“مكرمة الرئيس”.. النظام “يتصدّق” على المواطن بحقوقه

camera iconرئيس النظام السوري بشار الأسد (رئاسة الجمهورية)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – حسام المحمود

عند البحث في وسائل الإعلام السورية، وتحديدًا المقربة من النظام، وما يشكّل إعلامًا رديفًا، كالشبكات المحلية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تقدّم كثير من القرارات والتعميمات على شكل “مكرمة من السيد الرئيس”، في إشارة إلى رئيس النظام السوري، بشار الأسد.

هذه الشبكات ذات الوصول الواسع محليًا، تقدم أخبارها بصيغة شبه موحدة، مُسبغة صفة “المكرمة” على قرارات ترتبط بمعيشة المواطن، كمنح مالية تُعطى لمرة واحدة، وتُصرف من خزينة الدولة، أو زيادة على رواتب لا تزال بمعظمها تحت سقف 35 دولارًا أمريكيًا، مقارنة بالتراجع الحاد لقيمة العملة المحلية.

قديمة جديدة

هذه الحالة لا تعتبر جديدة في تقديم القرارات الرسمية، علا أو تدنى شأنها، ووفقًا لرصد عنب بلدي، فإن بلدية جرجيسة، التابعة لمحافظة حماة، أصدرت، في تموز 2018، إعلانًا جاء فيه: “بمكرمة من السيد الرئيس بشار حافظ الأسد، سيتم توزيع ناموسيات على أهالي قرية جرجيسة”.

كما اشترطت “المكرمة” حينها، الحضور إلى مقر البلدية مع اصطحاب دفاتر العائلة لأصحاب العلاقة بصفة شخصية.

ورغم قدمها، فالحالة مستمرة، إذ تناقلت شبكات محلية، منها صفحة “محافظة درعا”، و”فرع حماة- شعبة محردة” لحزب “البعث”، خبرًا حول فتح باب “التسوية الشاملة” في مدينة درعا، بين 3 و8 من حزيران الحالي، وجاء أيضًا تحت شعار “بمكرمة من السيد الرئيس”.

وبالنسبة للإعلام المقرّب من النظام، تسجّل هذه الشعارات حضورها أيضًا بوتيرة متفاوتة الوضوح، إذ نقلت صحيفة “الوطن”، في شباط 2019، عن وزير التعليم العالي في حكومة النظام حينها، توضيحات حول مرسوم صدر آنذاك للمستنفدين الجامعيين “بمكرمة من السيد الرئيس”.

الرئيس السابق لـ”رابطة الصحفيين السوريين”، سمير مطر، أوضح لعنب بلدي أن اتباع هذا الأسلوب في تقديم القرارات سياسة قديمة جديدة، ومعروفة عادة في البلدان ذات الأنظمة الملكية.

وبيّن مطر أن الإعلام السوري الرسمي يريد أن يظهر للناس في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعانيها المقيمون في مناطق سيطرة النظام، أن “الرئيس” لم ينسَ الشعب، حتى لا يتوجه الغضب نحو الأسد نفسه، وهو غضب موجود نظريًا، وغير قادر على التعبير عن نفسه.

ويتبع الإعلام هذه الطريقة حتى لا تكون لدى الناس ضمن مناطق سيطرة النظام شكوك بمصداقية نظام الحكم، مع أن القرارات التي تصدر تُصرف من جيوب الناس وحقوقهم.

“النظام يستخدم هذا الأسلوب كتضليل إعلامي، ينقل حقيقة مجتزَأة ومقتطَعة من الحقيقة العامة، وينشرها على الناس”، قال مطر، لافتًا إلى تأثير مثل هذه الروايات على الشارع السوري باعتبارها لا تتنافى بمضمونها مع رواية النظام عن الثورة السورية ككل، لتقديم رسائل تصب في نهاية المطاف بخدمة بقائه في السلطة.

“من يريد الحقيقة عليه أن ينظر إلى ما تنشره وسائل الإعلام الأخرى، وهذا أمر متاح، ولا أقصد هنا وسائل التواصل الاجتماعي”

سمير مطر

الرئيس السابق لـ”رابطة الصحفيين السوريين”

غرس ثقافي؟

يُعتبر الباحث الأمريكي جورج جيربنر أول من وضع نظرية “الغرس الثقافي” في أواخر ستينيات القرن الماضي، وهي إحدى نظريات الاتصال الإعلامي التي لا تزال معتمدة.

وتنص النظرية في أبسط أشكالها على أن التعرض للتلفزيون (مصدر الصورة الوحيد ما قبل وسائل التواصل الاجتماعي) يزرع بمهارة مع مرور الوقت مفاهيم المشاهدين عن الواقع.

ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي، ذهب جزء من هذا التأثير لمصلحة هذه الوسائل، ما يعني أن التأثير على المتلقي هو تأثير على الثقافة العامة بالضرورة.

وسخّر النظام أدواته الإعلامية عبر التلفزة والصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي، لتقديمه بصورة مدنية يرضى عنها المجتمع الدولي، معتمدًا إعادة تدوير الرواية الرسمية ذاتها التي تضعه فريسة للمؤامرة من جهة، وتتعامل مع العادي كإنجاز وانتصار من جهة أخرى.

“أقل من عبودية”

الباحث الاجتماعي الدكتور طلال مصطفى، أوضح لعنب بلدي أن تعامل النظام السوري مع المسألة وفق هذه الرؤية ليس جديدًا، فهو يتجه منذ وقت طويل لربط أي خلل أو تقصير في مناطق سيطرته، سواء نقص الخدمات، أو تفشي ظواهر اجتماعية سلبية، ببعض الموظفين في مؤسسات الدولة، ويشمل مسمى الموظفين كل الهرم الوظيفي من رئيس الحكومة حتى رئيس البلدية.

الباحث اعتبر أن المسألة تعود لوصول حافظ الأسد إلى السلطة في سوريا، وتحويله الجمهورية العربية السورية أو الدولة السورية إلى “سوريا الأسد”، اجتماعيًا وإعلاميًا ودعائيًا.

كما أن زيادة الضخ الإعلامي في كل المناسبات، من زيادة رواتب واحتفالات وغيرها، وتصوير كل شيء على شكل “مكرمة”، بدا نوعًا من التضليل الذي يمكن أن ينطلي على بعض المواطنين، ومنهم فئة ذات مستوى علمي متقدم، وكأن سوريا أصبحت بالفعل “سوريا الأسد”، وفق المصطفى.

“في بداية الحراك الشعبي في سوريا، كان البعض يقول، إنكم تقبضون رواتب من الدولة وتعارضون الرئيس، وكأننا كنا نتقاضى رواتبنا من بشار الأسد. الاحتجاج والاعتصام حق حتى لعمال القطاع الخاص في الدول المتحضرة”.

طلال مصطفى

باحث اجتماعي

واعتبر الباحث أن صبغة الدولة ومؤسساتها بشخص رئيس النظام، وخلق حالة امتنان بلا أساس مقابل خدمات أساسية، يضعان الإنسان تحت رحمة نظام عبودي، وبالنسبة للمواطن السوري الذي لم يعد يحظى حتى بألف باء الحياة والخدمات، والطعام والشراب، فهذه المعطيات تجعل ما يعيشه أقل من العبودية، وفق الباحث.

ومن المنطقي أن تتغير السلطة ووجوهها، كالحكومة والرئيس، كل مدة، أما الدولة ومؤسساتها فهي باقية، لكن النظام السوري اشتغل على تحويل سوريا إلى “مزرعة”، وألغى كل ما سبقه، فلا صورة أو ذكر لأي رئيس سبق حافظ الأسد في الحكم، وصولًا إلى تسميته بـ”المؤسس”، وكل ما يقدّم في سوريا “مكرمة” من هذا النظام، سواء افتتاح مدرسة أو تدشين طريق أو غير ذلك.

 

“الدولة الإلهية”

الباحث في مركز “الحوار السوري” الدكتور أحمد القربي، أوضح لعنب بلدي أن إحدى أهم الفلسفات التي أتت بها الثورة الفرنسية، هي تحويل مفهوم الدولة إلى عقد، وهي نظرية العقد الاجتماعي التي أصّل لها جان جاك روسو، وغيره من الفلاسفة الغربيين، على اعتبار أن الدولة نتيجة للتعاقد بين الأفراد، والحاكم مجرد ملتزم ومطبق لهذا العقد.

ومن النظريات التي أصّلت أيضًا لمفهوم الدولة، نظرية “القانون الطبيعي”، ومفادها أن الحقوق والحريات مرتبطة بالبشر، وليست منحة من ملك أو رئيس أو نظام، وهو أمر مُؤصّل في الشريعة الإسلامية، على اعتبار أن البيعة توازي العقد، والحقوق والحريات هبة من الله، لا من الحاكم.

وهناك مدرسة الاستبداد والنظرية التي تتعامل مع الدولة على أنها “الدولة الإلهية”، أو النظرية الإلهية لنشأة الدولة، ويعتبر الحاكم فيها إلهًا يعطي ويمنع، وكل ما في الدولة ملك لهذا الحاكم، وتعود هذه النظرية إلى العصور الوسطى، لكن مع ظهور الدولة الحديثة وانتشار مفاهيم الحقوق والحريات، اندثرت النظرية الإلهية لنشأة الدولة إلا لدى نظام بشار الأسد، وفق الباحث.

“فكرة المكرمة مرتبطة بالنظرية الإلهية لنشأة الدولة، وهذا النظام يتعامل مع الأسد كإله، والدولة ملك له، والمواطنون رعاياه، وكل ما يصدر عنه مكرمة، ولا حقوق للرعايا”.

د. أحمد القربي

باحث في مركز “الحوار السوري”

الباحث لفت أيضًا إلى حالة التقديس للأسد كمظهر من مظاهر هذه النظرية، بالإضافة إلى تعاطي الإعلام السوري الرسمي والمقرب منه مع الحقوق والحريات، وتحويل البشر إلى أملاك للعائلة الحاكمة، وكل ما يصدر من مراسيم يأتي من باب التفضّل لا الحق.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة