شيعة بصرى الشام.. عودة دونها تعقيدات وضغائن

camera iconمدينة بصرى الشام في ريف درعا (AFP)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي- درعا

يضم النسيج المجتمعي في سوريا عدة مكوّنات إثنية وقومية، وجماعات ذات عقائد دينية ومذهبية متعددة.

وتشير الوقائع التي أفرزها النزاع المسلح خلال العقد الأخير إلى متغيرات اجتماعية أصابت الهوية الديموغرافية السورية، وبدأت ملامحها السكانية تتشكّل في مراحل ما قبل ثورة 2011.

هذه الهوية الديموغرافية أخذت تتغير ضمن سياقات خطيرة تهدد حياة وحقوق مجموعات اجتماعية متعددة، تعرضت بسبب الانزياحات السكانية نتيجة النزوح والتهجير لمشكلات وتحديات معقدة ومركبة، من أبرزها اقتلاع مجموعات من البيئات المجتمعية التي كانت تنتمي إليها، وتعرض ملكياتها للاعتداء، ما يؤدي إلى زعزعة منظومة القيم الاجتماعية والعلاقات الأسرية والقبلية.

في آذار عام 2015، استطاع فصيل “شباب السنة” بمساعدة “حركة المثنى” و”جبهة النصرة” السيطرة على مدينة بصرى الشام بالكامل، ضمن محافظة درعا جنوبي سوريا، وانفرد الفصيل بإدارة المدينة بعد طرد جميع الفصائل المسلحة الأخرى منها.

خلال هذه السيطرة، نزحت مئات العائلات من الطائفة الشيعية من مدينة بصرى الشام، والتي كانت مواقفها الموالية للنظام السوري واضحة بالنسبة إلى أهالي المدينة، ما أدى إلى خلق نعرات مجتمعية أخذت صبغة طائفية نتج عنها ارتكاب عدة جرائم بين المكوّن المجتمعي الواحد.

كانت الوجهة الرئيسة لتلك العائلات النازحة هي المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري، في مركز محافظة درعا، ومحافظة السويداء، ومنطقة جرمانا في ريف دمشق.

في تموز عام 2018، سلّم أحمد العودة، قائد فصيل “شباب السنة”، السلاح الثقيل بموجب اتفاق “التسوية” مع روسيا، بينما احتفظ بسلاحه المتوسط والخفيف وهيكلية عناصره، ليتحول من فصيل “شباب السنة” إلى ما صار يُعرف الآن بـ”اللواء الثامن” التابع لـ”الفيلق الخامس” المدعوم روسيًا.

بعد تلك “التسوية” حاولت العائلات النازحة من الطائفة الشيعية العودة إلى مدينة بصرى، بعد أن عادت سيطرة النظام على المحافظة، وذلك لاستعادة أملاكها العقارية الموجودة في بصرى الشام بشكل رئيس، وعقارات متفرقة أخرى في جميع أنحاء محافظة درعا.

إلا أن الواقع الأمني على خلاف ما توقعت تلك العائلات، لم يفضِ إلى سيطرة كاملة لقوات النظام على المنطقة، كما خضعت مدينة بصرى لسيطرة مطلقة من قبل “اللواء الثامن”، الأمر الذي حال دون استعادة ممتلكاتهم العقارية.

بعد إخفاقهم في تحقيق ذلك، لجؤوا إلى القضاء المدني ورفعوا دعاوى شخصية، مطالبين بتحصيل حقوقهم العقارية.

أزمات مجتمعية

في بداية الثورة السورية 2011، انحازت أغلبية الشيعة في بصرى الشام إلى جانب النظام السوري، وشاركوا في عمليات المداهمة واعتقال المتظاهرين، ومع تطور الأحداث الأمنية في سوريا، سرعان ما تحول بعضهم لميليشيات مسلحة، اتخذت من قلعة “بصرى” مقرًا لها.

وبحسب ما قاله المحامي عاصم الزعبي في حديث إلى عنب بلدي، فإن “شيعة بصرى بشكل خاص وقفوا ضد الثورة السورية منذ اليوم الأول، وقاموا بالتصدي للمتظاهرين أمنيًا من خلال تسليم العديد من أبناء بصرى للأجهزة الأمنية، وبعد ذلك انخرطوا عسكريًا إلى جانب قوات النظام من خلال تشكيل ميليشيا طائفية هي (اللواء 313) المدعوم من (حزب الله) اللبناني و(الحرس الثوري الإيراني)، في عام 2013 بقيادة ماجد الفياض”.

ماجد الفياض هو مقاتل من الطائفة الشيعية في بصرى الشام، أنشأ ميليشيا طائفية، ولا يزال هذا التشكيل عاملًا في درعا حتى اليوم، تحت اسم “قوات العرين”.

وبحسب قيادي سابق في قوات المعارضة، مقيم في درعا، فإن “ميليشيات الشيعة بدأت منذ الأيام الأولى للثورة باعتقال المتظاهرين وتسليمهم للأفرع الأمنية”، وتسببت في مقتل المئات من أبناء مدينة بصرى.

هذه الوقائع، التي عززها انتشار السلاح العشوائي، وغياب المؤسسات القانونية التي من المفترض أن تحمي السكان، فاقمت معدلات الجريمة بفعل الاتجاهات السياسية المتباينة، ما أدى بدوره إلى تفكّك الأسرة الواحدة بمختلف المستويات، وتعكير العلاقات التي أخذت في الماضي نمطًا من القرابة والمصاهرة، وخسارة مجموعة من العائلات المكان والبيئة المجتمعية التي كانوا يعيشون فيها، نتيجة تجربة النزوح التي اختبروها وشعورهم بالشتات الجغرافي وعدم الاستقرار، كحال معظم المجتمعات السورية في مختلف المدن والمناطق.

الأزمات الاجتماعية حالت دون عودة السكان الشيعة إلى بيوتهم داخل بصرى الشام، ولا تتوفر معلومات دقيقة عن نسبتهم بين السكان وقتها، إلا أن بعض الأهالي يتحدثون عن حوالي 3500 نسمة من الشيعة، من أصل نحو 30 ألف نسمة هم سكان بصرى بالكامل.

وينتشر الأفراد من الطائفة الشيعية في جميع مناطق حوران، وأغلبهم اتخذ مبدأ الحياد خلال العقد الأخير، إلا أن مشاركة بعضهم في المعارك التي حصلت في المنطقة خلقت حساسيات مجتمعية في مدينة بصرى الشام.

تلك الأزمات الاجتماعية المرتبطة بالعودة إلى الملكيات العقارية، والتي أخذت صبغة طائفية غير مقتصرة على مدينة درعا، إذ انساق العلويون في مدينة حمص إلى رواية النظام الطائفية، دفعت بهم للتجمع حوله بعد افتعاله عدة اغتيالات طائفية، ما أدى إلى إحراق محال تجارية خاصة بعائلات من الطائفة السنية، وكانت الدلالات الطائفية الخطيرة موجودة طوال فترة التصعيد العسكري في حمص عام 2011.

وبحسب ما نشره تقرير “لا عودة إلى حمص” الصادر عن معهد “سوريا” بدعم من فريق “باكس” عام 2013، فإن النظام السوري اتبع استراتيجية تهجير كنوع من أنواع الهندسة الديموغرافية التي تسعى للتلاعب بشكل دائم بالتعداد السكاني على أسس طائفية من أجل تمكين قاعدة السلطة.

حجم ونطاق وطبيعة التهجير القسري من أماكن مثل مدينة حمص أو بصرى الشام في درعا يمثّل تحديًا هائلًا أمام الاستقرار المستقبلي في سوريا والمرتبط بعود المهجرين إلى ممتلكاتهم العقارية.

محاولات لم تنجح.. “الموضوع شائك”

حاولت العائلات عبر علاقتها بأجهزة الدولة الضغط على “اللواء الثامن” من أجل السماح لها بالعودة إلى بيوتها وأراضيها، إلا أن رفض العودة أمر متعلق بالسكان، بحسب ما قاله المحامي الزعبي، الذي حذر من خلق محاولات للثأر في حال عودة العائلات.

“بعد عدة اجتماعات في فرع الحزب (حزب البعث) بمدينة درعا، حضرها قياديون من (اللواء الثامن)، لم تنتج عنها عودة أي من العائلات، هذا الأمر يزيد من حدة التوترات بين شيعة بصرى والسكان في المنطقة”، وفق ما يراه المحامي الزعبي.

“الموضوع شائك” بالنسبة للعائلات المهجرة، وفق ما قاله أحد أبناء الطائفة الشيعية في درعا، الذي تحدثت عنب بلدي معه لفهم حالة العائلات، إذ إن “وضع اللوم يكون على جهة واحدة فقط، وهي الجهة الأكثر تضررًا، دون النظر إلى المقدمات والأسباب التي أدت إلى أي نتيجة”.

يشير الرجل الأربعيني، الذي تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه لأسباب أمنية، إلى وجوب الأخذ بعين الاعتبار خلال حل هذه المشكلة دور النظام في تأجيج أي صراع طائفي بين الطرفين في تلك الفترة، بحيث تكون السلطة هي المسؤول الأول والأخير عن أي جرائم اُرتكبت حينها، و”موضوع القتل لا ترضى عنه الأغلبية الساحقة من العائلات”.

“وفي المحصلة، الكل خاسر في بقاء المشكلة، لا شك أن الخسارة للأسف أصابت الجميع بلا استثناء”، وفق ما عبّر عنه الرجل.

اللجوء للقضاء

بعد فشل الاجتماعات بين أجهزة الدولة و”اللواء الثامن” بعودة العائلات، لجأت تلك العائلات التي صار همها الأساسي في الوقت الحالي العودة إلى بيوتها، إلى رفع قضايا لدى المحاكم السورية، مطالبين بحقهم بالوصول إلى ممتلكاتهم.

“من المؤكد أن الشيعة من أبناء بصرى يمتلكون أوراقًا ثبوتية صادرة عن السجل العقاري، تثبت ملكيتهم لعقاراتهم، ولا يمكن أن ينازعهم أحد فيها من الناحية القانونية”، وفق ما أوضحه المحامي، وإذا تمكّنوا من إثبات دعواهم أمام القضاء فسيكون الحكم في جانبهم.

لكن أمر عودتهم يبقى رهن عوامل أمنية بالدرجة الأولى، إذ “يجب أن يقدموا تنازلات أمام أبناء بصرى الشام، وأولها الابتعاد عن النظام والميليشيات، وضمان عدم القيام بأي خرق أمني في المدينة”، وفق ما أوصى به المحامي، ضمن تسوية قبلية تفضي إلى صلح بين الطرفين.

وفي غياب المؤسسات القانونية التي تفرض سيادتها المشروعة لامتثال السكان لمبادئ ثابتة، تنخرط المجتمعات القبلية لفرض عرف سائد لحل النزاعات بين الأفراد، التي قد تأخذ الطابع العنفي بين المكوّن المجتمعي الواحد، والتي من الممكن أن تخلق فجوة بين الطرفين من الصعب ردمها في المستقبل.

إلا أن الأمور أكثر تعقيدًا من هذا السيناريو، بحسب استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي في مدينة بصرى الشام، حيث يرى بعض السكان أن “الحل الأمثل يكمن في بيع العقارات من قبل الشيعة لسكان بصرى بسعرها الحالي الذي تباع فيه العقارات في المدينة”.

وعلى النقيض من رفض السكان و”اللواء الثامن” عودة العائلات من الطائفة الشيعية لبصرى الشام، توصّل سكان قرية خربا في ريف درعا الشرقي، والتي تتبع إداريًا لمحافظة السويداء، لاتفاق معالفيلق الخامس في أيار من عام 2020، يقضي بعودة المسيحيين إلى منازلهم بعد سنوات طويلة مضت على مغادرتها.

الصعوبات وتحديات عودة المهجرين إلى مناطقهم الأصلية تتمثل في عدم توفر البيئة الآمنة والمحايدة، هذه التعقيدات تنطبق على جميع المهجرين، بمختلف خلفياتهم الاجتماعية أو المذهبية أو السياسية.

وتحدي العودة إلى المناطق الأصلية بالنسبة للمهجرين يغدو أكثر صعوبة، لا سيما أن استحقاق العدالة لا يمكن الوفاء بمتطلباته بوجود سلطة في دمشق لا تكترث لبناء مرجعيات قانونية وطنية سليمة وموحدة، وآليات فاعلة ومتكاملة تدافع عن مصالح وحقوق جميع المكوّنات الاجتماعية في سوريا، أو تشجع هذا الخيار، مع استمرار حالة الانتظار والقلق والضياع التي تنهش حاضر المهجرين ومستقبلهم.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة