فاطمة التي نجت لترسم الحكاية
عنب بلدي – علي بهلول
“إذا كنتَ متعرضًا للتهديد من عدة أطراف، ستلجأ إلى أكثر الطرق سلامةً، وأقلها خطرًا، لتستمر بالحياة وتوصل ما تؤمن به”، تقول الرسامة الشابة فاطمة السراقبي، التي تعيش في محافظة إدلب.
“باختيارك لهذا الطريق ستواجه أقل، لكنك ستكسب أكثر، وإذا كنت واثقًا بما تفعله، وتتلقى دعمًا كافيًا من الناس المحيطين بك، فستصل إلى ما تريده”، تختصر فاطمة بهذه الكلمات أسلوبها في تطويع الظروف التي يمرّ بها المجتمع، لخدمته بالأداة التي تملكها، الفن.
بالنظر إلى كلام فاطمة، تكتشف أنه لا يهمها الاصطدام بالحواجز وعبور الدروب المغلقة، الأهم هو كيف تجعل الدروب المتاحة أكثر جمالًا.
لا تذكر فاطمة متى بدأت الرسم تحديدًا، تعتقد أن الأمر يعود لأول مرة أمسكت فيها قلمًا، أما اكتشاف ميلها للفن فيعود للعب بالمعجون، الذي سرعان ما حوله دعم والدها إلى هواية قابلة للتطور، وهو ما أثر مستقبلًا على دراستها، إذ اختارت اختصاص الهندسة المعمارية للخوض فيها، وهي دراسة تتطلب مهارة كبيرة في الرسم.
في مناطق توصم اليوم بأنها “محافِظة”، حصلت فاطمة على دعم كبير من عائلتها وأصدقائها، ما أمن لها “منطقة عازلة”، تحميها أثناء سعيها لتحقيق هدفها.
شاركت منذ فترة قريبة بمعرض رسوم بفضل هذا الدعم، الذي شجعها على منافسة فنانين وفنانات وصفتهم بـ “المحترفين”، كونهم نشروا رسومهم في مجلات وشاركوا في معارض من قبل، بينما كانت هي تخطو أولى خطواتها بينهم لعرض رسومها في الوسط العام، خارج حدود منزلها.
“أحيانًا تصلني رسائل تخبرني أن الرسم حرام”، تقول فاطمة، “لكنها مكتوبة بطريقة لبقة جدًا ومن باب النصيحة، لم يسئ أحد إلي”، توضح الشابة التي تكتفي بتشكر المرسل، وتكمل عملها بما تقتنع به.
لا توقع هذه الرسائل فاطمة في فخ التناقض، كونها فتاة ريفية ومحجبة، بل تجد نفسها دومًا منسجمة مع معتقداتها، “ربما لأنني أرسم منذ الصغر، لذلك لا أشعر أنني أناقض ذاتي التي أؤمن بها”.
وكما نجت فاطمة من “كلام المجتمع”، الذي تعتبره أكثر ما قد يؤذي الفتاة، سواء كانت فنانة أم لم تكن، نجت كذلك من مواعيد لم تكتمل مع الموت، على بعد أمتار، على بعد دقائق، دائمًا كانت الفتاة التي يفشل الموت باختطافها.
لكن في النجاة الأولى كان لدعم العائلة والأصدقاء دور في سلامتها، أما في النجاة الثانية من القصف والانفجارات، فإن قوةً غيبيةً تكفلت بحمايتها، ما جعل سؤالًا مزمنًا لا يكفّ عن ملاحقتها “لماذا بقينا أحياء بعد كل ما مررنا به؟”.
“الحياة لا تتوقف لأن الموت قريب دومًا”، تستجيب فطرة الإنسان داخل فاطمة لسؤالها الملحّ، “الرسمة هي صوتي، يجب أن تحكي الرسمة عما نعيشه، وأن يصل هذا الصوت إلى خارج سوريا”.
لذلك بقيت فاطمة على قيد الحياة، ولذلك بقي من نجوا معها أحياء، لأن لكل إنسانٍ دورًا يؤديه، وجزءًا من الحكاية التي لا تكتمل إلا بوجوده.
عام 2015 سقط برميل متفجر في المنزل المجاور لفاطمة، ماتت جارتها وزوجها النازحان منذ عام، ونزح أهلها بدورهم، في حين بقيت الشابة في سراقب لمتابعة حياتها الجامعية.
وكانت فاطمة كلما مرت بالقرب من منزل جيرانها تتذكر ما حدث، حتى بدأ القصف على حلب عام 2016، وانتشرت صور مرعبة للمصير الذي واجهه المدنيون هناك، وكانت صورة لفتاة انهار سقفٌ فوقها، ولا يظهر منها سوى يد وقدم، من أكثر الصور التي سببت إحباطًا ويأسًا بين الناس في إدلب، بمن فيهم فاطمة.
“سأرفع يدي للعالم وأخبرهم أني مازلت حية تحت أنقاض بيتي”، بهذه الكلمات وسمت فاطمة رسمتها التي استوحتها من الحادثة، ولم تكن تعلم بعد حينها ما ستحمله هذه الرسمة من نبوءة لها في المستقبل، ففي ذات العام تعرض منزل فاطمة للقصف، سبعة أمتار فقط فصلت بينها وبين الصاروخ الذي سقط على طرف منزلها.
بنت الرسامة الشابة بمساعدة عائلتها عالمًا خاصًا بها داخل المنزل، وبينما كانت المواصلات صعبة للغاية وخطرة بين مناطق إدلب نفسها، كان الإنترنت وسيلة المواصلات التي لا تخذل فتاة مثل فاطمة، وتأخذها إلى حدودٍ بعيدة من المعرفة، لتتولى مهمة تدريب نفسها من خلال فيديوهات وصور، عبر “يوتيوب” و”انستغرام”، لتستمد منهما “ثقافة بصرية”، بحسب وصفها.
ليس المجتمع السوري بسهل الفهم، لتعدد “المجتمعات” داخله، ففاطمة مثلًا لا تستبعد وجود أشخاص يعجبون برسمها، لكنهم يرون فيها خروجًا عن “العرف”.
وينسحب هذا أيضًا على مناطق أخرى من إدلب، وحماة وريف دمشق، بحسب تواصل عنب بلدي مع بعض الأشخاص هناك، إذ أشاروا إلى عدم وجود اتفاق واحد على نظرة المجتمع للفن، فهناك من يرفض الفكرة بتاتًا لأسباب دينية، وآخرون لأسباب أمنية.
بالمقابل توجد عائلات تحاول تأمين أكثر الظروف سلامةً لأبنائها، لا سيما الفتيات، ليفعلن ما يشعرن أنهن قادرات على خدمة المجتمع به، والتعبير عن أنفسهن من خلاله، لكنه أيضًا يخضع لتفاوتات متعددة بحسب الظروف.
توجد عائلات تقدم دعمها داخل حدود المنزل، وأخرى داخل حدود المنطقة، وبعضهم الآخر يقفون إلى جانب بناتهم لمواجهة العالم بما اخترنه من أدوات يتسلحن بها، ويحاولون دعمهن للمشاركة في الحياة العامة كلما أتيحت لهم الفرصة.
خلف الصورة النمطية لمجتمع يوسم بالسواد، تختبئ فاطمة، وربما عشرات أو مئات أو آلاف من الفتيات المسلحات باللون والموهبة، بانتظار الصفحة البيضاء التي سيفتحها الزمن لهن.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :