tag icon ع ع ع

جريدة عنب بلدي – العدد 22 – الأحد – 1-7-2012

 

• محمد الملحم -حُمص

لقد عمد شباب الثورة منذ البداية إلى تشكيل مجموعات سرية صغيرة في أحياء المدن الثائرة، كل مجموعة مستقلة عن الأخرى بل لا تكاد تعرفها، أخذت هذه المجاميع الصغيرة على عاتقها تحريض الناس على الثورة في المساجد مستغلين اجتماع الناس فيها لصلاة الجمعة والصلوات الخمس (وجدتُ بعد الاستقراء أن هذا يكاد ينطبق على كل البقاع التي انطلقت فيها الثورة منذ البداية)، ففي كل حي كانت تتشكل مجموعة وتذهب للتكبير عقب صلاة الجمعة في المساجد الكبيرة في الحي، وقد تتبادل المجموعات الأدوار حتى لا ينكشف أمر الشباب فيسهل اعتقالهم وتوقيفهم، فما إن ينتهي الإمام من صلاة الجمعة حتى ينبري هؤلاء الشباب مكبرين حاثين الناس على الثورة، ثم تخرج المظاهرة ويلتقي الجميع في الساحة  العامة للحي، ومن ثّمَّ التوجه للساحات الكبرى في مراكز المدن (حدث ذلك في حمص وفي ريف دمشق). لقد حدثت عدة محاولات للتوجه إلى مراكز المدن لإقامة الاعتصامات هناك، لكن سياسة القمع التي لم ينتهج النظام غيرها من البداية تجاه أي فعل ثوري سلمي حالت دون ذلك، وهو ما دفع شباب الثورة للتفكير في حلول بديلة للحفاظ على وهج الثورة واستمرار دفقها، فكانت فكرة التظاهر في الأحياء، وابتداع فكرة المظاهرة الطيارة التي تجلت فيها القدرات التنظيمية للثوار؛ فقد كانت هذه المظاهرات تعتمد على الأعداد القليلة وسرعة الحركة في وقت قصير محدد، وهو ما مكن الثوار من نقل هذه المظاهرات إلى أكثر الأماكن خطورة فيما بعد (وخاصة في دمشق)، وكانت توزَّع فيها الأدوار؛ فالهتافات والشعارات ذات المضامين والمعاني السياسية والمطالب الثورية معدَّة مسبقاً بعناية، وهناك أشخاص محددون للهتاف، وآخرون لرفع الأعلام والرايات، وفريق ثالث للتصوير ورفع الملفات على المواقع الاجتماعية وإرسالها إلى وسائل الإعلام، وآخرون لرصد الطرقات المؤدية إلى مكان المظاهرة لتفويت الفرصة على عصابات الأمن والشبيحة. وبذلك غدت الأمور أكثر سلاسة وتنظيمًا وتأثيرًا.

ولم يفت شباب الثورة الاطلاع على رصيد وتجارب الشعوب الأخرى في مواجهة الدكتاتوريات بالوسائل السلمية، فكان منهم التفاتٌ إلى تلك التجارب واقتباسٌ منها، فمن ذلك قطع الشوارع الرئيسية بالمواد المشتعلة، وإطلاق البالونات التي تحمل عبارات رفض القمع والمطالبة بالحرية، وصناعة دمىً للطاغية المجرم بشار الأسد وإحراقها أو إعدامها، وغير ذلك من الكتابة على الجدران وتوزيع المنشورات والملصقات. ولعل من أعظم الأفكار وأخفِّها على الثوار مع شدة وطأتها على النظام وعصاباته، هي فكرة «التكبير» التي كان لها وَقْع الصواعق على المجرمين.

ومع ازدياد القمع وارتفاع عدد الشهداء عمد ثوار حمص إلى استدعاء مجموعات من الجيش السوري الحر لتأمين حماية مسلحة للمظاهرات، وهو ما كان له أثر كبير في إدامة زخم المظاهرات السلمية لأبعد مدى زمني.

أما في المجال الإعلامي فقد واجه شباب الثورة تحديات كبيرة جدًا، وخاصة أن النظام منع جميع وسائل الإعلام من الدخول وتغطية الأحداث! كما شكل انعدام التجربة والخبرة الإعلاميةوشبه الانعدامٍ لثقافة الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعية الـ (فيسبوك، التويتر، اليوتيوب) تحديًا كبيرًا يضاف إليه ضعف الإمكانيات وفقرها.

لكن بفضل الله -تعالى- ومنَّته تم تجاوز جميع هذه العقبات بامتياز وبأساليب أرهقت النظام وأربكته عالميًا وكشفت كذبه وتشويهه للحقيقة، بل أفقده مصداقيته أمام العالم أجمع.

لقد بدأ التصوير عشوائيًا لا احترافية فيه وبوسائل بدائية دونما توثيق (كاميرات الجوالات، ويد المصور لا تتوقف عن الاهتزاز)، وكان الاعتماد على الصور الثابتة كبيرًا، ومقاطع الفيديوهات كانت ترسل بشكل فردي لوسائل الإعلام فلا تلقيى صدىً، ولكن ومع التنظيم وتشكُّل المجموعات والفِرَق بدأ العمل الإعلامي يأخذ شكلاً أكثر تنظيمًا؛ فقد تم تشكيل المجموعات الإخبارية على موقع (الفيسبوك) وغرف (السكايب)، واتخاذ مراسلين في المناطق الساخنة، وتم توزيع نشرات تتضمن معايير نقل الخبر وصياغته، كما تم تخصيص فريق للتصوير (الثابت والفيديو)، وصار هناك إبداع في التوثيق، ثم تشكلت مكاتب إعلامية للتواصل مع الفضائيات الإخبارية (سواءً العربية أوالأجنبية)، ثم تطور الأمر فصار هناك البث المباشر على الفضائيات، الذي لا يكاد ينقطع، وبرزت كفاءات إعلامية لم يكن لها سابق دراسة ولا تجربة ولا تدريب، وصار للثورة ناطقون إعلاميون بارعون في نقل الحدث للعالم… كل ذلك وغيره في عمل استدراكي شبابي مسؤول، بل ربما كان بعض إعلاميي الثورة متفوقين على كثيرين من أقرانهم من الإعلاميين ممن نالوا حظًا وافرًا من التدريب والخبرة والممارسة، وبرز في الثورة خطاب إعلامي متوازن وحاز هذا الخطاب مصداقية منقطعة النظير، يقابل ذلك فشل ذريع للمؤسسة الإعلامية لنظام الإجرام الأسدي.

وفي المجال الحقوقي تشكلت مجموعات من شباب الثورة للتوثيق والتواصل مع المؤسسات الحقوقية، وأخذت عنها أهم معايير العمل الحقوقي، وكانت توثق بالصوت والصورة والتاريخ جرائمَ النظام، وتقوم بأرشفة كلِّ ذلك وترسله للهيئات والمؤسسات الحقوقية الدولية في أداء متميز يخاله المتابع عريقًا ضارب الجذور… وما هو إلا وليدُ هذه الثورة.

ولعل من أهم المجالات التي نالت قسطاً كبيراً من التنظيم، والتي يجب أن تُفرَد ببحث خاص، هي المستشفيات الميدانية؛ فعندما بدأ النظام بتصفية الجرحى بعد خطفهم من المستشفيات ابتدع الثوار فكرة المستشفى الميداني، فصار في كل حي ثائر مستشفى مجهز باليسير من الأجهزة الطبية الإسعافية، وفي كل منها فريق طبي من أطباء وممرضات ومتطوعين، والمستشفى محاط بعناصر من الجيش الحر للحماية، كما تخصص أناس في تغسيل وتكفين الشهداء ودفنهم، وآخرون في العمل الإغاثي وتوزيع الطعام والدواء والكساء على الناس.

لقد أثبتت الثورة منذ انطلاقتها أصالة هذا الشعب وقدرته -بعون الله تعالى- على تجاوز المحن، وتكيُّفه مع كل الظروف، وقدرته على تطوير الموجود وتوفير المفقود…

لقد أثبتت الثورة كفاءة هذا الشعب وأنه ولاَّد ومبدع ولا تقف دون طموحاته عوائق ولا تنال من شموخه محن…

ولولا الإطالة لكان مني استطراد في رصد تفصيلي لأداء هذا الشباب الثائر العظيم.

ولكنها الإشارة تكفي اللبيب.