“دقيقة صمت” في قبر حرية التعبير الفني العربي

tag icon ع ع ع

منصور العمري

بحكم متابعتي لمستوى حرية التعبير في سوريا وما يطرأ عليها، أثارت فضولي منشورات كثيرة في فيسبوك عن مسلسل “دقيقة صمت”، والتغطية الإعلامية التي ركزت في جانب منها على كوادر العمل وعودة ممثلين إلى الشاشة و”مفاجأة” البعض بتصوير المسلسل في سوريا، رغم أنه ينتقد جانبًا من السلطة في سوريا، بالإضافة إلى تصريحات مؤلف النص في الإعلام بشأن هذا العمل والتي لا تعتبر جزءًا من العمل الفني ذاته.

كان لا بد لي من متابعة المسلسل الذي كتب نصه والسيناريو الخاص به الكاتب السوري سامر رضوان المنفي من سوريا، وأخرجه المخرج التونسي شوقي الماجري المقيم في سوريا. استغرقت متابعتي العمل بأكمله ثلاثة أيام متتالية بعين ناقدة لا مشاهِدة. لم تكن حلقات المسلسل الثلاثين طويلة نسبيًا، فكل حلقة نحو ثلاثين دقيقة، بالإضافة إلى الشارتين والمشهد الأول الذي يعيد آخر مشهد من الحلقة السابقة.

صوّر العمل عديدًا من مشاهد الواقع السوري، ونقل صورة المرأة النمطية الضعيفة والرومانسية والتعابير المهينة المصاحبة لهذا الواقع والحاطة من شأن المرأة بوصفها “أخت رجال” إن قامت بفعل جيد، وكأن المرأة لا تكون جيدة إلا إن كانت شبيهة بالرجال، و”بدنا نقعد نندب مثل النسوان” وغيرها. كما أشار العمل إلى أن غياب سيادة القانون والعدالة الرسمية وغير الرسمية قد تضطر أصحاب الحقوق إلى استرداد حقوقهم بأيديهم من خلال ارتكاب جرائم وغيرها من الأفعال المؤذية للمجتمع. طرح العمل أيضًا مسألة استخدام الجهل كإحدى الأدوات المفضلة للأنظمة الفاسدة للسيطرة على شعوبها، وبذلها كل ما يمكن لتجهيل الناس أو على الأقل الإبقاء على هذه الحالة، بالإضافة إلى تعزيز سلطة “مشايخ السلطان”.

رغم ذلك، بدا واضحًا أن الرقابة بكل أنواعها أثقلت كاهل حرية التعبير في المسلسل واضطرت الكاتب والمخرج وآخرين إلى بذل جهود إضافية كبيرة، وكأنهم يمشون في حقل ألغام رقابي، بمزيج من رقابة السلطة السورية والعربية. رغم ذلك لم يستطع المسلسل سوى نقل صورة مجتزأة للواقع، وغيّب أهم جزء منها وهو رأس السلطة، المسؤولة بشكل أو بآخر عن كل سلبيات هذا الواقع. لم يكتفِ العمل بتغييب رأس السلطة عن مشهد الفساد والإجرام، بل صوّرها كقيادة نزيهة تحاسب المجرمين وأنهى العمل بشارة في كل حلقة تشكر وزارة الدفاع ووزارة الداخلية في سوريا، المسؤولتَين عن جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كثير منها موثق بتقارير الأمم المتحدة وغيرها.

بدا أن الرقابة طلبت بشكل مباشر التركيز على ذكر خوف أبطال المسلسل المجرمين من المحاسبة على يد رأس السلطة في كل حلقة مرة أو أكثر: “الأركان والقيادة” وهي ترميز لقيادة الجيش وقيادة البلد أي عصابة بشار الأسد وحفنة من مجرميه، أو قد تكون نتيجة لرقابة ذاتية فرضها الرقيب بشكل غير مباشر أو ممول العمل. في جميع الحالات، كان التذكير الدائم بخوف أبطال العمل المجرمين من المحاسبة من خلال تعابير مثل “اللي صار بيودينا كلايتنا لحبل المشنقة”، و”حبل مشنقة واحد” وغيرها، يشير إلى نزاهة رأس السلطة ومحاسبتها للمجرمين إن علمت بأفعالهم.

لم تتجاوز طروحات المسلسل ما يسمح به الرقيب عادة أو ما يتداوله مؤيدو نظام الأسد: “السيد الرئيس خط أحمر”، وسخرية المعارضين “الرئيس منيح بس اللي حواليه عرصات” أو “كل الحق على محافظ حمص”. حتى التعذيب أحد أعمدة نظام الأسد، صوره العمل وكأنه يجري دون علم سلطة السجن، في زنزانة سرية.

بالمقارنة مع أعمال رضوان السابقة، لم يتعدَّ هذا المسلسل بنصّه السقف المسموح، أو “الحرية” في نقد الفساد والسلطة التي رأيناها في أعمال سابقة لرضوان وأعمال أخرى لياسر العظمة ودريد لحام وغيرهم. بعكس ما صرح به رضوان في مقابلة بتلفزيون الجديد حين سأله المحاور: “هل هناك نوع من التغير في الرقابة أو المرونة”، فأجابه: “يبدو أن النظام أعاد إنتاج مجموعة من القوانين التي تقول بأن الأسلحة والمجتمع الدولي لم تؤثر بخسارتي لشارعي، ماذا سيفعل عمل درامي، فليمر”. ثم يعود رضوان ليقول إن القلم قد ينتصر على الدبابة وهو ما يؤكد على أن النظام يقيم وزنًا كبيرًا للأعمال الفنية ويعرف مدى تأثيرها، لذلك لن يتهاون في رقابته عليها.

وهو ما أكدت عليه أيضًا وزارة الإعلام السورية في تصريح فاضح واعتراف بما تمارسه من رقابة وسيطرة على الفن، في محاولة لإنقاذ نفسها من رأس النظام، إذ ذكرت أن المسلسل لم يلتزم بشروط الموافقة الرقابية على النص، ولكن في الواقع هو ما التزم به كاتب النص كما ظهر جليًا في المسلسل: “إظهار تصرُّفات المسؤولين الفاسدين الذين تحدَّث عنهم النص بوصفه سلوكًا فرديًا وشخصيًا لا يمثّلون فيه مهمة المؤسسات التي ينتمون إليها، وإنَّما تشكّل هذه التصرفات وهؤلاء الأفراد عدوًا للدولة الوطنية ومؤسساتها كافة”.

من الخطورة بالنسبة للشخصيات العامة كالفنانين، وسامر رضوان في هذه الحالة، التصريح بأن النظام وضع قوانين جديدة ورفع سقف النقد، لأن هذا قد يقدم صورة غير دقيقة وفي صالح النظام بأنه يرفع بعض القيود عن الحريات، في حين تشير جميع التقارير الحقوقية المختصة والمعترف بها دوليًا إلى تصاعد استبداد النظام على جميع الأصعدة ومن بينها في قمع حرية التعبير. مثالها اعتقاله لصحفيين وناقدين موالين شرسين له، لتجاوزهم الحدود المتاحة لهم.

الشخصيات العامة كالممثلين والكتّاب والمغنين والرياضيين والمشاهير وغيرهم، يُعتبرون أحد مصادر تشكيل الرأي العام، لذلك من المهم جدًا أن يلتزموا بالحقائق وحقوق الإنسان والحذر والتفكير مرتين فيما يصدر عنهم من تصريحات، قد تكون سببًا في تضليل شرائح كبرى من المجتمع أو تنويرها.

رغم أن الرقيب الذاتي أو المباشر نزّه رأس السلطة من الجرائم والفساد في هذا العمل، إلا أن عدم علم رأس السلطة بما يجري ببلاده، لا يرفع عنه المسؤولية، فحسب مبدأ مسؤولية القيادة رأس السلطة مسؤول تجاه الجرائم المرتكبة والمنتشرة بشكل كبير، والفساد المتفشي، حتى لو لم يعلم بهذه الجرائم تحديدًا، فالقيادة مسؤولة من خلال تقصيرها بمعرفة ما يجري وعدم اتخاذها الإجراءات الاحترازية لمنع وقوعها.

لا أرى أن المشاهد العربي اليوم، بحاجة لمزيد من أعمال تلفّ وتدور في فلك الرقابة، وتتجنب رأس السلطة لتعض أذنابها، وترسم صورًا رمزية وتلميحات، يُترك شرحها وتفسيرها للناقد، أو القارئ فيما يخدم ما يطلق عليه “تفريغ شحنة الغضب لدى الشعب”. فبعد ثورات غيرت وجه المنطقة والعالم بذلت فيها شعوب المنطقة دماء وتضحيات سيسجلها التاريخ بحروف من ذهب، لا بد للفن أن يكون أكثر شجاعة ومواجهة، وهو أحد أدواره الرئيسية.

من المعروف أن ممولي الأعمال الدرامية يهدفون إلى الربح المادي، أي بيع العمل للقنوات العربية، وهم يعلمون أن أخاديد مقص الرقيب السوري مختلفة عنها في المقص الخليجي أو المصري، وقد تتناقض في بعض الأحيان، لكنا تتفق في بعض الأمور، وأهمها “قدسية ونزاهة” رأس السلطة، وهذا ما يعيق إيصال الآراء الفنية بحرية وصدق، ويمنع انطلاق الفن في فضائه بالحرية الشقيقة له. رغم ذلك يمكن بذل مزيد من الجهود والتفكير لتجاوز جدار الممول العربي التقليدي الجبان، فهناك مصادر أخرى قد تكون متاحة مثل “نتفلكس” وغيره من جهات التمويل والعرض، وهي الخطوة الأولى التي تفسح المجال للكاتب أن يكتب ما يريد لا ما يُراد له، بحيث لا يصبح بشكل أو بآخر شريكًا للسلطة التي ينتقدها.

مهما حاولنا تفسير أو اسقاط بعض الشخصيات والأحداث على الواقع، واستمتعنا بهذا الفعل الافتراضي، يبقى هذا الأمر في إطار التحليل الشخصي أو النقدي، لكنه لا يجعل العمل الفني ذا قيمة فنية ثورية على الواقع الرقابي العربي التقليدي، ويبقيه في إطار “مسلسل رمضاني آخر”.

في النهاية، ليس كل ما سبق هو نقد فني بل قراءة حقوقية للعمل، لكني لم أستطع عدم ذكر مشهد التعبير عن حالة الغضب لدى العميد عصام شاهين في نهاية الحلقة الثالثة حين أطرق قليلًا ثم رفع وجهه ويديه إلى السماء صارخًا، والذي بدا لي مطابقًا لمشهد شون كونري في فيلم الفارس الأول.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة