بطل الحرب والسلام
طارق جابر
لم يفز تشرشل بالانتخابات البرلمانية (1945) التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية المؤهلة لتحديد الحزب الحاكم، وبالتالي خسر رئاسة مجلس الوزراء البريطاني، فالشعب رأى أنه و رغم إنجازه الكبير المتمثل بمواجهة هتلر ومنع النازيين من احتلال بريطانيا ليس رجل المرحلة المقبلة من مستقبل الأمة.
يمكن القول إن انتصار بريطانيا لم يكن ليتحقق لولا دعم الحلفاء (أبرزهم: الولايات المتحدة الأمريكية، فرنسا، الاتحاد السوفيتي) وهذا كلام صحيح، إلا أن العامل الذاتي المتمثل بإرادة الأمة بالصمود، رغم الدمار الرهيب الذي حل بأهم حواضرها نتيجة القصف الجوي النازي المكثف، كان أحد مسبباته الأساسية كاريزما وخطابات وروح تشرشل المتحدية وقرارات حكومته الحاسمة، ومع ذلك غادر تشرشل موقعه القيادي محترمًا قرار الناخب البريطاني.
على ضفة أخرى خسر عبد الناصر حرب حزيران 1967التي اختار توقيتها (طلب من قوات الطوارىء مغادرة مناطق تمركزها التي تفصل بين مصر واسرائيل وإغلاق معبر تيران) هذه الحرب الكارثية أفضت إلى استيلاء إسرائيل على أراض بمساحة 69300 كم2 (تعادل 7 أمثال مساحة لبنان تقريبًا)، حيث احتلت الجولان (التي أعلن سقوطها وزير الدفاع السوري اَنذاك، حافظ الأسد، قبل سقوطها الفعلي، والذي بدل أن يحاسب أصبح الحاكم المطلق لسوريا بعد سنوات ثلاث تلت الهزيمة)، سيناء، القدس الشرقية، الضفة الغربية وغزة.
هذه الخسارة لا يمكن تجييرها إلى الشعب المصري (أو السوري والأردني كحليفين لمصر بدرجة أقل) أو إلى الدولة بالمعنى السياسي للكلمة، فمصر كانت خاضعة لحكم شمولي (إحدى مؤشراته نسبة الموافقين في الانتخابات الرئاسية 99.998%) متمثل بقلة من الضباط “الأحرار” وبقرار مهيمن من قائد “كريزماوي”، ومع ذلك استمر عبد الناصر بالحكم بدعوى الاستجابة لمطالب المتظاهرين (الموظفين في القطاع العام، حيث يتم تصنيع الرأي العام كأي منتج أخر في مصانع الدولة الشمولية).
إن استمرار القائد بمنصبه بعد فشله الذريع يكرس فشل الدولة (المؤسسة) التي يقودها بسبب غياب مبدأ المحاسبة والمكاشفة تباعًا عن المستويات الأدنى في الدولة (المؤسسة) ويحل محله التكاذب والذرائعية والارتكاز إلى نظرية المؤامرة.
إضافة إلى فشل الدولة (المؤسسة) أيضًا، فإن النخب الموجودة خارجها من أصحاب الكفاءات والرؤى يرون استحالة انخراطهم باَلية صنع القرار ورسم السياسات لبلدهم دون أن يصبحوا فاسدين بدورهم) وذلك لعدم حصول تداول السلطة من جهة، وأيضًا للسمة العامة المتمثلة بأن وجود نخب حقيقة وفاعلة ستكشف الغطاء عن التجاوزات الخطيرة للإدارات السابقة، وبالتالي عملية الاستبدال وتجديد الأجسام الإدارية والقيادية تتم بمجال ضيق ولأشخاص متورطين وفاسدين ممن صنعوا على أعين من سبقهم (ثنائية بوتين- يلسين مثال معبر حيث تسلم الأول السلطة بشكل مشروط وهو ألايفتح ملفات تخص عائلة الثاني حين كان على رأس السلطة)، وبالتالي تصاب النخب باللامبالاة وتغادر ساحة العمل العام، وييأس الناس من تغيير أحوالهم ويزداد التواكل والخمول والسلبية، وتنتشر أوهام النصر وبيانات التحدي الفارغة، وتعالج المشاكل المستفحلة بالأوهام والخطابات الشعبوية والتكاذب (كالإعلان عن اكتشافات لثروات باطنية وهمية وإنجازات علمية زائفة، كصباع الكفتة).
بإسقاط ماسبق على الوضع السوري يتضح لنا كم هي فجة الحالة المتمثلة ببقاء قادة على رأس فيالقهم وجيوشهم، بعد أن كانوا مسؤولين عن الهزيمة (بما يتعلق بالعامل الذاتي).
قد يقال إن خسارة المناطق المحررة ما كان ليحصل لولا تدخل قوى الاحتلال الروسي بثقل عسكري هائل، وهذا ممكن، ولكن ماذا عن الشروط الذاتية؟ هل عمل القادة على وضع خطة مشتركة لتوحيد الجهود والإمكانات المتاحة؟! هل عملوا على التماهي مع إرادة المدنيين المحاصرين بعدم الدخول بمعارك جانبية أم حصل العكس؟ تم زج الشباب الذي حمل السلاح لإسقاط الحكم الشمولي الأسدي في معارك عبثية، أدت إلى ارتقاء العشرات بمعارك العار، وإلى تشويش منظومة القيم والأهداف للثوار، فأصبح الحفاظ على التشكيل والمصالح الضيقة هو الغاية، وأصبحت العقيدة القتالية مبنية على خطاب محاربة العدو الداخلي والمتربصين…
إن بقاء المفاصل القيادية دون تغيير بعد هذه الهزائم يقتضي أن غايتهم (غير المعلنة) هي الفصيل و”رموزه”، وليس إسقاط النظام أو على الأقل الحفاظ على المناطق المحررة، ولسان حالهم يطابق التعريف “المبتكر” لمفهوم الهزيمة لوزير خارجية سوريا، إبان هزيمة حزيران1967، إبراهيم ماخوس، “لا يُهم لو سقطت دمشق أو حتى حلب، فهذه ليست سوى أراض يمكن استرجاعها وأبنية يمكن بناؤها، لكن حزب البعث، أمل الأمة العربية، إذا سقط، فلا يمكن استرجاعه”!
إن الحال المأساوية التي اَلت إليها الثورة السورية لها أسباب موضوعية، قدرتنا على معالجتها وتعديلها محدودة تتم من خلال مقاطعة مصالحنا مع مصالح الأطراف الفاعلة المنخرطة بالشأن السوري، أما أسبابها الذاتية فنحن مسؤولون عن معالجتها ونقصد معالجة الأسباب الحقيقية وليست الظاهرية فحسب، ومن ضمن هذه الأسباب عدم المحاسبة (الذاتية) الناجمة عن الشعور بالقوة والأنا الكبرى، وعن غياب الهيئات التي يمكن لها إجراء المحاسبة (من أعلى)، لهذا فالحل الوحيد حاليًا هو تسليط الضوء والحراك المدني برفع الصوت ومقاطعة القيادات التي غيرت أولوياتها من محاربة النظام الشمولي المستبد إلى بناء ممالكها التافهة على أرض الآلام والمعاناة السورية.
ربما يقول البعض إن المقارنة بين الدول والفصائل مقارنة غير واقعية، ربما هذا صحيح ولكن بما أن الحديث عن الفصائل العسكرية التي أخذت على عاتقها إدارة المناطق المحررة والتفاوض دون إشراك المجتمع المدني فإنها وضعت نفسها “شكليًا” مكان الدولة ذات السيادة، ومن ناحية أخرى فامتلاك المنظومة العسكرية هي من أهم سمات الدول، لذ اعتقد أن اجراء المقارنة ممكن . علمًا أن المبدأ صحيح بالنسبة للمؤسسات غير الحكومية فالمحاسبة والرقابة الذاتية والخضوع للقوانين هو شرط تأسيسي لنجاحها بتحقيق أهدافها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :