرير المنظمة.

“الثورة صنعت التغيير”

بعد عام 2011.. بدأ عهد جديد للتخصصات الإنسانية خاصة في ظل حركة اللجوء التي فرضها الصراع في سوريا، ما منح فرصة للسوريين للاطلاع على مجالات كانت غائبة عن واقعهم.

كما فرض التعقيد في مرحلة الصراع على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي فرصًا كثيرة للراغبين بدراسة الواقع وتحليله، ما زاد إقبال الشباب السوريين على دراسة العلوم الإنسانية.

“الثورات لا تصنع حراكًا جماهيريًا وحسب، بل تغير تطلعات الفرد” هذا ما قاله زباد، لافتًا إلى الثورة السورية استطاعت كسر النمط المجتمعي بين الناس حتى باختيار تخصصاتهم الجامعية.

عاش زياد قبل اعتقاله حماس الشباب السوري للمظاهرات، لكنّ السؤال الذي فرضه المعتقل: “ليش هيك عم بصير؟”، وفق ما قاله، معتبرًا رغبته بفهم الواقع والإجابات على التساؤلات الكثيرة المتتالية كانت دافعًا للبحث عن طريقة للوصول إلى الإجابات.

غادر زباد سوريا بعد خروجه من المعتقل، وبد أشهر من وصوله إلى تركيا بدأ البحث عن فرصة للدراسة واستطاع الحصول على قبول استكمال دراسة طب الأسنان في جامعة “مرمرة” ومنحة لدراسة العلوم السياسة والعلاقات الدولية في جامعة “صباح الدين زعيم”.

وكان الخيار أن يسير في طريق أقرب لواقعه، خاصة بعد أن جعلت الأخبار اليومية في سوريا فكرة البقاء في عيادة “بين أربعة حيطان” مكانًا لا يناسب تطلعاته، وفق قوله.

“في سوريا كنا ندرس من باب الواجب، لكنني اليوم أدرس بناءً على رغبتي الشخصية ولأستطيع فهم واستيعاب ما يحدث حولي”، أضاف زباد، مشيرًا إلى أنه ينهي خلال العام الدراسي الحالي السنة الثانية من ماجستير القانون الدولي.

وامتلكت الباحثة رهف اللحام دوافع مشابهة مرتبطة بفهم الواقع السوري ومحاولة أن يكون لها دورٌ بما يحدث، بحسب ما قالته مؤكدة أن الثورة فتحت لها وللكثيرين آفاقًا أوساع بمختلف الأصعدة.

وظهرت خلال السنوات الماضي العديد من مراكز الأبحاث المهتمة بالشان السوري ما لعب دورًا بتعزيز قدرة الشباب على امتلاك خلفية وصورة مبنية بطريقة منهجية، حول واقعهم.

العلوم الإنسانية بين الحاضر والمستقبل

“المساحة السورية مفتوحة لجميع التخصصات، المجتمع جائع ومفتقر للتنوع وللعلوم الإنسانية بشكل خاص”، هذا ما قاله زباد ليصف الأهمية الكبيرة لهذه التخصصات في الحاضر.

وارتفع إقبال الشباب السوريين في دول اللجوء على دراسة العلوم الإنسانية في دول اللجوء، بينما ما تزال هذه العلوم تحمل الصورة المشوهة نفسها في سوريا خاصة في مناطق سيطرة النظام.

وأضاف زباد “نحن جيل بين جيلين، نحن في مرحلة انتقالية وأدرك جيدًا أن مهمتنا الحقيقة ان نوّضح لأنفسنا والجيل القادم حقيقة ما نعيشه اليوم”، مشيرًا إلى أن شريحة كبيرة من السوريين ليست لديهم المعلومات الصحيحة أو الفهم الواقعي لما عاشوه خلال سنوات الثورة.

وأكّد أن ضرورة نقل الحقيقة بشكلٍ واضح وفهم المجتمع الذي نعيشه مرتبطة بضرورة الحفاظ على ارتباط طلاب العلوم الإنسانية بالواقع السوري وعدم الانفصال عنه خاصة في ظل وجودهم في دول اللجوء.

“النجاحات الفردية لا تبني وطنًا، لذلك من المهم ربط كل النجاحات وأهمها المرتبطة بالعلوم الإنسانية بالواقع السوري لتنعكس عليه”، تابع زباد.

“من الواجب على الجيل الذي يعي ما حدث خلال الثورة أو يحاول فهم ما حدث خلال الثورة، أن يعمل على ترميم ما هدم خلال السنوات الماضية ليمهد الطريق للأجيال القادمة”

مساعد الباحث في “مركز عمران للدراسات”، يمان زباد.

واعتبرت الباحثة رهف اللحام، أن طريق هذه التخصصات في الحاضر والمستقبل ليس سهلًا لكن الحاجة تجعله ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، مشيرة إلى وجود العديد من الأشخاص الذين لا يدركون معنى مركز أبحاث في مجال خارج نطاق العلوم التطبيقية.

وأضافت اللحام، أن تراكم الإحباط خلق فجوة بين الشباب والواقع ودفعهم لمحاولة الانفصال عن الشارع السوري.

“نحن جميعًا في مركب واحد، وهذا المركب بحاجة إلى جهودنا جميعًا بمختلف تخصصاتنا الدراسية أو العملية”، تابعت اللحام.

ويسعى الطلاب السوريون في مختلف دول اللجوء إلى البحث عن فرص ليكونوا جزءًا من حاضر سوريا ومستقبلها من خلال دراستهم للعلوم الإنسانية، وذلك ما أظهره التفوق والنجاحات التي حققها الطلاب السوريون في تلك التخصصات في جامعتهم.

في المقابل ما زالت تلك التخصصات تواجه بعض فئات المجتمع الذين لم يقبلوا التغيير بمكانة العلوم الإنسانية، إلى جانب مواجهة تهديد الوضع الاقتصادي الذي يمنع مئات الطلاب من إكمال دراستهم الجامعية، كما يشكّل خطرًا على مراكز الأبحاث.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة