المسجد المحتل في أوروبا
بهاء زيادة
عندما تقرأ عنوانًا كهذا سوف يخطر في بالك ربما للوهلة الأولى المسجد الأقصى في القدس المحتلة، ولكن ما أردته هنا غير ذلك المعنى تمامًا.
قبل الثورة السورية كانت المساجد في سوريا محتلة، ومساجد أوروبا أيضًا محتلة في غالبيتها، لا يشترط أن يكون احتلالًا عسكريًا، أو من قبل الساسة، ولكنها كانت محتلة بتفكير ومنظومة لا يستطيع أن يحلّها سوى كل حليم رشيد تمكن من كسب رضا من وكلت إليه.
أذكر في بداياتي أن أحد أصدقائي قد منع من القدوم لدروس المسجد بسبب علاقته بمسجد آخر، فلا يمكن له فعل ذلك قبل أن يعلن الولاء المطلق لهذا أو ذاك، كما تم فصل آخر بسبب ذهابه لحضور درس في الفقه عند شيخ خارج المسجد.
هذه ليست طرائف تدعو للضحك ولكنها حقًا حدثت، كما أشاهد اليوم ذات الأمر في أوروبا، حيث تنقسم المساجد على مذاهب متعددة، بين سلفي وصوفي وتسميات أخرى يطلقونها على أنفسهم قد يصيبوا بها أو يخطئوا، ولكنهم أخطأوا حتمًا في انقسامهم في ظل مجتمع ينظر إليهم مجتمعين على أنهم هيكل واحد، يكنّون له إما الكره أو الاحترام والتقدير.
الاحتلال الذي قصدته أبحث عنه في كل مسجد أدخله، أفتش بين عيون الإمام أو الخطيب (لا أشكك في إخلاصهم أو علمهم)، ولكني فقدت الأمل بان أجد ذلك المسجد الذي يتسع للجميع، جميع المسلمين، وبدأت أوقن أن كل مسجد يملكه عدة أشخاص، لا يمكن اختراق السور الذي بنوه حولهم والدخول إلى مسجدهم إلا من رحم ربي، حيث ربما الولاء والتزكية أهم من الكفاءة والمعرفة.
آذن المسجد هو الشخصية ذاتها المتكررة اليوم وقديمًا، هو ذلك العجوز الذي يلجأ إلى توبيخ الأطفال الذين يلعبون في المسجد، والتذمر من تأخر جلوس الشباب بعد الصلاة، وحوائج المسجد كأنها له وليست لعامة المسلمين، كما أن مهمة أداء الآذان هي أمر لا يمكن مناقشته أبدًا، على الرغم من رداءة الصوت في غالب الأحيان، وإمام المسجد ليس بالضرورة أن يكون ذلك الكفء أقرأهم، ولكن يكفيه أن يكون من أحبابنا. ذهبت إلى مسجد يومًا، تفاءلت فيه عندما وجدتهم يختبرون من يأتي لتدريس القرآن فيه بأدق تفاصيل القراءة، ولكني عندما صليت خلف إمام المسجد عدت لضلالي القديم.
حضرت منذ فترة محاضرة لدكتور مسلم في ألمانيا، تتكلم عن علاقة المسلم بالشريعة الإسلامية، كنت متحمسًا لأحضر محاضرة إسلامية بعد انقطاع طويل، ولكني للأسف وجدت نفسي اسمع ذات الشيء وكأن شيء لم يفتني، إذ راح النقاش بين المحاضر والحاضرين عن المعتزلة والأشاعرة والمرجئة، مع صرف النظر تمامًا عن واقع مسلمي أوروبا والقضايا الكبيرة التي تواجههم، فهي بسيطة ربما أمام هذه المناقشات المعقدة والغنية.
الأمر كغيره لا يجب إطلاقه بشكل عام، بيد أن الاستثناءات التي تحثك للتكلم بإيجابية هي قليلة جدًا، فهذه الأمراض تتلازم مع فكرة إنشاء أي مسجد على الرغم من تغير البيئة والمجتمع وآلية التفكير، إذ سيخرج من ينفر الآخرين من نقاش موضع اليدين أثناء الصلاة أو حركة الإصبع عند التحيات، حتمًا لن يخلو مسجد من هؤلاء، أو من الذي سيذهب للاندماج هنا وهناك بين المجتمع الغربي وينكر إقامة مولد لذكرى إسلامية في المسجد على أنها بدعة.
المسجد في أوروبا هو ليس مكان للصلوات الخمس، حيث لا يبحث أحد عن مكان للصلاة هنا، ولكنه جامع للمسلمين مهمته أكبر من كونه مكان للصلاة فقط، يأوي إليه المسلمون في سراءهم وضراءهم، كما يرسلون أبناءهم لتعليمهم مبادئ الإسلام، فمن المهم بالنسبة لمسلمي أوروبا الذين يصل عددهم إلى 50 مليون مسلم عدم توريث هذه الأمور التي طالما زادت في خلاف وشرذمة المسلمين على مدى العصور، وتركها هناك خلف حدود البلاد التي هاجروا منها ليفتحوا مع مساجدهم صفحة جديدة تلم جميع المسلمين على اختلاف ثقافتهم وألوانهم.
لا كهانوتية في الإسلام، تنفي كل معاني التقديس لمن نعتقد أنهم رجال دين، فلم تذكر هذه الكلمة لا في كتاب ولا سنة، العيش في اللحظة الراهنة ومواجهة تحدياتها هي الحاجة التي يسعى إليها المسلمون في أوروبا، دون أن يهتدوا إليها في رحاب مساجدهم، حيث يعيش أهلها في الماضي ويحلمون بعمر بن الخطاب وبن عبد العزيز، فهم يتحمّلون وهن التجمع الإسلامي في الغرب، من دون هوية أو مشروع، أو حتى مرجعية تمثلهم وتشرع لهم، بدل أن تقسمهم بين هلال رمضان وشوال.
يذكر الدكتور عبد الفتاح مورو زعيم حركة النهضة في تونس في أحد لقاءاته أن “المسيحيين عالجوا مشاكلهم في داخلهم، وحتى اليهود، رغم استمرار بعض النتوءات، أمكنهم أن يتحكموا في خلافاتهم الذاتية، أما المسلمون هم الأمة الوحيدة التي لم تتمكن حتى الآن من معالجة قضاياها الداخلية، لأنهم أفرطوا في مسألة الحرية، فجعل الاجتهاد قائمًا على حرية الممارسة الفردية، إذ يكفي فتح كتب المطولات لتجد في القضية الواحدة سبعين رأيًا، كلها يستند على نص وفهم. لم تتكون لديهم مرجعية على مستوى العلم، من شأنها أن تجعل الدين ينحو منحى محددًا، فمثلًا ماذا يفعل اتحاد علماء المسلمين حاليًا غير أنه يتحدث عن زرع الأعضاء وعن الربا والتأمين وغير ذلك من القضايا. وهذا جهد علمي محمود، لكن أين تأثيره على مستوى المجتمع وهل يشكل مرجعية ملزمة لدى الأمة”.
ينتهي احتلال المساجد عندما يجلس المسلمون على طاولة واحدة مع أنفسهم وليس مع أصحاب الأديان الأخرى، فالحوار يبدأ عندما ينتهي اعتقاد كل طرف مسلم أنه هو وحده حامل المشروع الإسلامي، ويتخلصون من مصطلح المعركة الأيديولوجية وتحرير الناس من تقديس أصحاب المحاريب والمنابر، واللحى والعمامات، إلى ممارسة الدين لانتهاك حرمة دينه بسبب لحية أو زي أو سلوكه الفردي.
المسجد المحتل لن يفرز جيلًا يمكن أن يتابع المسير في المستقبل، ببناء واجتهاد لمواكبة حركة البلدان التي يعيش فيها ويكون منافسًا علميًا وعمليًا فيها، بل سيقتصر تفكيره على حدود رسمها له ذلك المحتل.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :