حنين اللاجئين السوريين.. استحضار البلاد من خارجها
عنب بلدي – حسام المحمود
“بيت العيلة، الحارة مطرح ما ربيت، المدرسة، العيلة بيوم العطلة، هيك شغلات بتخليني أشتهي زور البلد”.
يمكن تعريف هذا الاشتهاء على أنه حنين، مع تمييزه عن الشوق أيضًا، فالحنين شعور مقترن بما مضى، بينما يقترن الشوق بالماضي والمستقبل أيضًا.
محمد عايد شاب سوري (27 عامًا)، يقيم في تركيا، تحدث إلى عنب بلدي عن حنينه لبلده بعد اغتراب مستمر منذ ثماني سنوات، بعيدًا عن بيته وعائلته في مدينة حمص.
قال محمد، “بحن للرجعة، أو خلينا نقول للزيارة”، وأوضح أنه ما كان ليغادر سوريا لولا الحالة الأمنية التي تعيشها، مشيرًا إلى قدرته على مغادرة سوريا حتى قبل الثورة.
وأكد الشاب أن خيار العودة إلى سوريا مرهون بالحالة المعيشية، وأنه حتى لو أُتيحت الظروف للعودة فلن تكون لأكثر من الزيارة.
وخلال 11 عامًا من الثورة السورية، ألقت بظلالها على الواقع الاجتماعي أيضًا، متسببة بلجوء ملايين السوريين إلى دول جوار سوريا، ودول أوروبية، وبعد شعور الفرد بالأمان، وتأمين احتياجاته الأساسية، وربما قبل ذلك أيضًا، تنتابه موجات من مشاعر الحنين لبلده أو بيته أو لنفسه هناك.
الوقت لا يروّض الحنين
يعرّف الحنين على أنه التوق إلى الماضي، ويعني في اليونانية القديمة، الألم، أو عودة الألم، وللكلمة جذور لاتينية بمعنى العودة إلى الديار أيضًا.
ولدى محمد الخلف وجهة نظر مختلفة تجاه الحنين، دون أن ينفيه، فالشاب يقيم في لبنان منذ ثماني سنوات، وصل حينها طفلًا في الـ15 من عمره، ونشأ في ظل عائلة يكثر سفر الأب فيها للعمل وتأمين لقمة العيش في الخليج.
قال محمد لعنب بلدي، إنه لا ينكر حنينه لأسرته وأصدقائه، لكن يشعر في لبنان أيضًا بجو العائلة، بالنظر إلى طول إقامته هناك، مشددًا في الوقت نفسه على سعادته بمغادرة سوريا، خاصة حين يتواصل مع شخص موجود فيها، ويروي له شيئًا عن وضع البلد المأساوي على أكثر من صعيد.
الاختصاصية النفسية والمدربة نجلاء درويش، أوضحت في حديث إلى عنب بلدي، أن الحنين لا يرتبط بتوقيت معيّن، فهو حالة تتعدّى الأفكار والمشاعر إلى كونها صورة كاملة وذكرى.
كل إنسان يحن لأشياء معيّنة في ماضيه، أو حصلت في الماضي، وهو ما لا يمكن تصنيفه باعتباره سلبيًا أو إيجابيًا، إذ يتوقف على طريقة تعامل الشخص مع هذه النوعية من المشاعر، لكن ما لا خلاف عليه، وفق الاختصاصية، أن الحديث عن هذا الحنين والتعبير عن هذه المشاعر يقدم بعض الراحة والطاقة الإيجابية للشخص، خاصة إذا كان الحديث يجري مع شريك في اللحظة وشاهد على تلك الذكريات.
وهناك من تزورهم هذه المشاعر في لحظات السعادة والبهجة، على خلاف آخرين يصحو حنينهم في لحظات غير سعيدة بالنسبة لهم، كما تسهم المقارنة أيضًا بين الماضي والحاضر في تكوين هذا الشعور أحيانًا، لا سيما حين يكون الماضي أفضل من الوقت الحاضر، ما يحرّض الحنين تجاه الأماكن والأشياء والأوقات الأجمل في حياة الشخص، بحسب الاختصاصية نجلاء درويش، الحائزة على ماجستير في الصحة النفسية.
تأقلم لتخفيف الألم
كلما تأقلم الشخص مع حاضره كان الحنين أقل ألمًا وأخف وطأة، لكن هذا لا ينطبق على الجميع، فرغم تصالح البعض مع واقعهم، ربما تلامسهم هذه المشاعر بصورة قاسية نوعًا ما.
وباعتبار أن الإنسان لن يمحو ماضيه، فما يستطيع فعله حيال مشاعر الحنين يتوقف على آلية تعامله مع تلك المشاعر بالضرورة، كما أن الحنين لا يتعارض مع الرضا بالواقع، فسعادة الإنسان في الحاضر مثلًا لا تمنع أو تكبح حنينه لجزئية معيّنة من ماضيه، أو عاشها في الماضي وتأثر بها.
وبإسقاط هذه النوعية من المشاعر على بلد ما مستقر مثلًا، فحتى لو أُتيحت الفرصة لبعض الأشخاص للعودة إلى الماضي، أو للفترة التي يحنون إليها، قد لا يعودون، كون الحاضر أيضًا يفرض نفسه، ويربط الشخص بمصالح واقعية لن يشوّش عليها بقاء الحنين داخل النفس كمتنفس يطفو على السطح من وقت لآخر بمناسبة، وربما دون مناسبة ظاهرة على الأقل، وفق الاختصاصية.
الحنين.. بالفلسفة الشعرية
لا جدوى من وضع تعريفات وأسماء واضحة تشرح الحنين طالما أن المشاعر البشرية متداخلة من جهة، ومتأثرة بأي إضافات قد تطرأ عليها نتيجة متغير مادي أو حسي من جهة أخرى، لكن الشاعر الفلسطيني محمود درويش يشرح الشعور بالاعتماد على صفاته، فهو “وجع البحث عن فرح سابق، لكنه وجع من نوع صحي، لأنه يذكّرنا بأنا مرضى بالأمل وعاطفيون”.
كما يشير النص النثري لدرويش الذي حمل اسم الشعور نفسه، إلى ارتباط الحنين بما هو جمالي ومحبب للنفس البشرية، فيفسره على أنه استرجاع للفصل الأجمل في الحكاية، وأن منبعه الحكاية الجميلة، لا الجرح، وأنه “ما يُنتقى من متحف الذاكرة”، وأنه “تكرار للذكرى وقد صُفيت من الشوائب”، في إشارة إلى حالة خداع المشاعر التي يعتقد خلالها الشخص أن الماضي أجمل مما هو عليه بالفعل، وذلك نتيجة لظروف منغصة في الزمن الحاضر.
وجاء في كتاب “الحنين للأوطان” لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، أن “من علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها مشتاقة، وإلى مسقط رأسها تواقة”، مع الإشارة إلى حنين الملوك والأنبياء لمواطن آبائهم، فأوصى بعضهم أن يُدفن حيث ولد، أو حيث ولد أبوه، لا حيث يقيم، أو حيث قام ملكه وسلطته.
أما محمود درويش فلا يربط الحنين بالرشد، وعلى العكس تمامًا، يعرّفه على أنه مرض، لكنه مرض متقطع “لا يعدي ولا يميت حتى لو اتخذ شكل الوباء الجمعي”، وهو أيضًا “شكوى الزمن المفقود من سادية الحاضر”، فلا أحد يحن إلى وجع أو كابوس، بل إلى زمن لا ألم فيه، وهو ما يقول عنه إنه “زمن فردوسي الصورة”.
التوزان بين الأزمنة
حول ما إذا كان الحنين صحيًا أم لا، ومتى يكون مأمون الجانب من الناحية النفسية، أكدت الاختصاصية نجلاء درويش أن الأمر مرهون بتعامل الشخص مع الزمن، وآلية فهمه للأزمنة، فاستمتاع الشخص بالحاضر مع حنينه للماضي يعني أن الوضع جيد، لكن الأمر يتحول إلى مشكلة حين يكون الشخص غير مستمتع بالحاضر أو متصالح معه، فيعتمد على الماضي لتغذيته بالأشياء الجميلة، وهو أمر قابل للتشويه، فهناك أوقات ربما لم يكن الشخص سعيدًا بها جدًا وقت حدوثها، لكن تذكرها قد يفضي به إلى القول “عنجد كنا مبسوطين”.
وفي آذار الماضي، وبالتزامن مع ذكرى الثورة السورية، أطلق سوريون عبر وسائل التواصل الاجتماعي حملة باسم “كنا عايشين”، للسخرية من الواقع المعيشي في سوريا، عبر تصوير حالة البلاد قبل الثورة على أنها غاية في التقدم والازدهار.
ولفتت الاختصاصية إلى ضرورة التوازن بين الأزمنة، دون العيش في الماضي أو المستقبل، أو المبالغة في الاستغراق بالحاضر.
ومن الضروري الانتباه إلى الأشياء الإيجابية الموجودة بين يدي الشخص في الحاضر، وفق نجلاء درويش، باعتبار أن الزمن الحاضر فقط، يقيني فعلًا.
وبحسب الاختصاصية النفسية، من المهم جدًا للصحة النفسية الاستمتاع بإيجابيات الحاضر، الأمر الذي يمنح الشخص طاقة على تحمّل الأشياء السلبية، والقدرة على التخطيط للمستقبل بصورة أفضل، والتعامل مع الحنين للماضي بصورة صحية أكثر.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :