العمارة المعكوسة

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

يبذل الإنسان كل طاقته من أجل أن يعمّر بيتًا، ويأتي من يبذل كل طاقته من أجل أن يهدم ذلك البيت. مقابل الحلم بالبيت وجهود عمال البناء والإكساء، يقف ضباط المدفعية والصواريخ والقنابل الذين يستمتعون بهدم ذلك البيت مقوّضين فن العمارة والبناء بفن التخريب والتدمير أو ما سنطلق عليه في هذا المقال العمارة المعكوسة.

قديمًا كان القادة العسكريون يختارون تلة بعيدة أو سهلًا خاليًا ويشتبكون فيما بينهم حتى ينتصر أحد الطرفين المتنازعين، ويصبح الطرف المنتصر هو الحاكم للمدينة المجاورة أو للبلاد القريبة، أما اليوم ومع انتشار الأسلحة الأوتوماتيكية وتطوّر تكنولوجيا الموت، فقد اختبأ القادة الجدد في المدن والبيوت، وراحوا يطلقون صواريخهم وقنابلهم الشديدة الانفجار على المدن المقابلة، لقد تحوّل المدنيون بنظر القادة العسكريين الجدد إلى مجرد أشياء لا قيمة لها، فخططهم الكثيرة، وتكالبهم على اكتساب النصر بأسرع وقت ممكن، جعلهم يستهدفون بشكل أكبر البنى البشرية، والبنى التحتية التي تخدم المدنيين غير المنخرطين في الحرب من أجل نشر الرعب والتبشير بالقائد المنتصر القادم إليهم بأوسمته و”شراشيبه” المتدلية على كتفيه بشكل كوميدي ولكنه يثير الذعر!

يتحدث علماء الفلك عن الزمن بالاتجاه الإيجابي الذي نعيشه ونكبر فيه من طفولتنا حتى الشيخوخة، وهو نفس الزمن الذي نبني فيه بيوتنا حجرًا فوق حجر. ويتخيلون زمنًا معكوسًا يتصورون فيه الإنسان وهو ينتقل بشكل عكسي من الشيخوخة إلى الطفولة حتى العودة إلى نقطة الصفر التي انطلق منها، ولعل ذلك ما تقوم به عمارة التدمير التي تهدم البناء حجرًا فوق حجر ليعود ترابًا وحطامًا.

العمارة في زمنها الإيجابي تبدأ من مهندس العمارة الذي يخطط حلم سكان البيت ويتنبأ بما يريحهم في حياتهم اليومية، ويرسم المخططات والحلول المتلاحقة حتى يوافق أصحاب البيت على النموذج المراد إنشاؤه، وهكذا يفتح الباب أمام مجموعة أخرى من المهندسين والفنيين من مهندس مدني ومهندس كهرباء وميكانيك وفنيي الحفر و”البيتون”، ومعماري “البلوك” والقرميد، ومعلم البلاط والسيراميك والدهان ونجار الأبواب ومعلم الصحية والتمديدات المختلفة، وهكذا يستمر تدفق الخبرات والمواد حتى يصل العروسان إلى البيت الجديد ويستقبلان المهنئين فيه!

أما زمن العمارة المعكوسة فيبدأ ذات ليل، إذ يصل صاروخ إلى جوار البيت ويحطم النوافذ، يتناثر الزجاج على الأرضيات، وعلى وجوه ساكني البيت الذين لم يكونوا مختبئين في الحمام أو في ممر ضيق حسب إرشادات السلامة التي تكثر مع بدء القصف، الذي يمهد للعمارة الأخرى أو العمارة المعكوسة.

وقد لا تصل العمارة المعكوسة إلى كل أهدافها فورًا، إذ يرمم أصحاب البيت بعض الأضرار ويغلقون النوافذ بالنايلون بدلًا من الزجاج بعد تنظيف الشظايا وإسعاف المصابين، محاولين التصدي لهدم البيت وعدم السماح للزمن بالعودة بهم إلى الوراء. لكنّ مهندسي العمارة المعكوسة يكثفون قصفهم لتفكيك البناء وتخريب أجزائه في عودة عكسية للزمن المعماري تشابه نظريات انعكاس وارتداد الزمن التي يتداولونها في علم الفلك، وقد يصل الارتداد إلى غايته عندما يصل صاروخ إلى غرفة الصالون بعد أن يخترق الأسقف التي فوقه، ويصبح السكن في البيت شبه مستحيل بعد أن تناثرت أشلاء أحد سكان الشقة على الأقل في الأرض أو على الجدران وتحولت الشقة إلى حطام وقبر!

هذه الوصلة الزمنية من البناء والتدمير، تذوّقها معظم السوريين، ولم يسلم بيت أو حارة أو مدينة من الأداء المرعب للصواريخ والقنابل التي تمثّل العمارة المعكوسة، وقد بلغ الدمار أوجه بصواريخ النظام وبراميله المتفجرة، واستكمل الإيرانيون والروس دورة العنف الوحشية التي ابتدأها نظام الأسد وقادته ضد السوريين، وكانت البيوت في حمص وحلب ودير الزور وريف دمشق والمدن الأخرى وفي معظم الأرياف على اتساع الخريطة السورية مسرحًا للدمار والتخريب، في إعادة عكسية ووحشية للدور الذي قام به المعماريون وعمال البناء السوريون عبر عقود طويلة.

ولم يغب الأمريكيون والتحالف الغربي عن إنجازات العمارة المعكوسة في سوريا، فقد تحول 80% من أبنية مدينة الرقة إلى حطام، وكانت طاقة الصواريخ وقذائف المدفعية التي أُطلقت عليها تعادل أضعاف قنبلة هيروشيما التي أُطلقت على اليابان في الحرب العالمية الثانية.

ويقدم الروس اليوم ميدانًا واسع النطاق في أوكرانيا لتطبيقات الدمار الذي يتفنن به قادة الجيوش ومهندسو العمارة المعكوسة، بعد أن قاموا بتدريباتهم في سوريا، فالصواريخ والطائرات وقذائف المدفعية تطلق الرعب في أوكرانيا، وتهجّر السكان من بيوتهم، وتتحول دور “الأوبرا” والمسارح إلى حطام يثير الفزع، ويعيد ذاكرة العالم إلى ما قام به القادة الروس من أعمال تخريبية بحق السوريين منذ 2015 طوال فترة أشهر العسل بين لافروف وجون كيري أيام أوباما، حيث كانا يتبادلان الهدايا والبيتزا أمام الكاميرات، في حين كانت الصواريخ الروسية تتقصد قصف البيوت والمدارس والمستشفيات والأسواق الشعبية على افتراض أنها مأوى للإرهابيين!

بقي أن نقول إن أثمان الصواريخ والطائرات والقنابل تفوق كثيرًا أثمان البيوت، وإننا كسوريين دفعنا ثمن الصواريخ التي قصفتنا مقدمًا منذ أيام الأسد الأب الذي كانت أيامه تتسم بالجوع والعوز، وقد تفاقم الجوع اليوم في عصر الأسد الابن الذي بدأ بتصدير السوريين إلى أوكرانيا من أجل أن يكسب من تحويلاتهم قبل أن يموتوا في المحرقة الروسية هناك.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة