tag icon ع ع ع

طرقات التجارة على ضفاف الفرات.. رحلة ناجحة نحو هويّة جامعة

تدور عجلات سيارة الشحن الأولى في ذاكرته، وتستعيد مسامعه هديرها بشكل أوضح بعد أعوام على انطلاقها شرقًا، حاملة خير الفرات من ضفّة إلى أخرى، في أولى المحاولات التجارية لمحمد، بعد أن قرر البدء بنقل بعض المحاصيل الزراعية من مدينة تل أبيض، في محافظة الرقة، نحو مسقط رأسه، القامشلي.

“كنت مؤمنًا بخلق حياة اقتصادية مشتركة تجمع على تبادل تجاري يؤمّن فرص الحياة”، يقول التاجر الكردي، محمد عيدان، بينما يعود بالذاكرة إلى بدايات عمله مع الفلاحين والتجار العرب في مدينة تل أبيض، ليؤسس بذلك تجارة مستقرة ذات خط تصاعدي، مستفيدًا من التنوع الزراعي الكبير في المنطقة المحيطة بنهر الفرات، والتي تمهّد الطريق أمام التجار لتعزيز التكامل في المنطقة الواحدة.

ويضيف عيدان، في لقاء مع عنب بلدي، أنّ “الطبيعة الزراعية التي فرضتها منطقة الجزيرة، من وجود نهر الفرات، دفعتنا لعمل مشترك نؤمّن فيه احتياجاتنا الأساسية”، الأمر الذي يعزز من قيمة العمل التجاري في المنطقة، ويجعله مرتبطًا بجملة من الأهداف النبيلة، بدءًا من الكسب المادي، إلى دعم المنطقة اقتصاديًا وتأمين احتياجاتها، فضلًا عن كونه صورة مهمة حول تماسك العلاقات بين كافة مكونات المنطقة”.

تاجر عربي مع رجال كرد في مدينة القامشلي - 29 أيلول 2016( - عنب بلدي)

تاجر عربي مع رجال كرد في مدينة القامشلي – 29 أيلول 2016( – عنب بلدي)

 

وتعدّ منطقة الجزيرة، والأراضي المحيطة بنهر الفرات، من أخصب مناطق سوريا، وأكثرها تنوعًا بالمحاصيل الزراعية، وتشتهر محافظة الحسكة بكونها السلة الغذائية للبلاد، وبحسب الإحصائيات الرسمية تبلغ مساحة الأراضي المزروعة نحو 30% من إجمالي مساحة المحافظة.

كما يرتبط الدور التجاري لمنطقة الجزيرة، بموقعها الجغرافي كمنطقة حدودية تجمع الأراضي السورية بالعراق وتركيا، الأمر الذي يعزز من حركة التبادل، ويفرض على السكان تشكيل وحدة تجارية تشكّل هويّة جامعة للجزيرة، ودفعت التجار العرب والكرد إلى إيجاد مناخ اقتصادي مشترك يساعدهم في تأمين وإنجاح مشاريعهم التجارية المشتركة.

 الطبيعة الزراعية التي فرضتها منطقة الجزيرة، من وجود نهر الفرات، دفعتنا لعمل مشترك نؤمن فيه احتياجاتنا الأساسية

ولا تقتصر العمليات التجارية في منطقة الجزيرة السورية على عمليات البيع والشراء اليومية فقط، إذ أصبح من الضروري إيجاد آلية تسهّل عمليات النقل والتصدير بين المناطق، ما يدفع العديد من السائقين، كردًا كانوا أم عربًا، إلى الاشتراك بهذه العمليات لتسهيل نقلها وتوزيعها إلى كافة مناطق الجزيرة السورية، وهذا ما أكده محمد بقوله “أغلب السائقين والشركاء والمتعاملين معي في عملياتي التجارية كانوا تجارًا عربًا”.

ويشير محمد، إلى أنّ المحاصيل الزراعية التي تنتجها الأراضي الزراعية التابعة للفلاحين الكرد والعرب، تحتاج إلى إيجاد طريقة لتصديرها، كما أن عدم وجود منفذ بحري يطل على منطقة الجزيرة لتصريف المنتجات الزراعية والتجارية، دفع التجار العرب والكرد، كما عبر محمد، إلى تشكيل هيكلية اقتصادية من سائقين من الطرفين للمساهمة في تصريف منتوجاتهم الزراعية.

ويتبادل تجار منطقة الجزيرة، كميات كبيرة من المنتوجات الزراعية، كالقمح والطحين والأسمدة الزراعية، فضلًا عن المواد الغذائية التي يتم تبادلها بشكل يومي في مدينة القامشلي والحسكة، والتي تعتبر الأولى في توريد العديد من المنتوجات كالكمون والعدس والفول والقمح والشعير.

ورغم محاولات الفصل الكبيرة التي انتهجها النظام السوري على مدى ستة عقود، بين العرب والكرد، يرى محمد أن من الصعب التفريق بكافة الأمور الحياتية المشتركة المتعلقة بهم، “فلولا هذه الحياة المشتركة لما قامت حياة محافظة الحسكة وباقي المحافظات الأخرى في الجزيرة السورية”.

الحياة الاقتصادية لمنطقة الجزيرة، تأثرت خلال الأعوام الخمسة الماضية، نتيجة التوترات الأمنية، والحصار المفروض على محافظة الحسكة نتيجة سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية” على الأراضي الممتدة إلى غرب وجنوب الجزيرة السورية، فضلًا عن إغلاق الحدود التركية شمالًا، والحدود العراقية شرقًا.

جميع الظروف السياسية والعسكرية القاسية من حصار وخناق فُرض خلال الأعوام الخمسة الماضية في سوريا، والذي امتد ليشمل منطقة الجزيرة السورية، التي لقيت النصيب الأكبر من كافة أنواع الحصار الاقتصادي وانعدام المواد الأولية، دفعت محمد لمتابعة تجارته مع العديد من المكونات العربية، وجعلته أكثر طموحًا للمزيد من العمليات التجارية مع المحافظات الأخرى.

التبادل التجاري في منطقة الجزيرة السورية

تأثرت معظم مجالات الحياة في سوريا خلال الأعوام الخمسة الماضية، بشكل سلبي نتيجة الحرب المستمرّة، والتي ماتزال تداعياتها تلقي بظلالها على مختلف القطاعات الاقتصادية للعديد من المناطق والمدن، إذ تراجعت فرص الاستثمار في معظم المجالات، وخاصة في منطقة الجزيرة، التي تعتمد بالمقام الأول على الزراعة، مبددة الجدوى الاقتصادية لكافة المشروعات والمبادلات بين المكونات المنتشرة في المنطقة.

منطقة الجزيرة، تعد الموطن الأساسي لزراعة القمح والشعير في سوريا، والسلة الغذائية للبلد، وتسعى المكونات القاطنة فيها من كرد وعرب، مسلمين ومسيحيين، لخلق اكتفاء ذاتي يؤمّن حياتهم اليومية من المواد الغذائية والأولية وكافة المستلزمات.

يقول رئيس هيئة الاقتصاد والتجارة في محافظة الحسكة، جمال حمو، لعنب بلدي “ما يجري في منطقة الجزيرة من معاملات تجارية بسيطة تدخل ضمن نطاق الاحتياجات اليومية، لهذا فإن منطقة الجزيرة تعتبر السلة الغذائية لسوريا، ففي الريف تتم زراعة كل أنواع الحبوب والبقوليات والخضار والقطن التي تلبي حاجة السوق المحلية، والفائض منها يذهب إلى المحافظات السورية، بالإضافة إلى تربية الحيوانات التي تلبي الحاجات اليومية للسوق الاستهلاكية من اللحوم والألبان”.

تاجر ألبسة في سوق مدينة القامشلي - 29 أيلول 2016(عنب بلدي)

تاجر ألبسة في سوق مدينة القامشلي – 29 أيلول 2016(عنب بلدي)

معبر “سيمالكا” شريان الحياة لمنطقة الجزيرة

يعتبر معبر سيمالكا، الواقع على نهر دجلة، والذي يصل منطقة الجزيرة بإقليم كردستان العراق، الشريان الرئيسي للمبادلات التجارية بين مناطق الجزيرة السورية والإقليم الكردي، إذ إن ما أفرزته الحرب في سوريا من دمار، وما تعانيه محافظة الحسكة والمدن المحيطة بها من حصار من قبل تنظيم “الدولة”، جعل “سيمالكا” ممرًا رئيسيًا لعمليات الاستيراد والتصدير بين الطرفين، وبالتالي تأمين ضرورات المعيشة لأهالي المنطقة المحاصرة إلى جانب إمكانية نقل المصابين لتلقي العلاج اللازم.

ويشير جمال حمو إلى أنّ “منطقة الجزيرة تعتمد على الموادّ القادمة من معبر سيمالكا (الذي يقع بين إقليم كردستان العراق وروج آفا) من إقليم كردستان، لكنّها تعتبر موادّ إغاثة وليست رسميّة”.

ولعب الجسر دورًا حيويًا مهمًا منذ الأيام الأولى لافتتاحه، من خلال ضخّ مواد معيشية أساسية كالمحروقات والطحين، باتجاه المناطق المحتاجة، كما انتقل عبرهُ الكثير من المرضى للعلاج في إقليم كُردستان والتحق الطلاب بجامعاته، إضافةً الى ذهاب الكثيرين للبحث عن فرص أفضل للحياة في ظل توافر الأمن والاستقرار هناك.

قريتا “الارتوازية” و”المبروكة” مبادلات تجارية بفعل الحصار

تعتبر “المبروكة”، نقطة استراتيجية تربط محافظة الحسكة بمحافظتي الرقة وحلب، حيث ينقل تجار المنطقة بضائعهم منها إلى داخل المنطقة.

وكانت المبروكة تحت سيطرة تنظيم “الدولة الإسلامية”، قبل سيطرة وحدات حماية الشعب “الكردية” عليها.

نقطة طريق منطقة الجزيرة إلى الرقة وحلب ودمشق والساحل، تنطلق من قرية “أبو الشاخات” غربي المبروكة على بعد نحو خمسة كيلومترات، وبالعكس.

إذ أصبحت المبروكة السوق التجارية الرئيسية التي يعتمد عليها سكان الجزيرة السورية في نقل بضائعهم واستيراد المواد الأساسية التي تحتاجها المنطقة.

أما قرية “الارتوازية” الواقعة غربي مدينة رأس العين (سري كانيه) وشرقي محافظة الرقة، التي باتت تمثل نقطة محايدة عن المعارك الدائرة، فشُكلت فيها “سوقًا سوداء”، حيث تقوم الشاحنات والسيارات الصغيرة بتنزيل البضائع فيها، كنقطة تجارية يتحكم بها التجار لبيع المواد الأولية من البضائع، بالإضافة إلى أنها باتت تشكل سوقًا لبيع مشتقات النقط في منطقة الجزيرة.

سماسرة الحروب يسيطرون على طرق التجارة في الجزيرة

 علاقات تاريخية قديمة تبلورت في حالات المصاهرة بين العرب والكرد، وليس من السهل أن تزول

نتيجة وجود قوى متنوّعة على الأراضي السورية، تسعى إلى إيجاد موارد ووسائل ربح خاصّة بها، انعكس ذلك، خلافًا للتوقعات، بشكل إيجابي على السكان في محافظة الحسكة، لجهة توفر البضائع من مصادر الطرف الآخر، وهو ما ساهم بتحريك البضاعة في كل سوريا، وتمكنت من تجاوز الحدود، لكن بشرط دفع مبالغ مالية من أجل المرور عبر نقاط العبور بين خطوط تماس المتحاربين وعلى الطرقات السريعة.

وشرعنت كل جماعة، مسعاها في الحصول على الأموال لقاء دخول المحاصيل الزراعية والبضائع من الطرف الآخر إلى أراضيها أو مرورها بواسطة الترانزيت، ففي الوقت الذي سمت الإدارة الذاتية في منطقة الحسكة ما تتقاضاه من القوافل جمركًا، يسميها تنظيم “الدولة” زكاة ويسميها النظام رشوة علنًا، وبموجب هذا الاتفاق طافت البضائع سوريا كلها، وساهمت قيادة السوريين لهذه العملية في توفير المواد والسلع في عموم البلاد، ما أدى إلى ولادة طبقة جديدة من رجال الأعمال المستفيدين من هذا الوضع، بعدما هاجرت النخبة من رجال الأعمال المعروفين، وأصبحت هذه الطبقة تتحمل التكاليف الاقتصادية لعملية تمرير البضاعة إلى مختلف المناطق وتحمّلها للمواطن بالنهاية، من سعر تكلفة المنتج الرزاعي والصناعي، ما رفع الأسعار بشكل كبير، وقفز بمعدلات التضخم إلى نحو 500%.

 

بعد خمسة أعوام من الحرب..

كيف يقيّم سكان الجزيرة العلاقات التجارية بين العرب والكرد؟

ترتبط العلاقات التجارية في المجتمعات على اختلاف مكوناتها، بوجود أرضية خصبة تشكل المادة الأساسية للتبادل، وتفرض شكلًا من أشكال التكامل داخل المنطقة الواحدة، على اعتبار أنّ تأمين أولويات الحياة هو المصلحة العليا، بعيدًا عن أي تجاذبات يمكن أن ترتبط باختلاف الانتماءات أو التوجهات أو حتى القوميات، لتتحول تلقائيًا إلى وسيلة دمج تأخذ أبعادًا أكبر وتفرض هويّة موحّدة على مرّ الزمن.

وتبدو الجزيرة السورية مثالًا مهمًا عن أثر التكامل الزراعي– التجاري، في فرض جوّ من التعايش العام داخل القرى والبلدات والمدن، انطلاقًا من الوجود المشترك على أرض تنتج محاصيل متنوعّة تُسقى من مياه واحدة، الأمر الذي حال دون تغليب حالة العزل والفصل بين القرى العربية والكردية، لوجود شبكة من العلاقات التجارية، انعكست بطبيعة الحال على التبادل اللغوي بين أبناء جميع المكونات، فضلًا عن دفعها باتجاه توسيع العلاقات الاجتماعية، من المصالح الاقتصادية، إلى المصاهرة والجيرة.

وعلى الرغم من حالات الفصل بين العرب والكرد في الجزيرة، والتي حاول النظام السوري تكريسها في مختلف مناحي الحياة، إلا أن وحدة الأرض كانت دائمًا عائقًا في وجه العزلة، ومانعًا للمساعي الرامية إلى قطع الطريق على علاقات ذات جذور صلبة.

مراسل عنب بلدي، تجول في شوارع مدينتي الحسكة والقامشلي، واستطلع آراء سكان من الكرد والعرب حول أهمية العمليات التجارية بين الطرفين، وبينما ذهبت الغالبية إلى التأكيد على استمرارية إيجابية للعلاقات الاقتصادية التاريخية، وجد آخرون أنّ الظروف الأمنية والخلافات السياسية أدت إلى “تراجع” في الحركة التجارية، وصل حدّ “الركود”.

حماد البلاش، وهو تاجر كردي من مدينة القامشلي، أكّد أنّ العمليات التجارية المستمرة بين العرب والكرد، تعدّ مؤشرًا إيجابيًا من الطرفين، ولم تتأثر على مر الزمان منذ نشأتها حتى الآن، معتبرًا أنّ الظروف التي مرت بها منطقة الجزيرة في السنين الماضية زادت من تماسكها.

كما يرى أبو يوسف، وهو تاجر حقائب منذ 40 عامًا في شارع الجامع بمدينة القامشلي، أن ظروف الحرب التي مرت بها منطقة الجزيرة السورية لم تؤثر على العلاقات الاجتماعية “المستمرة” بين العرب والكرد والمسيحيين، على اعتبار أنها “علاقات تاريخية قديمة تبلورت في حالات المصاهرة بين أبناء المكونين، وليس من السهل أن تزول”.

أما تاجر المواد الغذائية في مدينة القامشلي، إبراهيم السليمان، فأشار إلى أنّ التعاملات التجارية تأثرت بشكل سلبي خلال الأعوام الخمسة الماضية، إلا أنّ حجم التراجع بدا بسيطًا “بالنظر إلى تاريخ التبادل التجاري المرتبط بقناعة موحّدة حول أهمية التعايش المشترك”.

ويرجع الشاب أحمد شويش، من مدينة الحسكة، “التراجع البسيط” في العلاقات الاقتصادية بين الكرد والعرب إلى التخبط الأمني خلال الفترة الماضية، لافتًا إلى أنّ الحركة التجارية بدأت بالتعافي من منطلق ضرورة تأمين المواد الغذائية والضرورية نتيجة الظروف المفروضة على كافة مدن ومحافظات الجزيرة السورية.

الأثر السلبي الذي يبدو “بسيطًا” من وجهة نظر السليمان وشويش، يجده خالد الشيخي، وهو صاحب محل صرافة في مدينة القامشلي، أكبر من مجرّد تراجع في التبادل التجاري، لافتًا إلى أنّ التعاملات بين أبناء القوميتين، تقلّصت مؤخرًا لانعدام الثقة بين الطرفين، الأمر الذي خلق حالة من الركود الاقتصادي في المنطقة.

محمد الصالح، أحد سكان مدينة القامشلي، نوّه إلى وجود حالات من الاحتكار التجاري، المتعلّقة بأنواع معينة من السلع، من قبل تجار كرد وعرب في منطقة الجزيرة السورية، ما انعكس في تعزيز أثر الركود الاقتصادي، وقلّص من حجم عمليات التبادل اليومية.

إلا أنّ معروف محمود الحسين، وهو أحد سكان مدينة القامشلي، يجد أنّ الحصار المفروض على محافظة الحسكة، عزز التعاملات التجارية بين الكرد والعرب، وخلق شراكات جديدة تتعلق ببيع وشراء وتصدير واستيراد كافة السلع والمواد التي تحتاجها المنطقة.

كيف بدت الحياة الاقتصادية والزراعية في الجزيرة السورية تاريخيًا؟

من المفارقات أن الجزيرة السورية، التي كانت لعقود جاذبة للهجرة الداخلية بفعل الثورة الزراعية خلال أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، غدت طاردة حتى لأبنائها أنفسهم خلال العقود اللاحقة.

من كتاب “التكون التاريخي الحديث للجزيرة السورية” للأستاذ جمال الباروت، نستعرض بشكل موجز لمحات عن إعمار الجزيرة والنشاط الاقتصادي فيها منذ نشوء الدولة السورية حتى عهد البعث.

تجار حبوب في الحسكة - 29 أيلول 2016 (عنب بلدي)

تجار حبوب في الحسكة – 29 أيلول 2016 (عنب بلدي)

معجزة فرنسا: إعمار الجزيرة

كانت عملية إعمار الجزيرة “معجزة” فرنسية، إذ كانت أول عملية منهجية ومنظمة ومثابرة تجري في منطقة الخابور منذ ستة قرون تقريبًا، حيث أخفق البرنامج الإعماري العثماني الأول والثاني في إعمار الجزيرة، فارتفع عدد سكانها من بضعة آلاف مستقرين في بعض التجمعات القروية قبل الاحتلال الفرنسي إلى أكثر من مئة ألف نسمة في التقديرات الوطنية “الرسمية”، أو ما قد يصل إلى نحو 158550 نسمة في عام 1936، وفقًا لتقديرات ميدانية للاستخبارات الفرنسية.

وقد بدأت سلطات الانتداب بعد سيطرتها على الجزيرة اتباع سياسة تشجيع الإنتاج الزراعي، وإنشاء القرى بواسطة توسيع الحيازة الزراعية عن طريق وضع اليد في عام 1926، حيث أعفت الحكومة في العام 1926، ”على كل شخص مهاجر أو ملتجئ أو متوطن في قصبة الحسجة من لواء دير الزور أنشأ دارًا أو دكانًا أو أي بناء آخر في أراضي الدولة الواقعة ضمن حدود القصبة، سواء أكان بإذن رسمي من الحكومة أو بدونه، تأدية بدل المثل والعائدات السنوية المترتبة عليه على أراضي البناء، ويكتسب حق التصرف به مجانًا”، وأعطيت الأولوية للمتوطنين ثم للمهاجرين المتلجئين المقيمين في القصبة، إذا اكتسبوا الجنسية السورية.

التحضر والتهريب

كانت قرى محافظة الجزيرة مزدهرة بشكل طبيعي بسبب أمطار المنطقة الوفيرة وجوها المعتدل، وهو ما أهلها لنجاح موسمين على الأقل من ثلاثة مواسم، وبشكل خاص موسم القمح، وكانت هذه القرى تستفيد فوق ذلك من تنامي الحركة التجارية غير المنظورة “التهريب”، لا سيما للصوف والسمن والحبوب والسكر والأرز والتمور والدبس بين الجزيرة وتركيا والعراق، ولهذا كانت أكثر القرى ازدهارًا وتطورًا وعمرانًا، من ناحية اتساع مصادر دخلها أو ناتجها المحلي الإجمالي. وقد سببت خسارات كبرى لاقتصاد تركيا، التي شنت صحفها حملة على التهريب، ما جعلها تشدد حملتها على المهربين وتعزز أمن الحدود، ولكن رأس المال المتراكم من التهريب أعيد استثماره في الزراعة.

في هذا التطور كله لم يكن ممكنًا أن تحقق سياسات التحضر نجاحها المبهر والمبكر لولا ترافقها مع تأسيس مراكز إقليمية “مدينية” بديلة. ومثلت عملية بناء مدينة الحسكة والقامشلي هذا البديل، بشكل تحل فيه الحسكة مكان ماردين، والقامشلي مكان نصيبين، بحيث تتجه الحسكة إلى كل من الموصل ودير الزور فحلب، بينما تتوجه القامشلي نحو حلب بفضل الخط الحديدي.

بين مراكز البلدات والمحيط القروي والسهبي

كانت المدن والبلدات التي نمت في عملية الهجرة من شمال خط سكة الحديد في تركيا إلى جنوبها في سوريا مسيحية وأرمنية ويهودية بدرجة أساسية، وكان العرب المسلمون فيها ينحدرون من المدن السورية الأخرى، لا من الأصول البدوية المحلية، أو من أعيان العشائر المحلية ورؤسائها، بينما كان الريف المستقر كرديًا بصورة أسياسية، في حين كانت السهوب عربية مؤلفة من بدو رحل وأنصاف حضر، ولذلك فإن العلاقة بين المدن الجديدة والمحيط القروي الكردي والمحيط الزراعي الرعوي الكردي والعربي أخذت تكتسب بعض سمات العلاقات بين المراكز المدينية الناشئة ومحيطها.

يتنمذج ذلك على مستوى العلاقة بين مركز مدينة الحسكة ومحيطها، في نمو العلاقة التجارية بين إنتاج الجبور (وهي عشيرة عربية) من السمن والصوف وبين تجار سوق الحسكة التي يسيطر عليها المسيحيون واليهود، وكذلك بين لواحقهم “الشرابين”، الذين كانوا يعملون بالفلاحة وتربية الأغنام لحساب زعماء العشائر العربية الكبيرة وتجار السوق.

الثورة الزراعية في الجزيرة: “كاليفورنيا سوريا”

أتت بعثة سبيرز البريطانية إلى سوريا بين عامي 1941 و1944، وبقيت آثارها حتى نهاية الأربعينيات، وقد شجعت على التوسع باستصلاح الأراضي الزراعية وزراعتها بالقمح لأسباب عدة أبرزها حل مشكلة ندرة القمح، وبروز المشروع البريطاني لتشكيل نواة

حققت سياسة القمح والحبوب، التي قامت بها بعثة سبيرز البريطانية في سوريا بين عامي 1941 و1944 ،نجاحات مبهرة، إذ ارتفعت مساحة الأراضي المزروعة في سوريا من نحو 1,75 مليون هكتار عام 1938 إلى 2,3 مليون هكتارًا عام 1945، وتحولت سوريا إلى بلاد مصدر للحبوب بعد أن كانت بلدًا مستوردًا صافيًا لها.

مؤسسة إقليمية يعتمد على الاكتفاء الذاتي، بالحبوب خاصة، وبالمنتوجات اللازمة للجيش البريطاني عمومًا.

وقد مثلت الجزيرة إحدى أبرز أولويات البعثة في مجال سياسة القمح والحبوب، وقام خبراء البعثة بجهود كبيرة لإقناع شيوخ البدو في الجزيرة بزراعة الأراضي التي يحوزون عليها ببذار جديدة بديلة عن بذار محصولهم المحلي الرديئة، واستفادت البعثة من انحسار موجة الجفاف بتحفيز رؤساء العشائر العرب والأكراد في الجزيرة والفرات مباشرة على زيادة إنتاج القمح، وكان هؤلاء من فئة الملاكين الكبار، كما وجد بعض من الشيوخ والآغوات الكرد، والذين قررت تركيا نقلهم إلى غرب الأناضول ملاذًا لهم للاستقرار والأمان في سوريا عمومًا، وفي الجزيرة خصوصًا، وبهذا الشكل ساهم هؤلاء، الذين يمتلك بعضهم مدخرات كبيرة نسبيًا في تحويل ادخاراتهم إلى استثمارات زراعية، ما سرع من نمو الحياة الحضرية القروية.

وحققت هذه السياسة على المستوى الإجمالي نجاحات مبهرة، إذ ارتفعت مساحة الأراضي المزروعة في سوريا من نحو 1,75 مليون هكتار عام 1938 إلى 2,3 مليون هكتار عام 1945، وتحولت سوريا إلى بلد مصدّر للحبوب بعد أن كانت بلدًا مستوردًا لها.

شركة أصفر ونجار

تعود جذور هذه الشركة العائلية إلى أوائل الثلاثينيات، حين نقلت مدخراتها ورساميلها من ديار بكر إلى القامشلي، وبدأت بإنتاج الرز، لكن تطورها الحقيقي لم يبدأ إلا في أوائل الأربعينيات، في إطار بعثة “سبيرز” للتوسع في الاستصلاح الزراعي، إذ أسست في عام 1942 على شكل شراكة بنيها وبين “الباشات”، إي أبناء إبراهيم باشا الملي، ورؤساء العشائر الملية كبرى العشائر الكردية في الجزيرة، لاستثمار 300 ألف هكتار من الأراضي التي يحوزون عليها.

سرعان ما تحولت شركة أصفر ونجار إلى أكبر ملاك عقاري في الجزيرة، فكان مزارعو الجزيرة يشترون منها آلاف الدونومات لزراعتها، وكانت الشركة قد قسمت الأراضي القابلة للزراعة إلى مربعات، كل مربع هو 16 ألف دونم يستأجرها الفلاحون الذين يأتي معظمهم من الجزيرة السورية.

 ثورة “الذهب الأبيض”

حتى عام 1950 كان المحصول الأساس في الجزيرة هو القمح، ولكن تزايد الطلب العالمي على القطن مع اندلاع الحرب الكورية، جعل القطن المحصول الأساسي هناك، حتى اقترب في عام 1954 من معدل الإنتاج في الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت شركة أصفر ونجار الرائد الأكبر في عملية الري بالرفع، بواسطة المضخات التي مكنت من رفع المياه من حوض الفرات المنخفضة لإرواء مناطق واسعة جدًا، ولذلك ازدهرت كافة حلقات إنتاج القطن زراعة وتمويلًا ونقلًا وتصنيفًا وتسويقًا، وغدا المئات من تجار المدن وصناعييها مستثمرين في الجزيرة والفرات، كما تحول كثيرون من المهاجرين السريان الأوائل وأعيان الكرد المقيمين تاريخيًا في الجزيرة قبل نشوء الدولة السورية إلى مزارعين متوسطين وكبار.

شركة الآليات الزراعية المساهمة المغفلة

التوسع بزراعة القطن والحبوب رافقه توسع آخر بتجارة الجرارات وصيانتها وما يتعلق بها، وظهرت لذلك مبادرات القطاع الخاص، الذي ألف نحو خمس شركات كبيرة لاستيراد الآليات الزراعية، كان في عداد هذه الشركات شركة الآليات الزراعية المساهمة المغفلة، التي ألفها في القامشلي سبعة عشر مزارعًا من مزارعي الجزيرة في عام 1953، وكان أبرز مؤسسيها من السريان ورؤساء العشائر الكردية والعربية، الذين تحولوا إلى رأسماليين زراعيين في مرحلة رسملة الزراعة وتوجيه الإنتاج إلى السوق العالمية.

التأميم والقحط المزمن

أممت دولة الوحدة في 1958 الشركات الكبيرة، لا سيما شركة أصفر ونجار، كما استولت على مساحات واسعة من الأراضي لكبار الملاك، بدعوى توزيعها على الفلاحين، وهو ما لم يحصل بسبب الانفصال في 1961 وإلغاء حكومة الكزبري لقرار التأميم، وهو ما أدى إلى ظلم كبير على الفلاح، الذي حرمته الدولة من حقوقه وأجبرته عمليًا على النزوح إلى المدن الداخلية السورية، ترافق ذلك مع سنوات القحط المتكررة على الجزيرة، وتناقص الطلب العالمي على القطن والحبوب، وهو ما جعل محافظة الحسكة من أكثر المحافظات الطاردة لسكانها بعد أن ظلت لمدة عقدين أو ثلاثة عقود من أكثر المحافظات السورية جذبا للهجرة الداخلية بفعل الثورة الزراعية.

 

أعد هذا الملف من قبل جريدة عنب بلدي بالتعاون مع إذاعة راديو آرتا إف إم


حلقة خاصة عن الملف في إذاعة راديو آرتا إف إم

English version of the article

مقالات متعلقة