“دوبامين”.. قصص من بطولة الوهم

tag icon ع ع ع

نبيل محمد

في مجموعته القصصية الثانية التي صدرت عن دار “موزاييك” للنشر مؤخرًا، يحاول حسيب الزيني ترتيب أفكاره من جديد، مقتنعًا أن أدواته غير نافعة لهذه الخطة، وأنه لا يمكن أن يسرد أي تفصيل من تفاصيل حياته على شكل قصّة إلا بناء على الفوضى المتراكمة من الخيبات والمحاولات الفاشلة وإقناع نفسه بأن القناعة كنز. يجمع كل ما يبعث على الإحباط واليأس ويعيش ذهانه الخاص، محاورًا تلك الشخوص التي لم تكن يومًا جزءًا واقعيًا من حياته، إلا أنها تمثّلات لما ينقص حياته اليومية ليكتمل فيها مشهد الخيبة.

“دوبامين” مجموعة قصصية مكوّنة من تسع قصص، مترابطة ببعضها حدّ التماهي بالأجواء النفسية القلقة واللغة الشخصيات. يظهر بطلها الذي يتحدث في مجملها مستخدمًا ضمير المتكلم، وقد استحكمت الرضوض النفسية فيه، حتى بات الوهم ضرورة يستكمل بها أي مشهد يومي يمر في حياته اليومية، وفق سيناريو يقود إلى الدمار الفردي أو الاستسلام لوحش المدن الغريبة التي يعيشها اللاجئ، محاولًا في كل لحظة تقديم نفسه كإنسان بسيط لا يرتجي إلا النجاة، والاندماج في “السيستم” ودفع الضرائب، لكن ذلك لن يتم. يتمنى هذا اللاجئ “الخير للجميع” كما يرد حرفيًا في قصة “أتمنى الخير للجميع”، لكن ما إن يرفضه الجميع حتى يحمل سكينًا ويجز شريانه موقنًا أن الخلاص هنا في جسده، في الداخل، حيث بات من الصعب التفريق بين وحش حقيقي يلاحق يومياته بشكل واقعي، وآخر ركّبه خياله المأزوم بالمأساة.

يعيش بطل هذه القصص بين مقاهي لندن بحثًا عن عمل تارة، وعن معنى لوجوده في هذا المكان تارة أخرى، فترمي له ممثلة شهيرة فنجان قهوته على الأرض، ويطرده رب عمل من عمله، يبشّره صديقه بسرقة منزله، ويطلب منه جاره مساكنة زوجته، لتبدو أغلب تلك الأحداث وليدة هلوساته، تلك التي يهرب منها إلى الواقع ويهرب من الواقع إليها، فلا يبدو أن أحدهما أخف وطأة عليه من الآخر. لماذا إذًا يجب أن يعيش الفرد حياة واقعية إذا كانت أقسى من الوهم؟ ولمَ الوهم إذا لم يكن منجاة من الواقع؟ أسئلة لم تطرحها القصص بشكل مباشر، لكنها كانت مستمرة في المراوحة حولها، مراوحة أحيانًا تغيّبُ حقيقة القصة، هل هي جزء من أوهام البطل أم من واقعه؟ ليفقد هذا السؤال معناه كليًا، إذ لا فرق.

في العوالم الافتراضية يدمن البطل على صفحة “المفقودين”، ويبدأ بتتبع أخبارهم. يشعر أن وراء كل منهم قصة تستحق أن تكون الشغل الشاغل لأحدهم. يبدأ باكتشاف الأخطاء في الصفحة فيراسلها معترضًا على التلاعب بمصاير الناس، ثم يقنعه “فيسبوك” ذاته بأن الصفحة أصلًا غير موجودة. تستكمل تلك القصة خريطة الوهم، حتى يبدو معها ما هو افتراضي أيضًا جزءًا من الوهم. يدرك حينها أن سلوكه وأفكاره افتراضية أكثر من الافتراضية ذاتها.

في مجموعته الأولى “برج من ملاقط الغسيل” الصادرة في دمشق سنة 2009، كانت الذاكرة بتفاصيلها البسيطة والبريئة بطلة أغلب القصص. الطفولة والشوارع والمراهقة، وصولًا إلى مآسي الحياة اليومية في البلاد التي خرج منها الكاتب لاجئًا سنة 2012، إلا أنه وبعد أكثر من عقد، قطع صلته الأدبية مع هذه الذاكرة. كان الأمس بالنسبة له حقيقيًا بما لا يكفي لصناعة الأوهام والحياة في بيئة موازية للواقع. انتمى كليًا لحاضره الشاق، واتجه نحو العزلة التي يعانيها مئات آلاف السوريين المرميين بين مدن ما زالوا حتى اليوم في طور محاولة فهمها وخلق علاقة وديّة معها، العزلة التي باتت فعلًا يوميًا يمكن منه لكاتب يبحث عن أسلوب يجمع به قصصه القصيرة في كتاب، أن يجد عالمًا كئيبًا يرسم تفاصيله أدبيًا، يمكن لهذا العالم أيضًا أن يحاصره بالكآبة، تلك التي تلعب بطولة حيوات كثيرين منا، ولعل فهمها والتعايش معها وبث الروح فيها، ليس إلا شكلًا من أشكال الإصرار على البقاء على قيد الحياة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة