أمل رنتيسي | خالد الجرعتلي | حسام المحمود
من درعا ودمشق جنوبي سوريا، إلى حلب شمالًا، ودير الزور والرقة شرقًا، تدفع روسيا بـ”تسويات أمنية” تنفذها أجهزة النظام السوري، مع من تقول إنهم مطلوبون أو مسلحون أو متخلفون عن الخدمة العسكرية.
وفجرت درعا مسألة “التسويات” مجددًا في صيف 2021، حين شنّ النظام السوري حملة عسكرية على مركز المحافظة، وشدّد حصاره على المدينة على مدار شهرين بهدف اقتحامها، في أول تصعيد بدرعا منذ “تسوية” عام 2018.
انتهى التصعيد بـ”تسوية” جديدة في أيلول 2021، لينهي النظام السوري العام بـ”تسويات” شملت أرياف مدينة درعا، في الوقت الذي بدأ بالترويج لـ”تسويات” في دير الزور، تلتها الرقة، وريفا حلب ودمشق.
تحكم المناطق التي تجري فيها “التسويات” معطيات ميدانية وسلطات أمر واقع تختلف من منطقة إلى أخرى في ظل وجود لاعبين دوليين مؤثرين في الملف السوري.
وتقوم هذه “التسويات” على مبدأ “التسوية” مع بقاء عوامل الصراع، مثل بقاء النظام السياسي والهيمنة العسكرية، ومنع الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، وتقييد الحريات.
تعرض عنب بلدي في هذا الملف سلسلة عمليات “التسوية” الأخيرة في سوريا، والعوامل التي تحكم كل منطقة، إضافة إلى علاقة “التسويات” الميدانية بالتسوية السياسية، كما تناقش مع خبراء وباحثين أثرها الاجتماعي المترتب على السكان المحليين، وعلى المستقبل السياسي والميداني في سوريا.
“تسويات” تلحق “تسويات”
مصطلح “التسويات” بين النظام ومعارضيه ليس جديدًا، لكن هذه “التسويات” كانت تأتي بعد حصار وعمليات عسكرية مكثفة تنتهي بتفريغ المدن المحاصرة من جميع المسلحين والرافضين لشروط يفرضها النظام ومن ورائه حلفاؤه الروس، كما حصل في أحياء حمص القديمة في أيار 2014، وأرياف دمشق في 2016، ثم أحياء مدينة حلب الشرقية في نفس العام، وبعدها الغوطة الشرقية ودرعا عام 2018، أما اليوم فتشمل “التسويات” مطلوبين في مناطق سيطرة النظام السوري ودون عمليات عسكرية منظمة، أو في مناطق متداخلة مع سيطرة قوات أخرى كـ “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) المدعومة من واشنطن شمال شرقي سوريا.
لإخضاع الجنوب السوري
في درعا، شملت “التسويات”، عام 2021، مركز المحافظة وبلدات الريف الغربي والشمالي والشرقي، وانتهت تقريبًا بدايات تشرين الثاني، لتعاود “اللجنة الأمنية” والعسكرية تمديد “التسويات” بوتيرة أقل في كانون الثاني 2022.
وصف قياديون سابقون في المعارضة ممن بقوا في درعا عقب “التسوية”، لعنب بلدي، سلسلة “التسويات” التي شهدتها المحافظة بمجرد عمليات شكلية لإيقاف المواجهات المسلحة في الجنوب.
كما شهدت محافظة القنيطرة جنوبي سوريا أكثر من عملية “تسوية” أمنية وعمليتي تهجير لمن رفض “التسويات” باتجاه مناطق الشمال السوري، كان أحدثها في حزيران من عام 2021.
وانتهت عمليات “التسوية” في المحافظتين الواقعتين جنوبي سوريا، بفرض سيطرة عسكرية لقوات النظام على الجنوب السوري بشكل كامل، إلا أنها لم تُحدث أي تغيير على الأصعدة الأمنية والمعيشية والخدمية.
دير الزور.. على مشارف “قسد”
بدأت قوات النظام السوري، منذ مطلع تشرين الثاني 2021، بالترويج لعمليات “تسوية” أمنية في دير الزور، عبر شُعب وفرق حزب “البعث” في المحافظة الواقعة شرقي سوريا، إذ عقدت كوادر الحزب اجتماعًا تنظيميًا، في 9 من الشهر نفسه، تحدث خلاله قياديون “بعثيون” عما أسموه “مكرمة” من رئيس النظام، بشار الأسد، لـ”تسوية” عامة للأهالي، وعمليات “مصالحة وطنية”، تشمل المطلوبين والفارين من الخدمة الإلزامية.
وتنقلت “التسويات” في المحافظة بين عدة مراكز وقرى بدءًا بمركز المحافظة مرورًا بمدينتي الميادين والبوكمال شرقي دير الزور، لتستقر في قرية الشميطية التي تبعد بضعة كيلومترات عن مناطق نفوذ “قسد” المدعومة من قبل التحالف الدولي شمال شرقي سوريا.
وقوبلت هذه “التسويات” برفض من “قسد”، إذ قالت نائبة الرئاسة المشتركة للمجلس التنفيذي في “الإدارة الذاتية” (الجناح السياسي للقوات المدعومة أمريكيًا)، أمينة أوسي، إن “التسويات” “تستهدف النسيج الاجتماعي في المنطقة”، مضيفة أن “حكومة دمشق حاولت ولا تزال تحاول ضرب استقرار المناطق التي تديرها (الإدارة الذاتية)، والإعلان عن بدء التسويات هو إحدى تلك المحاولات”.
الرقة.. موقف شعبي رافض
أثار إعلان النظام السوري، مطلع عام 2022، البدء بـ”تسويات” خاصة بأبناء محافظة الرقة شمالي سوريا حفيظة السكان، فالرقة هي أولى المدن التي خرجت عن سيطرة النظام قبل نحو تسع سنوات.
ورفضت عشائر مدينة الرقة، في بيان، بدء “التسويات” في المدينة، واعتبرت ذلك تهديدًا مباشرًا لـ”الاستقرار” الذي تعيشه المدينة وريفها، بحسب ما نقلته وكالة “نورث برس“.
وشهدت المناطق التي تسيطر عليها “قسد” من محافظة الرقة عدة احتجاجات ومظاهرات اعتراضًا على “التسويات” التي بدأ بها النظام في مناطق نفوذه القليلة بريف الرقة.
وتسيطر قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية على عدة مناطق في أرياف الرقة، مثل بلدة الرصافة جنوب مدينة المنصورة (30 كيلومترًا غربي الرقة)، ومدينتي معدان والسبخة، والقرى التابعة لها في الريف الجنوبي الشرقي، بينما تسيطر “قسد” على معظم أنحاء المحافظة، عدا مناطق في شمالها تحت سيطرة “الجيش الوطني” المدعوم تركيًا.
دمشق وحلب.. دون خط زمني
امتدت “التسويات” الأمنية التي أجرتها قوات النظام السوري في مناطق ريف دمشق إلى معضمية الشام ومدينة داريا في الريف الغربي، التي سبق أن هُجرت أغلبية سكانها عقب سيطرة قوات النظام عليها عام 2018.
وصرّح عضو مجلس الشعب عبد الرحمن الخطيب، لإذاعة “شام إف إم“، في 8 من شباط الحالي، أن اللجنة الأمنية المعنية بـ”تسوية” ريف دمشق بدأت في منطقة معضمية الشام، بعد أيام من الإعلان عن انطلاقها في منطقة الكسوة بريف العاصمة دمشق.
ورغم أن النظام أعلن أن مدة هذه “التسويات” هو يوم واحد، فإنها عادة ما تمتد لأيام وأسابيع في بعض الأحيان كما هي الحال في المعضمية.
وقال الخطيب، إن “التسويات” لم يحدد لها ترتيب زمني، لكن سيتم الانتقال إلى مدينة التل وقراها، والغوطة الشرقية والزبداني ويبرود وقرى وادي بردى وجبال القلمون.
ثم انتقلت “التسويات” إلى محطتها التالية في محافظة حلب، بحسب ما أعلنته وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، في 9 من شباط الحالي، واستقرت في بلدة مسكنة بالقرب من مناطق نفوذ “قسد”.
وقالت “سانا” مع بدء عمليات “التسوية” في المنطقة، إن “قسد” و”الجيش الوطني” المدعوم من تركيا، شمالي حلب، يحاولان عرقلة هذه العمليات.
استقرار أم انقسامات جديدة؟
مواطن يغرق في “اليأس” ودولة ترسخ “الاستبداد”
تصطدم “التسويات” برفض محلي وشعبي، وذلك لاستمرار النظام بعمليات الاعتقال وحكم المنطقة التي يجري فيها “التسوية” بقبضة أمنية، إذ يحسب أغلب سكان مناطق “التسويات” على أنهم ذوو مواقف مسبقة ضد النظام السوري.
ففي محافظة درعا، اعتبر أحد وجهاء المدينة (تحفظت عنب بلدي على ذكر اسمه) أن ما جرى من “تسويات” غير معترف بها خارج مركز مدينة درعا وخارج محافظة درعا، وأن السكان لا يأمنون المرور على حواجز النظام خوفًا من الاعتقال.
مصطفى العبد الله، أحد وجهاء عشيرة “العفادلة” كبرى عشائر مدينة الرقة، قال لعنب بلدي، إن “النظام السوري يذر الرماد في العيون، عبر إعلانه بدء التسويات سواء في الرقة أو حتى في دير الزور”.
وأضاف العبد الله أن “مئات الآلاف في الرقة يخشون عودة النظام السوري إلى مدينتهم، ويعرفون جيدًا مدى إجرامه، فكيف لهؤلاء أن يأمنوا جانب النظام ويقوموا بإجراء التسويات”.
وفي دير الزور، اعتبر بعض المدنيين ممن تواصلت معهم عنب بلدي، أن “إجراء التسوية يقيهم شر النظام”، في حال تغيّر واقع السيطرة في محافظة دير الزور، سواء بمعارك عسكرية أو ضمن تفاهمات مع “قسد”.
هل تسهم “التسويات” في دعم الاستقرار؟
حول الأثر الاجتماعي لـ”التسويات” وانعكاسها على السكان المحليين وإمكانية استقرار تلك المناطق، يرى الباحث في مركز “عمران للدراسات الاستراتيجية” معن طلاع، في حديث إلى عنب بلدي، أن “التسويات” عادت بآثار واضحة في البنية المجتمعية، إذ أسهمت بتغييب مستدام لأي أدوار محلية، ترافق مع فشل حكومي وإنتاج بيئة أمنية غير مستقرة تزداد فيها معدلات الجرائم والسرقة والخطف والاعتقالات وغيرها.
وقال طلاع، إن النظام راكم اليأس المحلي عبر انعدام فكرة الانبثاق والخروج من الدولة الاستبدادية إلى دولة تضمن كرامة الناس وعيشهم الكريم عبر “التسويات”، وأيضًا تضمن مشاركتهم في آليات صنع وتنفيذ القرار.
وهذا التراكم في نهاية المطاف يسهم في تحوّل المواطن السوري من مواطن منتج إلى مواطن مستهلك، ويُراد له في هذه “التسويات” أن يتحول إلى شيء غير قادر على الفعل، وهذا بطبيعة الحال يفقد النسيج الاجتماعي في سوريا عوامل القوة، وفق طلاع.
كما أشار الباحث إلى أن “التسويات” أسهمت في ظهور انقسامات مجتمعية حادة ما بين الناس أنفسهم، إذ عادت طبقة المؤيدين لتظهر بينما الطبقة العامة هي طبقة ما زال يحكمها الخوف من الأجهزة الأمنية والعمل السياسي والانخراط في أي عمل مدني.
وبالتالي، أسهمت في عودة القواعد الدستورية التي فرضتها الأجهزة الأمنية السورية، فالدستور بالنسبة إلى الناس هو ما تقوله الأجهزة الأمنية وشبكاتها، وما زالت بوصلة الأجهزة الأمنية هي التي يعلم من خلالها المواطن حدود المسموح والممنوع، حسب طلاع.
والأثر الذي أسهمت “التسويات” فيه أيضًا هو إعادة شبكات النظام القديمة المتحكمة في المشهد، من فرق حزبية ومخاتير ووسطاء محليين ومنتفعين ورجالات يعتمد عليها النظام في بعض القضايا المجتمعية.
التحول الاجتماعي الذي أحدثته الثورة أجهضه النظام اليوم، وفق طلاع، وذلك عبر إعادة “الديناميات” القديمة المتحكمة في المشهد التي تقول إن هناك دولة بوليسية، وهناك ناس يعيشون في ظل هذه الدولة البوليسية، دون أن يكون لديهم أي طموح.
من جهته، اعتبر الباحث في الشأن السوري بوكالة أبحاث الدفاع السويدية (FOI) آرون لوند، أنه بشكل أساسي، فإن أي تقدم للنظام السوري سيخلق حالة من عدم الأمن لخصومه، وحالة من الأمان للموالين له.
أما بالنسبة إلى عامة السكان المدنيين، والذين يريدون تحقيق السلام وفرصة لإعادة بناء حياتهم، وذلك بغض النظر عن مشاعرهم تجاه النظام أو المعارضة، فيمكن أن يكون الاستقرار المفروض في بعض الأحيان جيدًا بما فيه الكفاية بالنسبة إليهم، إذا أنهى حالة العنف ومهّد الطريق لشوارع آمنة وانتعاش اقتصادي، وفق لوند.
لكن هذا الأمر يمكن أن يتحقق فقط إذا كان أثر الاستقرار الذي من الممكن أن يتشكل عبر “التسويات” مستدامًا، أما إذا كانت “صفقات التسوية” تسبب فقط إعادة إثارة مشكلات جديدة وتسمح للاضطرابات بالظهور مرة أخرى بمجرد تقدم قوات النظام، فلن يكون لها أثر استقرار واضح لأي طرف.
وفي استطلاع للرأي أجرته عنب بلدي عبر منصاتها في وسائل التواصل الاجتماعي، حول مستقبل “التسويات” التي يجريها النظام حاليًا، يعتقد 61% من المشاركين في الاستطلاع وعددهم نحو 500، أنها تأتي بـ”هدوء مؤقت”، بينما يرى 39% منهم أنها لبسط السيطرة الكاملة للنظام على مناطقه.
استسلام لا سلم أهلي
ماذا ينقص “التسويات” لتحقيق أهدافها؟
لا يمكن أن يتحقق السلم الأهلي طالما يحكمه مبدأ قائم على الاستسلام، وهو المبدأ المرتبط بـ”التسويات”، برأي الباحث السياسي معن طلاع.
وأثبتت معظم الدول التي شهدت صراعات بأن “التسويات” الصغرى خارج “تسوية” كبرى لا يمكن البناء عليها، وهذا بنهاية المطاف يعزز حسابات طرف على طرف آخر، وبالتالي بقاء أسباب الرفض والاحتجاج، ويضاف إليها بالنسبة للشأن السوري عشر سنوات من التحولات الكبرى، وفق طلاع.
وحدد طلاع انعكاس استمرار “التسويات” المحلية مستقبلًا بخمسة مؤشرات، هي:
● زيادة معدلات الهجرة والنزوح التي ستكون لها تبعات كبرى على المستقبل السوري.
● تغييب موجبات التعافي المبكر لمصلحة النظام، ما سيزيد من معدلات الجريمة.
● أسهمت “التسويات” في مساعدة النظام السوري على ضبط التباينات بين الشبكات، وهذا شكّل عاملًا مهمًا بالنسبة إليه وغيّر بقية العوامل، فهو يعيد بناء بنتيه التي تآكلت وتعرضت لتحولات وانتكاسات شديدة.
● تعزيز الفشل الوظيفي والبنيوي للدولة ومؤسساتها، وزيادة شبكات الفساد، وموت فكرة الانتقال السياسي.
● وضوح فاعلية المنخرطين في اقتصاد الحرب، إذ صاروا جزءًا مؤثرًا من هذا المشهد في ظل بيئة خصبة لكل أسباب اللا استقرار والفوضى والجريمة المنظمة.
وأكد طلاع أن كل هذه المؤشرات لن تكون بمصلحة سلم أهلي وبناء مصالحة وطنية، طالما أن الجذر الأساسي القائم على الانتقال السياسي والتسوية السياسية المبنية على توفير عوامل الاستقرار لأي مصالحة غائب، فإن ديمومة ما يُعرف بتفتيت المجتمع والدولة والجغرافيا السورية ستبقى مستمرة.
العامل الاقتصادي يحكم المشهد
الباحث في الشأن السوري بوكالة أبحاث الدفاع السويدية (FOI) آرون لوند، قال في حديثه إلى عنب بلدي، إن التأثير الطويل لاتفاقيات “التسوية” سيعتمد في جزء كبير منها على المسار العام للصراع، أي إذا صارت حكومة النظام السوري أضعف، فلن تكون قادرة على الحفاظ على سيطرتها في مناطق “التسويات” بشكل فعال.
وهذا السيناريو سيسمح لعناصر المعارضة بإعادة التنظيم والانتشار، ما يقوّض أي اتفاقيات “تسوية”.
ومن ناحية أخرى، إذا بقيت الحكومة مستقرة وتعافت اقتصاديًا، فستكون قادرة على ترسيخ سيطرتها، بينما تهدأ أعمال العنف والاحتجاجات ببطء، وفق لوند.
واعتبر الباحث أن الضعف الاقتصادي لحكومة النظام السوري عامل مهم يمنعها من إعادة ترسيخ نفسها بشكل فعال.
وشرح أنه قد ترغب السلطات في اتباع سياسة “العصا والجزرة”، فمثلًا يمكن أن تقدم للسكان المحليين حوافز إيجابية، مثل إعادة الإعمار والخدمات المحلية والرواتب وما إلى ذلك.
ومن ناحية أخرى، فالحكومة على استعداد لسحق أي معارضة، إلا أنها ليس لديها الكثير من “الجزرات” لتوزيعها في هذا السيناريو، إذ نادرًا ما يتم الوفاء بوعودها بالدعم الاقتصادي، وفق لوند.
وبدلًا من ذلك، يعتمد النظام على التهديدات والقوة، بينما ينخرط عناصره في الاقتصاد المحلي، بحثًا عن الأرباح.
ولا يعتقد الباحث آرون لوند أن حكومة النظام ترى “التسويات” بأنها “علاج سحري” سينهي كل الاضطرابات في المنطقة، إذ “من المرجح أن كبار مسؤولي النظام ينظرون إلى هذه العمليات على أنها طريقة لاستخدام نفوذهم العسكري لتقليص نطاق المشكلة وإدارة الصراع”، حسب تعبيره.
لماذا لا تنجح “التسويات”.. درعا نموذجًا
تشكّل محافظة درعا المثال الأبرز لحالة عدم الاستقرار التي تشكّلت بعد عمليات “التسوية” من فوضى أمنية واعتقالات.
ووثّق “مكتب توثيق الشهداء في درعا” مقتل 15 شخصًا من المدنيين والمقاتلين السابقين في عمليات اغتيال واستهداف مباشر بالرصاص خلال كانون الثاني الماضي، بحسب بيان صدر مطلع شباط الحالي.
وذكر المكتب في بيان منفصل، أن الوتيرة المتصاعدة لعمليات ومحاولات الاغتيال في درعا تستمر رغم مرور ثلاثة أشهر على اتفاقية “التسوية” الثانية، ومنذ سيطرة قوات النظام على المحافظة في آب 2018، بعد اتفاقية “التسوية” الأولى.
كما تعيش المحافظة حالة من التخوف من انتشار ظاهرة الخطف، مع تكرار الحالات التي تهدف إلى الحصول على فدية، وأبرزها قضية الطفل فواز قطيفان الذي لا يزال مختطفًا حتى اللحظة.
ويفسّر الباحث السياسي معن طلاع لعنب بلدي استمرار حالة عدم الأمان في درعا بأنها عامل جيوسياسي مهم في المشهد السوري، حتى في سياق اتفاقية المصالحة في 2018، إذ حافظت هذه المحافظة على تركيبتها السكانية وتنوع قواها الثورية والمدنية، ما أسهم في إبقاء درعا حالة خاصة كانت تشكّل عائقًا لفرض رؤية النظام في تلك المناطق.
واعتبر طلاع أنه حتى اليوم، وعند النظر إلى “تسوية 2021″، فإننا نجد بأننا أمام تكرار لذات سيناريو عام 2018، موضحًا أنه رغم زيادة معدلات الضبط من قبل النظام والتحكّم في هذا المشهد، طالما توجد أسباب استراتيجية غائبة عن فكرة “التسويات” المحلية، ستبقى غير مشجعة على الاستقرار، بل ستشجع شبكات الفساد وشبكات اقتصاد الحرب على النمو أكثر.
ومن العوامل التي أسهمت في خلق حالة عدم الاستقرار في المناطق التي شهدت “تسويات”، غياب فهم النظام السوري للطبيعة السكانية لمناطق “التسويات”، التي كانت درعا أبرزها.
وأرجع الباحث آرون لوند، خلال حديثه إلى عنب بلدي، أسباب عدم استقرار درعا إلى أنه ما زال فيها بقايا من الثورة ضد النظام، ورغم أنها ليست متماسكة بالضرورة، فهي تتشارك ذات الهدف.
وضرب لوند مثالًا بأن هناك بعض سكان درعا المحليين ما زالوا محافظين على هوياتهم الثورية، لكن هناك أيضًا بقايا من تنظيم “الدولة الإسلامية” في مناطق معيّنة، ومجموعات مسلحة لها هوية محلية غير واضحة أو متغيرة، والتي تكون مرتبطة بالقرى أو العشائر.
بالإضافة إلى مجموعات تعمل لمصلحة الحكومة ليست بالضرورة موالية لها بالكامل، وتستمر في المشاركة بالنزاعات المحلية.
ومن ناحية أخرى، هناك أيضًا اضطرابات عامة غير سياسية، بحسب ما قاله لوند، مثل العامل النفسي لدى شبان المنطقة الذين لا يملكون فرصة لبناء مستقبل واضح، واستمرار صراعات بين الأفراد أو العائلات، وانتشار الجريمة والتهريب والخطف…
وجزء من هذا الفلتان، هو بحسب ما وصفه لوند، “إرث مما خلّفه النزاع”، لكنه ينشأ أيضًا بشكل طبيعي في غياب الأمن والاقتصاد الفعال.
وأشار الباحث آرون لوند إلى عدم وجود هيكل أمني متماسك، والعلاقة المتوترة بين الفصائل المحلية والنظام السوري تمنع عمل أجهزة ضبط الأمن والاستقرار بشكل فعّال، إضافة إلى الوضع الاقتصادي السيئ الذي يغذي استمرار الاضطرابات والجرائم، إذ تشارك الفصائل المسلحة المتحالفة مع النظام بعمق في الجريمة والتهريب، وغالبًا ما تسهم في الاضطرابات بدلًا من العمل كقوات أمنية عادية.
ويعاني المواطنون في درعا، كغيرها من المناطق السورية، من أزمات اقتصادية حادة، إذ يعيش 90% منهم تحت خط الفقر، ويعاني 60% من عجز في الأمن الغذائي، بحسب تقديرات الأمم المتحدة.
وأردف الباحث لوند أن اتفاقيات “التسوية” التي فرضتها حكومة النظام لا يمكن أن تعالج كل هذه المشكلات.
ويرى أن من الواضح أن هناك مشكلات عميقة الجذور تكافح حكومة النظام لمعالجتها، فبعض هذه المشكلات ذات طابع سياسي، بما فيها استمرار السكان برفض النظام، في حين أن بعض المشكلات الأخرى ذات طابع هيكلي، وتتعلق بالوضع الاقتصادي والأمني.
هل يتقاطع مسارا “التسويات” داخليًا وخارجيًا
تسير “التسويات” التي يخوضها النظام السوري وفق خطين متوازيين، مسار “التسويات” الداخلية، على حساب المسار الأشمل، وهو التسوية السياسية مع المعارضة.
وبالحديث عن أهمية وقيمة “التسويات” الداخلية بالنسبة إلى النظام، والأولوية التي يعطيها لها، يرى الباحث السياسي معن طلاع، أن لـ”التسويات” أثرًا مهمًا باعتبارها ثمرة سياسة ممنهجة للنظام منذ عام 2011، حين سعى للسيطرة على مناطق على حساب غيرها، وفق القيمة الاستراتيجية لتلك المناطق، ما وضعها في خانة المفاضلة.
السياسة بيد من يسيطر على الأرض
وبعد التدخل الروسي عام 2015، برزت لدى النظام أنماط أمنية تخفف من “مشعلات الحرب” في سبيل التوصل إلى بسط السيطرة وطرح المناطق المستعادة كنموذج محلي لتسوية شاملة، بما يعكس رؤية النظام لآليات حل النزاع وفق منظوره، والقائمة على تسوية مع الأطراف العسكرية تقود للسيطرة الأمنية على الأرض.
وبعد تعثّر مباحثات “جنيف” ثم ولادة مسارات سياسية جديدة، أبرزها مسار “أستانة” الذي تدعمه روسيا وتركيا وإيران، يتضح أن للعميلة العسكرية الكلمة الفصل على أي طاولة مفاوضات، بمعنى أن من يملك الجغرافيا يملك أوراقًا أكثر للتفاوض، برأي طلاع، الذي لفت إلى عدم تأثير مسارات “التسوية” الداخلية أو تشكليها آلية ضاغطة على القرارات الأممية والدولية حتى الوقت الحالي.
ولا تزال المنظومة الدولية تتعامل مع الحل باعتباره سياسيًا، ما يعني غياب أي تأثير على المشهد السياسي، فعلى العكس، تراجع الطرح السياسي من التوصل إلى هيئة حكم انتقالي، إلى تكوين مجموعات عمل تناقش تفاصيل غير جوهرية بالمقارنة مع طرح المعارضة الأول، وهو استبدال النظام.
الباحث آرون لوند بدوره لا يؤمن بوجود صلة بين عمليات “التسوية” المحلية والمسار السياسي، سواء في “أستانة” أو “جنيف”، مع الإشارة إلى أن كل تطور في سوريا ذو تأثير على المحادثات السياسية، حتى ولو كان بشكل غير مباشر.
وكان المبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، طرح مقاربات جديدة للملف السوري، مثل “خطوة بخطوة” و”تغيير سلوك النظام” وفق المفهوم الأمريكي، أو “العدالة التصالحية”، وهو مصطلح أثاره بيدرسون في إحاطات سابقة، ويقصد به “العملية التي يشارك فيها الضحية والجاني، وعند اقتضاء أي من الأفراد أو أعضاء المجتمع المحلي الآخرين المتضررين من الجريمة، تجري مشاركة نشطة لتسوية المسائل الناشئة عن الجريمة، بمساعدة من طرف ثالث هو ميسّر تلك العملية، ويتلخص دوره في تيسير مشاركة الأطراف في العملية التصالحية، بطريقة منصفة ونزيهة”.
وتستند هذه الطروحات برأي طلّاع إلى الهوامش التي يتيحها تقاطع المصالح لدى الفاعلين الأساسيين في الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، ما يعني البحث عن محركات العملية السياسية خارج المنطق الميداني الذي كان يفرض نفسه، وبما يتماشى مع التمدد الروسي حتمًا.
وبما أن مقاربة “خطوة مقابل خطوة” تمثّل إعلانًا شبه رسمي لعدم فاعلية العملية الدستورية، فكل طروحات بيدرسون لا تعدو كونها تحريكًا للجمود ودفع للعملية السياسية تجاه خطوات تعيد لها الزخم.
ورفضت المعارضة السورية مقاربة “خطوة بخطوة”، في 9 من شباط الحالي، بينما قال رئيس “هيئة التفاوض”، أنس العبدة، لعنب بلدي، إن الرفض جاء لانحراف “العملية عن أهداف العملية السياسية، وتحديدًا موضوع الانتقال السياسي”.
وأوضح العبدة أن جزءًا مهمًا من أسباب رفض آلية “خطوة بخطوة”، هو عدم وضوح معالم الطرح الذي قدمه بيدرسون بالكامل، مضيفًا أن المبعوث الأممي أراد من المعارضة السورية “شيكًا على بياض”، دون معرفة ولو بالحد الأدنى لآثار هذه الآلية أو طريقها (إلى أين ستصل، وأين ستنتهي).
بيدرسون يخدم المسار الأمني
بالحديث عن طروحات بيدرسون فإن أبرز عيوبها، برأي طلاع، خدمتها للسياق الأمني أكثر من خدمتها لأي غاية سياسية تؤكد عليها القرارات الدولية، ما يعني غياب أي أجندة أو أرضية سياسية، إلى جانب عدم وضوح من سيقدم الخطوة وما الخطوة المقابلة، ومن الطرف الآخر الذي سيقدم تلك الخطوة، وما طبيعتها.
ولفت طلاع إلى عملية تمييع غير واضحة ترتبط بهذا الطرح، ما يجعله خارج سياقه السياسي.
وبالحديث عن “العدالة التصالحية”، فهذه العملية تمنح الضحية فرصة الحديث عن الجريمة، ويمكن للأطراف شرح كيفية تأثيرها عليهم، والبحث عن تأكيدات لعدم حدوثها مرة أخرى، والاتفاق على كيفية إصلاح الضرر الناجم عنها.
وقد تختلف العمليات التي تعرّف بأنها عمليات “تصالحية” بضرورة أو استصواب القصاص والعقاب، ومدى ضرورة مشاركة الأطراف المتأثرة وتفاعلها، ودرجة التركيز على الضحايا.
الباحث آرون لوند يدعو بدوره إلى عدم خلط طروحات بيدرسون بـ”التسويات” المحلية التي فرضها النظام السوري في درعا والرقة وأماكن أخرى، معتبرًا القضيتين منفصلتين.
وشدّد معن طلاع على أن طروحات بيدرسون توحي بعدم فهمه بنية النظام السوري الذي يتعامل مع الطروحات السياسية الدولية، والمبادرات الدبلوماسية عبر قبولها صوريًا، ثم الانخراط فيها لضمان عرقلتها قبل تجاوزها، والعمل وفق هذه الآلية يمنح النظام الوقت لإعادة ترتيب أوراقه مجددًا.
كما تستند هذه الطروحات إلى “التسويات” المحلية دون فهم أثرها على الواقع المحلي، المتجلي بالتحكم الأمني والاعتقالات والتهجير، وإخراج المناطق من معدلات التنمية كما جرى في الغوطة الشرقية وحلب الشرقية، وتعامل النظام مع تلك المناطق كـ”بؤر” غير مأمونة في المدى المنظور.
كل ذلك يؤكد أن طروحات بيدرسون ومساعيه في التوصل إلى تسوية لا تتعدى التخلص من ميوعة المشهد السياسي السوري، وهذا يكشف الالتفاف على فكرة العجز الدولي في طروحات سياسية جادة تلزم النظام بالانخراط في عملية انتقالية، ووأد فكرة الانتقال السياسي برمّتها، ما يصب بالضرورة في مصلحة النظام وحلفائه، وفق طلاع.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :