بيلسان عمر – ريف دمشق
شهدت مدينة داريا تغييرًا كبيرًا في نسيجها العمراني واكب تطورها واتساع رقعتها التنظيمية، إلا أن هذه التنظيمات نسفت بمعظمها خلال الحملة العسكرية الأخيرة المستمرة منذ سنتين، في حين انقلبت بعض العادات والتقاليد المعروفة عن أهالي المدينة، متأثرة بظروف النزوح والحالة المعيشية المتردية.
تطور النسيج العمراني
تشير الدراسات إلى أن أول مخطط تنظيمي لداريا وُضع وصُدّق عام 1965، ثم أعُيد تصديق هذا المخطط مرة ثانية عام 1980. وتبلغ مساحة المدينة بموجبه 318 هـكتارًا، أي ما يعادل 3.2 كيلومترًا مربعًا تقريبًا، بشكل يقارب المستطيل المائل (شبه منحرف)، علمًا أن مساحة العمران حينها كانت 149 هكتارًا، أي ما يعادل 46.85% من مساحة المخطط، أما بقية المساحة فكانت كلها أراضٍ زراعية.
إلاّ أن ازدياد أعداد السكان أدى إلى زيادة العمران وتطوره، ما أدى إلى الخروج عن حدود المخطط التنظيمي، لذلك أصبح من الضروري إعادة النظر في المخطط التنظيمي القديم، بغية الوصول إلى تنظيم مناسب لاستخدام الأراضي في المناطق التي نما فيها العمران بوتيرة متسارعة، لتأمين النواحي الخدمية المختلفة للسكان.
وقد تطلب هذا الأمر إعداد مخطط جديد بمساحة تصل إلى 750 هكتارًا، والذي تم تصديقه عام 2000؛ وقد ضم هذا المخطط المناطق التي أدخلت ضمن التنظيم شمال وجنوب المدينة، وقسمًا من الأراضي شرقي المدينة.
وبلغت مساحة الأبنية في الأحياء والمناطق المخالفة ما يقارب 63 هـكتارًا، وهي تعادل 8.4% من مساحة المخطط التنظيمي المصدّق، وهذه الزيادات غيّرت شكل المدينة المخطط له، وأصبحت بشكل يمكن تقريبه إلى الشكل النجمي غير المنتظم، إذ لم تخضع في امتدادها إلى جهة محددة.
وترافق كل ما سبق مع تطور كبير شهدته المنطقة في القطاعات الصناعية والصحية والتعليمية والخدمية، من خلال ازدياد أعداد مراكز هذه القطاعات وتحسن خدماتها بشكل كبير.
العمران أثناء الحملة الحالية
نهاية العام 2012، شهدت المدينة نزوحًا جماعيًا لمعظم السكان البالغ عددهم قرابة 250 ألف نسمة، في حين بقي منهم قرابة 6 آلاف مدني فقط.
ولم يكتف نظام الأسد بمنع سكان المدينة من العودة إليها، وحرمان المحاصرين من إدخال المواد الغذائية والأدوية والمعدات الطبية فحسب، بل عمد إلى استهداف أحيائها بالبراميل المتفجرة والصواريخ الموجهة، ما أدى إلى تخريب البينة التحتية، إضافة إلى تدمير قسم كبير من أبنيتها، في حين غابت مساحات عمرانية كبيرة عن الخارطة، كما حصل في منطقة الخليج الزراعي، حيث فخخت قوات الأسد الأبنية وجرفتها، لخلق مساحة مكشوفة أمام مطار المزة العسكري، في حين يقول ناشطون إن تجريف المنطقة بهدف بيعها واستثمارها من قبل تجار محليين وعرب.
وقد أكدت الإحصاءات الأولية التي أجراها قسم الدراسات في المجلس المحلي لمدينة داريا، أن نسب الدمار في البنى التحتية والأبنية السكنية، تتراوح بين 70 إلى 90 بالمئة، لكن الإحصاءات تحكم بصعوبة تحديدها بدقة، بسبب القصف والاشتباكات وحملات الاقتحام المتكررة.
عادات اجتماعية قبل وبعد التهجير
سادت المجتمع الداراني عادات وتقاليد، بدأت بالتغير أو التلاشي شيئًا فشيئًا مع استمرار النزوح؛ على سبيل المثال، فإن الأعراف السائدة التي تخص الزواج في المدينة تبدأ ببحث الشباب عن الفتاة ضمن معايير الجمال والنسب والعمر، ثم يتفق أهل العروسين لإتمام مراسم الخطوبة ويعقد القران شيخ الحي؛ وبعدها يجهز الشاب بيت الزوجية، ريثما يعقد القران في المحكمة الشرعية، ويحدد موعد الزفاف المغرق بالتكاليف الباهظة والترف بأغلب الأحوال.
لكن ظروف هذه الأيام اضطرت المجتمع للتخلي عن الكثير من هذه العادات، وأكثر ما بات يتردد اليوم هو عبارات تؤكد ضرورة استمرار الحياة وتدعو للزواج وتؤيده، من قبيل “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه.. الحياة بدها تستمر، بعيدًا عن الترف والتكاليف السابقة.
كذلك حال الوفيّات، إذ اعتاد أهالي المدينة أن يُنادى على المتوفى في المساجد، ويغسّل ويكفّن في بيته، ويشيّع إلى المسجد بوجود حشد كبير يحملون النعش، مع تكبيرات ودعاء للميت، حتى وصولهم إلى المسجد، ليصلّى عليه صلاة الجنازة، ثم يخرجون به إلى المقبرة ليدفن هناك، في قبر مخصص للعائلة مسبقًا، أو يحفر قبر جديد للميت -مجانًا- لم يدفن فيه أحد قبله.
أما الآن، وبعد نزوح الأهالي واشتداد التضييق عليهم، باتت عملية نقل ودفن الميت مأساة بحد ذاتها، وهكذا أصبح القبر حلمًا، والوصول إليه “مغامرة”، فقد تكررت حالات اعتقال من ينقل جثمانًا، في حين تعرض كثر إلى إصابات جراء إطلاق النار عليهم أثناء عملية الحفر والدفن.
آثار التهجير من وجهة نظر الأهالي
اعتبرت السيدة أم لؤي، النازحة مع عائلتها من داريا، بأن التهجير أتاح لها فرصة للخروج من المنزل وإدارة شؤونه، مبدية في ذات الوقت تخوفًا على زوجها من الاعتقال، “كنت لا أعلم ما يدور خارج عتبة منزلي، أما اليوم فأنا أدبر كل أمور المنزل والأولاد”.
ووافقتها الرأي غدير البالغة 25 سنة، إذ عانت من أنها تنتمي لعائلة “منبوذة”، وتقول “كنت أخجل بلقبي بين صديقاتي في المدرسة، وخاصة لوجود عدة حالات سيئة في تاريخ أجدادنا نعاقب عليها، ليأتي النزوح فنختلط بمجتمع آخر، لا يعرف فيه أحد قصصنا ووصمات العار على الأسرة… أحمد الله أن خلّصنا نحن الأحفاد من خطيئة أجدادنا بعد أن تحملناها وقتًا طويلًا”.
في حين أصيب السيد أبو سامر بجلطة دماغية بعد خروجه من داريا “خرجنا على مضض خوفًا على الأولاد، وخاصة على البنات من عناصر الأمن والجيش، ونصحوني أن أدفن ما تملكه زوجتي من ذهب وأموال في مكان ما، خوفًا من اصطحابه على الحواجز”.
لكن ما لبثت الأخبار السيئة تتوارد إلى أبي سامر “ليصلني نبأ إحراق مستودعات الأخشاب بما فيها، مع المنزل والمزرعة، لتذهب كل ممتلكاتي، حتى التي خبأتها قبل أن نخرج”، مردفًا “أصبت بعد هذا النبأ بجلطة دماغية، مازالت آثارها حتى الآن، ناهيك عن قلقي الدائم من مسألة اختلاط بناتي مع الآخرين في ظل عدم قدرتنا على استئجار منزل، ومكوثنا في الملاجئ”.
وبالرغم من حوزة السيد مالك على أوراقه الثبوتية الشخصية، إلا أنها لم تغن أو تسمن من جوع “كلما حاولت التأقلم على العيش خارج داريا، يصدمني الواقع؛ لقد عانيت كثيرًا لأعيد تسجيل أولادي في النفوس، بعد أن أخبروني أن غالبية المسجلين فقدت أوراقهم في نفوس داريا، لذا بدأنا نرمم الخطأ، حتى بإعادة تثبيت زواجنا في المحكمة، وكله نتيجة أخطاء بين المؤسسات”.
ربا التي لم تتجاوز الـ 5 سنوات” تلخص حكاية أهالي المدينة بالقول “أنا كنت أحب داريا، لأنه كان لدينا بيت، وبابا كان يجيب لنا أكلات طيبة، أما الآن فنسكن في قبو دون كهرباء أو ماء”.
تردف ربا بلغتها البسيطة “بابا أصيب برجله في داريا وما عاد يستطيع العمل، لذلك ما عدت أحب داريا”.
ويبقى السؤال، هل الوطن هو المنزل أم ذاك الحي الذي لملم ضحكات الأهالي وأبناء الجيران، أو لربما اسم مدينة يسعد الناس بانتمائهم إليها… سيقولون كما قالها محمود درويش “هو البيت وشجرة التوت وقن الدجاج وقفير النحل ورائحة الخبز والسماء الأولى”، فهل يتسع الوطن لكل ذلك ويضيق بنا؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :