الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء
نحن وهم.. ما الذي رآه السوريون في سكّان العالم المتحضر؟
عنب بلدي – حنين النقري
مع كثير من الحيرة والحسرة والتيه، خرج ملايين السوريين من بلادهم، ليشقوا طرقهم في بلاد جديدة عليهم، ويحتكوا بشعوب وأجناس بلغات مختلفة في نواحٍ متفرقة من الكرة الأرضية، لا يجمع بينها شيء، إلا أنها في معظمها تحتل ترتيبًا أفضل من سوريا على سلم التقدم ومؤشراته المختلفة.
شكّلت تجارب السوريين في تغريبتهم الكبرى الاحتكاك الأول، بالنسبة لمعظمهم، مع الأجانب، والاستكشاف الأول لِكُنه هذه المخلوقات التي تعيش حياة أفضل منهم، وتستحقها، ومعاينتها بشكل أكثر دقة مما نقله زائرو هذه البلاد يومًا، وما تنقله شاشات التلفاز كل يوم.
“اكتشفت أنهم بشر عاديون جدًا جدًا، يعيشون في بلاد متحضرة جدًا”، هذا ما يقوله محمد، لاجئ سوري مقيم في ألمانيا منذ عام ونصف، ويؤكد صدمته “كان ذلك خارج توقعاتي تمامًا، لكنني أصادف هنا كل أصناف البشر الذين قابلتهم في سوريا، ليسوا شعبًا من المثقفين المنظمين المفعمين بالحياة فقط، كما كنت أتخيل”.
نحارب الناجح حتى يفشل
لا ينفي محمد المستوى الحضاريّ الكبير للمعيشة في ألمانيا، يقول “النظافة، النظام، الدقة والخدمات جميعها أبهرتني، وأعتقد أنه انبهار مشترك لدى كل اللاجئين من دول العالم الثالث، لكن الفكرة التي تكشّفت لي مع إتقاني اللغة واحتكاكي بالألمان، أن الفارق بين معيشتنا ومعيشتهم، والخدمات التي تقدمها حكوماتهم مقارنة بما تقدمه حكوماتنا، كبير جدًا، في حين لا تجد الفارق بهذا الاتساع بين الإنسان السوري، والإنسان الألماني”.
يدلل محمد على فكرته باقتباس للعالم أحمد زويل عندما قال “الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا أغبياء، ھم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح، ونحن نحارب الناجح حتى يفشل”، ويضيف “الإنسان العربي مقهور ومكبّل بعقد النقص، وبالإحساس بعدم الاستحقاق، الحكومات هنا تدعم مواطنها بقوة حتى ينجح، في المقابل حتى تتميز في البلاد العربية يجب عليك أن تتعب على نفسك بشكل هائل، وأن تبذل جهودًا ذاتيّة جبارة، وقد يأتي من يبدّد جهودك هذه كلها بجرّة قلم على طاولة مسؤول، أو اعتقال تعسّفي، أو ببساطة لعدم وجود فرص”.
“مطحونون“
“نحن مطحونون”، بهذه الكلمة عبّرت المهندسة ريم، لاجئة سورية مقيمة في السويد، عن السوريين، مقارنة برفاهية المعيشة التي يتلقاها المواطن الأوروبي في بلاده، فتقول “المواطن العربي عمومًا مطحون، ما بين سوء الواقع الذي يعيشه، والضغط المطبق عليه من الحكومة على كافة الصعد، بينما لا تجدين ذات الضغط على رجل الشارع في أوروبا، والفارق الجوهري هنا هو في الحكومات وليس الناس”.
تؤكد ريم على وجود صفات حضارية لدى الناس قد نفتقر إليها فيما بيننا، لكنها ترى أن جزءًا من هذه الصفات مكتسب بفعل التركيز عليها في التعليم والقانون، “ليس لأنهم أفضل منا”، حسب تعبيرها، وتضرب على ذلك مثالًا “قد يهتم المجتمع الغربي بإعادة التدوير بشكل كبير لكن ذلك بسبب القوانين التي تفرض عليهم فصل القمامة حسب نوعها، وقد يكون الشعب دقيقًا في مواعيده لكن ذلك جزء من دقة النظام ومواعيد القطارات والخدمات كلها، ما أود قوله أن الإنسان الغربيّ له حقوق كبيرة على دولته مقابل واجباته تجاهها، بينما في بلادنا علينا واجبات فحسب، هذا إن جرى الاعتراف بأن المواطن إنسان”.
إحساس بالنقص
رغم إقامته في تركيا، لا تختلف وجهة نظر لؤي، وهو مصمّم سوري، عمّا يراه محمد وريم في أوروبا، ويشير إلى وجود إحساس قوي بالنقص لدى السوريين مقابل القوميات الأخرى، موضحًا ذلك بتجربة مرّ بها “بحكم عملي عن طريق الإنترنت، رغبت في تقوية مهاراتي باللغة الإنكليزية للانفتاح على سوق العمل غير العربي، وبالفعل اشتركتُ بمعهد أمريكي هنا في تركيا وبدأتُ بحضور دورة بمستوى متقدم، مع زملاء أتراك”.
وهنا كانت المفاجأة للؤي، يشرح “من المعروف أن الأتراك بعيدون تمامًا عن تعلم اللغات الأخرى، لكنني لم أتوقع أن يكون الأمر كذلك في دورة لتعلم اللغة، إذ بالكاد تستطيع فهم لفظ كلماتهم بالإنكليزية، لكنهم لا يجدون أدنى حرج في ذلك، على العكس منا، إذ نحاول أن نصل للكنة بريطانية أو أمريكية أصيلة، ونخجل بشدّة من الخطأ باللغات الأجنبية، وكأنها لغتنا الأم”.
يعزو لؤي الأمر إلى الإحساس بالنقص لدى العرب “والشعور بأن الآخر الذي أمامنا أفضل منا”، حسب تعبيره، وهو أمر لا يرى مشابهًا له في محيطه من الأتراك “في حين نرى أنفسنا مجبورين على تعلم الإنكليزية، لا ترى الأمر ملحًا على الشعوب الناطقة باللغات الأخرى بذات القدر، وفي حين تسرّنا اللكنة المميزة لمن يتعلم اللغة العربية من غير الناطقين بها، ونثمّن محاولاتهم لتعلمها، نخجل بشدة من عدم وصولنا للهجة الأصلية باللغات الأخرى، بل ونستهزئ بأخطاء بعضنا البعض باللغات الأجنبية”.
حتى ذوو الاحتياجات الخاصة
عملت الآنسة هبة، وهي سورية مقيمة في ألمانيا، في معهد خاص لذوي الاحتياجات الخاصة في سوريا لعدة سنوات سابقًا، وهو ما جعلها تركّز على هذه الفئة في مقارنتها بين حياة الإنسان في أوروبا وفي سوريا، تقول ” في المعهد الذي كنتُ أعمل فيه، لم يكن لدينا فصل حسب نوع الإعاقة، فمثلًا الطفل الذي كان يعاني من صعوبات في التعلم ونقص الانتباه (والذي يحتاج لعناية مباشرة وشخصية) يُدمج مع طفل لديه توحّد شديد، رغم أن صعوبات التعلم تعتبر نوعًا أبسط وأكثر قابلية للتحسن، وهو ما يجعل دمج الحالتين مع بعضهما أمرًا مجحفًا بحق من يعاني صعوبات التعلم، إذ يحرمه من فرصه في التحسن الأسرع”.
إحدى الحالات التي التقت بها هبة في ألمانيا كانت لشاب يعاني من نفس الحالات التي كانت مسؤولة عنها في سوريا، والذي أثّرت العناية والجهد المقدم له بشكل ملموس على حاله، تتابع “بصبر كبير من والدته وتعاون من المدرسة استطاع الطفل أن يدرس حتى الصف التاسع في مدرسة عادية، ورغم فرط النشاط وصعوبات التعلم والمنطق لديه (وهو نمط متعب جدًا لمن يدربه ويتعامل معه في الواقع) درس بعد التاسع في معهد للكهرباء، وهو اليوم يعمل في وظيفة ثابتة مثل أي فرد آخر في المجتمع، بتفهم كبير من محيطه وجهد أكبر لمساعدته”.
الفرص للجميع
تتابع هبة واصفةً مشهدًا آخر يتكرر أمامها في شوارع ألمانيا، حيث “تعطي الدولة مهام بسيطة لذوي الإعاقة للمشاركة في المجتمع، فكثيرًا ما أرى عمالًا من ذوي الاحتياجات الخاصة لجمع أوراق الشجر في الخريف، أو لمّ أعقاب السجائر، وغيرها من الأعمال البسيطة التي لا تشكل صعوبة عليهم، وتجعلهم في الوقت نفسه مشاركين وفعالين في المجتمع الذي ينتمون له”.
تؤكد هبة أنها، طيلة سنوات عملها في المجال، لم تر سابقًا إشراكًا لشخص ذي إعاقة بعمل حقيقيّ يعود على المجتمع بالنفع وعليه بالمقابل الماديّ، وتختم حديثها “ولادة طفل بأي نوع من الإعاقة في بلادنا هو أشبه بالمصيبة في العائلة، لأنه سيكون عبئًا على أهله طول حياته، لكن رؤيتي لمشاركة ذوي الاحتياجات الخاصة في أعمال حقيقيّة هنا يجعلني أفكر في أهمية الدعم، تأمين الفرص لكافة درجات الكفاءات لدينا، وهو أمر يفتقر له الإنسان العادي في بلادنا، فما بالك بذوي الاحتياجات الخاصة؟”.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :