حتى نتجاوز الاغتراب الاجتماعي في غربتنا
صفوان قسّام
يعتبر الاستقرار الاجتماعي أساسيًا في بناء الهوية الفردية والمجتمعية وتعزيز الانتماء والشعور بالمجموعة، وعند غيابه يتزعزع توازن هذه الهوية وانتماؤها، وهو نقيض الاغتراب الاجتماعي الذي يصيب الفرد بتشوه في هويته وانتمائه، خصوصًا إذا قام على المتناقضات والمفارقات في سرديات الحكومات والمجتمع، كأن تكون في وطن يُعتبر من أغنى الدول العربية، وفي ذات الوقت تجد نفسك لاهثًا وراء لقمة العيش، وفي جوارك فئة محدثة النعمة، مترفة ومتحكمة بمقدرات الشعوب مع صلاحيات فوق الاستثنائية، وتقود الجبهة مع عدو بسط هيمنته العسكرية عليها دون رد، والحجة التي يستخدمها رموز هذه الفئة في التستر على تواطئهم وفسادهم والسكوت على الصفعات: “التحضير للمعركة”.
لم يعش السوري حالة سويّة من الاستقرار الاجتماعي منذ قرون، وخصوصًا مطلع القرن الماضي عندما فرض حزب “الاتحاد والترقي” سياسة التتريك على الأقطار العربية الواقعة تحت حكمه، ثم انسحاب السلطنة العثمانية وتشكيل المملكة السورية، وتقسيم الهلال الخصيب، ودخول الاستعمار الفرنسي والانتقال إلى الجمهورية، ثم الاستقلال واضطرابات الانقلابات ومماحكات العسكر والسياسيين، وصولًا إلى تسلّم “البعث” وتقاتل سياسييه وعسكره الذي أفضى إلى وصول الأسد الأب إلى الحكم، وتسليم ابنه من بعده، وصولًا إلى اليوم. طوال هذه الحقبة كان هذا الاستقرار قائمًا على توازن حذر، تحت قشرته المستقرة “أحيانًا” غليان الهويات المتصارعة والمتناقضة داخليًا وتدخلات الخارج عبر أذرعه الداخلية، وعلى السطح لهاث المواطنين وراء تأمين متطلبات الحياة، مع جبرهم على التصفيق لكل زعيم صاعد، فتحول السوري، خصوصًا في الأعوام الـ50 الماضية، إلى كائن مدجن سياسيًا يتصرف دون تفكير، ويعمل مرغمًا ملهيًا نفسه عن المتناقضات، فيكون شعوره بالانتماء والهوية شعورًا وهميًا قائمًا على اعتبار أن من يؤمّن له لقمة عيشه هو أنبل شخص على الأرض وله ولاؤه، رغم أن العمل الذي لا يؤمّن لك سوى الطعام والمسكن كان سابقًا يسمى “العبودية”!
وفقًا لهذا الوضع عاش السوريون حالة غير معلَنة من الاغتراب الاجتماعي، خصوصًا عند الفئة المثقفة منهم والواعية والشاعرة بهذه القلاقل والصراعات والتناقضات. لقد اغترب السوريون عن بلدهم نفسيًا واجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا، فهو بلد ملك لفئة مقربة من البلاط، والرأي فيها محل شبهة، والحرية مشروطة وهناك من يفكر عن الجميع، والموارد قبل الكفاف بقليل حتى لا يغتني أحد، ومن يغتني، سيجد من يشاركه أمواله غصبًا عنه، وعليه تقديم “المعلوم” ليبرروا له غناه، والسياسة فيه تستوجب المساءلة والقصاص، وغيرها من المفارقات التي تدل على أن الاغتراب الاجتماعي صار جزءًا من التكوين النفسي والاجتماعي للسوريين، ما دفعهم لتطوير آليات نفسية للتكيف مع مختلف الظروف، وهو ما شاهدناه بأم أعيننا في التغريبة السورية، مع ما يقارب 6.6 مليون لاجئ سوري في شتى بقاع الأرض، وسبعة ملايين نازح داخليًا، يعانون الأمرَّين مع من بقي ضمن الحدود السياسية السورية، أينما كان وجودهم أو أيًا كانت سلطة الأمر الواقع فوق رؤوسهم، ومهما تقوّلوا عن حريتهم وعن انتمائهم، عليهم أن يسألوا أنفسهم سؤالًا واحدًا فقط: هل هناك من لا أستطيع انتقاده؟ إن كان هناك فأنت مرتهن له ومسيطر عليك.
توجد علاقة بين الاستقرار الاجتماعي وتشكّل الهوية الفردية والاجتماعية والانتماء، وأدى عدم الاستقرار إلى ظهور مرونة نفسية لدى السوريين، ما ساعدهم على التكيف مع الظروف المتغيرة وغير المستقرة، لكن كان لهذه المرونة بدورها انعكاس على حالة الهوية الفردية والاجتماعية، فنجد تناقضًا في الهويات السورية، كأن يكون الانتماء الفردي لعشيرة ما أو منطقة ما، وفي ذات الوقت نجد أن هذا المنتمي ينادي باليسارية السياسية! وربما كان الانتماء الشخصي الطائفي مثلًا يتستر تحت شعارات وطنية.
وعلى العموم فإن نسبة التناقضات في الهويات السورية الأشيع بلغت قرابة 50%، ويضاف إليها اليوم تبعثر السوريين في أصقاع الأرض، ووجودهم ضمن ثقافات تختلف جذريًا عمومًا عن ثقافتهم في بعض الأحيان وتقاربها في أحيان أخرى، ما يزيد على اغترابهم الوطني اغترابًا مضاعفًا في تغريبتهم، حتى صار من الشائع انتشار متلازمة نفسية اسمها “اللايقين” بسبب ضبابية المستقبل وغياب الاستقرار.
ربما كان لتلك السيناريوهات المحتملة التي سيعيشها أبناء الهويات المتناقضة دور في مزيد من التشظي وربما في هدي لدرب التوازن والاستقرار، فذلك الشاب الذي رُبّي في بيئة محافظة، ولاؤها الأول للمنطقة أو الطائفة أو العشيرة أو العائلة، سيجد نفسه في بيئة غريبة اللغة بعيدًا عن مجتمعه وثقافته، في ثقافة ربما تكون غير محافظة ولا تشبهه في اللباس والعادات والطعام والعلاقات الاجتماعية، فيجد نفسه يعيش التناقض في كل شيء، فهو مجبر على تعلم لغة جديدة والتعامل وفق العادات والثقافة الجديدة التي تختلف عن ثقافته المحافظة، وحتى على صعيد علاقاته الاجتماعية مع عائلته وأسرته، سيلتزم بقوانين تختلف عما عرفه، وهنا يجب أن يجد حلًا لهذه المفارقات، فإما مزيد من الاغتراب الذي يأخذ شكل المرونة أو “التلون”، وإما التماهي وتطوير نفسه ومفاهيمه حتى يتمكن من التعايش والاندماج.
عمومًا، إن النظر إلى موضوع الاغتراب الاجتماعي في بلاد اللجوء يبقى ذا أفق أقرب للحل منه في وطننا، الذي بتنا نميز فيه مناطق واضحة تتوزع حسب قوى الأمر الواقع، مع تردٍّ على كل الصعد، فصار الاغتراب ثقافة حرفيًا، أما في بلدان اللجوء فإن فرص الاندماج تبقى أكبر، ولتجاوز هذا الاغتراب علينا تعلم لغة البلد المضيف، والبحث عن عمل يعبر عن اهتمامنا حتى لو كان جزئيًا، والاستفادة من أوقات الفراغ للقيام بالأنشطة التطوعية والاجتماعية الخيرية منها والترفيهية، كونها كفيلة بتكوين شبكة علاقات اجتماعية يمكن لها أن تعزز حالة الانتماء والاندماج، وإن كانت الثقافة الفردية عائقًا أمام الاندماج مع الثقافة الجديدة، فعلى الإنسان البحث عن مفاهيم متوسطة وأفكار وسطية يمكن لها مساعدته في الحفاظ على ثقافته ولا تمنعه من الاندماج وتكوين علاقات سليمة مع المجتمع الجديد، ومن المهم التعرف إلى تاريخ البلد والمنطقة التي تقطنها، وأيضًا الأغاني والموسيقا والمشاهير من الوطنين والأطعمة والأماكن المهمة وخصوصًا الثقافية منها، وعليك التحدث بها مع المحيطين من أبناء البلد المضيف حتى تستشعر حالة الاحتضان التي سيمنحونك إياها عندما تحدثهم بثقافتهم وتحترمها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :