مواطنون فقدوا الأمل

 هجرة من مناطق سيطرة النظام تحت ضغط المعيشة و”الأمن”

camera iconقارب يحمل لاجئيين متجهين نحو أوروبا (رويترز)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – غصون أبو الدهب

غياب أفق انفراج سياسي قريب في سوريا، وانهيار قطاع الخدمات، وسوء الأوضاع الأمنية والاقتصادية، وارتفاع معدلات البطالة والفقر، أسباب مجتمعة، أرخت بظلالها على الحياة المعيشية للسكان في مناطق النظام، ومع فقدان الأمل في تحسن الأوضاع، تضاءلت خيارات السوريين فاتجهت نسبة كبيرة منهم للهجرة خارج البلاد.

تكشف دراسة تحت عنوان “تطبيع الرعب.. الظروف الأمنية والمعيشية في المناطق السورية الخاضعة للأسد”، صدرت في 9 من آب 2021، أن 68% من سكان المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام، و48% من سكان المناطق التي هي أصلًا تحت سيطرة النظام، يفكرون في الهجرة.

تتزامن الرغبة المتزايدة في الهجرة من مناطق النظام مع موجات لجوء جديدة للسوريين، رغم الخطر الذي أودى بالعشرات منهم غرقًا في عرض البحر أو ضياعًا في مجاهل الغابات.

وتعكس التصريحات الرسمية لدول العبور واللجوء، عدم الترحيب باستقبال المزيد من اللاجئين، وازدياد تعقيدات قبول طلباتهم، واتخاذ إجراءات لترحيلهم في بعض الدول مثل بريطانيا والدنمارك، وهو ما يثير التساؤل حول دوافع السوريين للهجرة بعد أن تضاءلت العمليات العسكرية في مناطق سيطرة النظام السوري.

 الهجرة والأزمة الاقتصادية

ترتبط الأزمة الاقتصادية في سوريا بعوامل عدة، منها البطالة وضعف الأجور، وتدهور الليرة السورية، وضعف القوة الشرائية لدى الناس بسبب ارتفاع الأسعار بطريقة غير مسبوقة، ما سبب عجزًا لدى المواطنين في تأمين أبسط احتياجاتهم اليومية، مقارنة بالسنوات السابقة.

في منتصف العام الحالي، تجاوز متوسط تكاليف المعيشة لأسرة سورية مكوّنة من خمسة أفراد، بحسب “مؤشر قاسيون لتكاليف المعيشة”، حاجز الثلاثة ملايين ليرة سورية (الحد الأدنى 1.881.858 ليرة سورية)، ليتضح حجم الهوة الهائلة التي تفصل الحد الأدنى للأجور في البلاد (لا يتجاوز 92.970 ليرة سورية) عن متوسط تكاليف المعيشة الآخذة بالارتفاع بشكل متواصل.

قالت “هنادي” (اسم مستعار) لعنب بلدي، “أعيش مع عائلتي في مدينة دمشق، ولسنوات مضت كانت أوضاعنا المادية جيدة، وبعد تدهور عمل والدي وإخوتي في قطاع المفروشات والألبسة، تسعى عائلتي للهجرة. لقد ضاق بنا المنزل بعد اضطرار إخوتي الثلاثة للانتقال إلى منزل العائلة مع زوجاتهم وأطفالهم لعجزهم عن تحمل نفقات الإيجار، وازدادت الأمور سوءًا، إلى أن بلغ العجز احتياجاتنا الأساسية مثل الطعام والفواتير والطبابة”.

تعكس الظروف الصعبة التي يعيشها السوريون عجز الخطط الحكومية عن إخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية الخانقة، خصوصًا مع رفع الدعم الحكومي عن المواد الغذائية والوقود، حيث يمثّل هذا الدعم أكثر من نصف إجمالي بند النفقات في موازنة عام 2021 و2022.

تظهر بيانات برنامج الغذاء العالمي، الصادرة في آذار الماضي، أن 52% من الأسر السورية التي شملها استطلاع المنظمة، أبلغت عن استهلاك غذائي ضعيف أو محدود في شباط الماضي، أي ضعف النسبة أوائل عام 2019،  وهو ما أكدته أيضًا المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين عام 2021، إذ أشارت إلى أن ما نسبته ثلاثة أرباع الأسر في سوريا، لا تستطيع تلبية احتياجاتها الأساسية، بزيادة قدرها 10% على العام السابق.

ومن المؤشرات المهمة على الأزمة الاقتصادية، تراجع متوسط دخل الفرد بالمقارنة مع الأعوام السابقة، وبحسب تقديرات المكتب المركزي للإحصاء التابع للنظام، فإن متوسط الدخل للمواطن السوري كان يعادل 200 دولار عام 2010، وبلغ 70 دولارًا عام 2017، ووصل عام 2021 إلى 30 دولارًا، وانخفضت القيمة الشرائية للأسرة السورية حتى عام 2018 بمعدل 82%.

لا تقتصر الهجرة من مناطق سيطرة النظام السوري، وفق المحامي غزوان قرنفل، على السوريين من محدودي الدخل، الذين يريدون مغادرة البلاد بسبب سوء الأوضاع الاقتصادية وشح الخدمات بحدودها الدنيا، وندرة فرص العمل، والعجز عن الاستجابة للمتطلبات الدنيا للعيش الآدمي، بل كان لرجال الأعمال والصناعيين وأرباب العمل نصيب كبير منها، لإصابة أعمالهم بالعطالة والكساد، لأسباب مختلفة، منها العقوبات الدولية التي تعوق حركة الإنتاج والاستيراد والتصدير، وانهيار قيمة العملة الوطنية، فضلًا عن سوء الأوضاع الاقتصادية عمومًا، ومنها ما هو متعلق بالقوانين والقرارات والتعليمات المتعلقة بحيازة وتداول النقد الأجنبي، والعقوبات “المغلّظة” على ذلك، منها على سبيل المثال المرسوم التشريعي رقم “3” لعام 2020، الذي رفع حد العقوبة المقررة لجرم التعامل بغير العملة الوطنية كوسيلة للدفع، من ثلاث سنوات إلى الأشغال الشاقة المؤقتة لسبع سنوات، فضلًا عن مصادرة المدفوعات أو المبالغ المتعامل بها لمصلحة المصرف المركزي.

ومن الأمثلة على الإجراءات الحكومية، حسب قرنفل، قرار البنك المركزي السوري الصادر في 19 من أيلول الحالي، بتسعير الدولار الأمريكي بمبلغ 3015 ليرة، بينما سعره الحقيقي في السوق يتجاوز 4500 ليرة، وسعر دولار الحوالات بـ3000 ليرة، أي أنه يجبر متلقي الحوالات على خسارة ثلث قيمة مبلغ الحوالة المرسلة إليهم، بسبب فارق السعر الرسمي عن السعر الحقيقي المتداول بالأسواق، وهذه كلها عوامل تدفع بأصحاب الأعمال والأنشطة الاقتصادية لتصفية أعمالهم، التي يتهددها في أي لحظة قرار بالحجز عليها أو مصادرتها، تحت تبريرات مختلفة، ومغادرة البلاد لوجهات استثمارية آمنة.

تردي الخدمات وغياب الأمن

حاول “أحمد” (تحفظ على ذكر اسمه الحقيقي لأسباب أمنية)، وهو من سكان مدينة حمص، التأقلم مع سوء الأوضاع المعيشية والخدمات التي تقدمها الدولة، وقال لعنب بلدي، “تعبت أنا وعائلتي من شح الكهرباء والماء، حيث تختلف ساعات التقنين في حمص من حي لآخر، ولكن بالمجمل الوضع لا يطاق، فالجميع يعيش معاناة يومية، ويبحث عن البدائل التي تكلفنا مبالغ كبيرة، ما بين طاقة شمسية ومولدات وشراء اللدّات”.

“هذا غير صعوبة تأمين الخبز والمازوت والبنزين والغاز”، أضاف “أحمد”، و”صعوبة التنقل من مكان لآخر، بسبب قلة المواصلات، وارتفاع أجورها بشكل دائم حتى صارت أضعافًا”.

تابع “أحمد”، “لقد فقدنا الأمل أن نعيش حياة كريمة في هذا البلد، لذلك أبحث عن أي فرصة للهجرة لكي أؤمن مستقبلي ومستقبل أطفالي الذين أصبحت أخاف عليهم من عدوى أو مرض في ظل هجرة أكثر من نصف الأطباء من المدينة إلى خارج البلد”، وهذا له انعكاسات على سوء الخدمات الطبية المتردية بالأصل.

جاء في دراسة “منتدى أصوات لأجل المهجرين السوريين” المنشورة في تشرين الثاني 2021، أن 69% من السكان المقيمين في مناطق النظام لم يحصلوا على الكهرباء أو التدفئة بشكل مناسب ومنتظم، طوال عام 2021، بينما قال 54% إنهم لم يحصلوا بشكل منتظم وكافٍ على مياه الشرب الصحية، و29% قالوا إنهم لا يملكون وصولًا منتظمًا إلى الخدمات الصحية، وذكر 13% أنهم لا يملكون وصولًا منتظمًا إلى التعليم.

يخاف “أحمد” على أولاده الثلاثة، ويطغى عليه الشعور بعدم الأمان، لذلك يحرص على مرافقة أطفاله إلى المدرسة كل يوم، مشيرًا إلى “تكرار حوادث الخطف وطلب الفدية، وانتشار عصابات المتاجرة بالبشر وبيع الأعضاء، وازدياد حوادث السرقة والتشليح والقتل”، عازيًا ذلك إلى حالة الفلتان الأمني، و”كثرة الحشاشين والمتعاطين للحبوب المخدرة، وعجز الجهات المختصة عن اتخاذ الإجراءات القانونية المناسبة”، لأن أغلب هذه العصابات، وفق “أحمد”، “تابعة للنظام وميليشياته”.

عطفًا على ما سبق، يساور “أحمد” القلق من احتمال استدعائه لخدمة الاحتياط للمرة الثانية، فهو عانى “الأمرَّين” في الخدمة العسكرية، بحسب تعبيره، حتى إنه فكر مرارًا بالفرار، واستوقفه خوفه على عائلته من تبعات ذلك، وأشار إلى أن أخاه الأصغر مطلوب للخدمة العسكرية، وهو يعيش حبيس الحي الذي يقطنه، خوفًا من ضبطه على حواجز النظام أو اعتقاله من قبل الدوريات.

حول ذلك قال المحامي قرنفل، إن أحد أهم الأسباب التي تدفع بالشباب والطلبة إلى الهجرة، هو قانون خدمة العلم (رقم 30 لعام 2007)، الذي يلزم الشبان السوريين بقضاء سنوات من أعمارهم في تلك الخدمة، جزء منها خدمة إلزامية وآخر احتياطية، حيث أمضى أقرانهم سنوات طوالًا على خطوط القتال ضد الشعب السوري، منهم من قضى، ومنهم من أصيب بعاهة دائمة، ومنهم من أمضى عقدًا كاملًا يؤدي تلك الخدمة.

الظروف الصعبة التي يعيشها المواطن السوري في مناطق النظام، أجبرته على اتخاذ قرار الهجرة، الذي هو أقرب لمفهوم التهجير القسري منه للهجرة الكيفية، خصوصًا أن إمكانية اختيار الوجهة والطريقة (بشكل نظامي أو تهريب) تخضع لعوامل عديدة، منها التأشيرة والتكلفة المادية، وطرق التهريب.

أظهرت دراسة لمركز “حرمون” بعنوان “الهجرة من مناطق سيطرة النظام السوري بعد عام 2019.. الدوافعالوجهاتالآثار“، أن مصر والإمارات والعراق هي الوجهات الأكثر هجرة إليها، في المرحلة الأخيرة، إضافة إلى الشمال السوري، ومناطق سيطرة “قوات سورية الديمقراطية” (قسد)، واختلفت صفة المهاجرين إلى كل منطقة، حيث كان توجه الصناعيين والتجار وبعض من يرغب في متابعة التعليم إلى مصر، وكان توجه الخريجين الجدد إلى العراق، وتوجه من يملك مالًا أو حرفة مميزة إلى الإمارات، ومن ليس لديه إمكانات مادية كبيرة، من كل الفئات، توجه إلى الشمال السوري، لكن أغلبهم كان يرغب في المتابعة إلى أوروبا.

على الرغم من سعي النظام إلى تغيير جزء من استراتيجيته، المتمثلة بإصدار بشار الأسد المرسوم التشريعي رقم “7” لعام 2022 في نيسان الماضي، القاضي بمنح عفو عام عن “الجرائم الإرهابية” المرتكبة من السوريين قبل تاريخ 30 من الشهر نفسه، في محاولة منه لبث الاطمئنان حول عودة اللاجئين، والحديث عن إعادة الإعمار ضمن سياساته، فإن عجز الحكومة عن تحسين مستوى الخدمات، وابتكار الحلول الاقتصادية التي تحسن الحياة المعيشية في المنظور القريب، أدى إلى زيادة مستمرة في عدد الراغبين بالهجرة بحثًا عن مستقبل وحياة أفضل.



English version of the article

مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة