محاصيل استراتيجية تتراجع في سوريا.. تنهك الاقتصاد وتهدد الأمن الغذائي

camera iconجنى محصول البطاطا في بلدة زردنا شمالي إدلب- 25 كانون الأول 2022 (عنب بلدي إياد عبد الجواد)

tag icon ع ع ع

عنب بلدي – حسن إبراهيم

قلّص تردي وسوء الأوضاع الاقتصادية في مناطق سيطرة النظام خيارات المزارعين، ليفرض عليهم نقص الأسمدة والمحروقات والمياه والمعدات الزراعية التوجه نحو زراعات لا تتطلب هذه المقومات بكثرة، كالقطن والشمندر السكري والبطاطا والعنب.

ظروف اقتصادية وقفت في وجه المزارعين، رافقها إهمال حكومة النظام واستغلال قوات رديفة له ظروف التهجير التي طالت أكثر من 400 بلدة وقرية من ريف حماة الشمالي حتى مدينة سراقب شرقي إدلب، لتضع يدها على معظم الأراضي منذ 2019.

محاصيل استراتيجية كانت مصدر دخل للسكان ودعامة للاقتصاد المحلي، تراجعت في سوريا، وتركت آثارها على المزارعين والاقتصاد المحلي خصوصًا في مناطق سيطرة النظام، وعلى نمط حياة الأهالي.

وعلى مستوى الشمال السوري، تراجعت بعض الزراعات بشكل طفيف، نظرًا إلى أن المساحة الجغرافية ليست واسعة، ودخلت زراعات غير معتادة تدر الأرباح على المزارعين، كالزعفران والعصفر والورد الجوري.

القطن يتراجع

يتلاشى الدعم المخصص للفلاحين من عام إلى آخر، ويقتصر دور حكومة النظام على دعم محدود للمحاصيل التي تحتكر تسويقها مثل القمح، فيما تهمل تقديم أي دعم وتسهيلات لمزارعي المحاصيل الأخرى، التي بدأت تشهد انحسارًا وتراجعًا في الأراضي السورية.

وشهدت زراعة القطن في سوريا انخفاضًا كبيرًا خلال المواسم السابقة، نتيجة للظروف الأمنية السائدة وعدم استقرار المزارعين وصعوبة تصريف المحصول، وارتفاع أسعار البذار والمبيدات الحشرية، وقلة المياه اللازمة للري.

وبلغت المساحة المزروعة بمحصول القطن للموسم الحالي في سوريا نحو 16 ألف هكتار، منها 11 هكتارًا خارج المناطق التي تخضع لنفوذ النظام السوري، وفق تصريحات مدير مكتب القطن في وزارة الزراعة، أحمد العلي، لوكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا).

وتوزعت المساحة المزروعة بين أربعة آلاف هكتار في محافظة دير الزور، و239 هكتارًا في ريف دمشق، و200 هكتار في حلب، و129 هكتارًا في الغاب، و100 هكتار في الرقة، بينما تتوزع المناطق المزروعة خارج نفوذ النظام بين محافظتي الرقة والحسكة، بحسب العلي.

بالمقابل، بلغت الكميات المزروعة بالقطن العام الماضي 23.6 ألف هكتار في كل مساحة سوريا، تنتج نحو 72 ألف طن من القطن في حال تم تسليمها كاملة، وفي حال لم تُسلّم يوجد نحو 20 ألفًا إلى 22 ألف طن داخل مناطق نفوذ حكومة النظام، بحسب تصريحات مدير عام المؤسسة العامة للأقطان، عادل الخطيب.

وحددت حكومة النظام سعر شراء كيلو القطن من المزارعين بأربعة آلاف ليرة سورية، وهو سعر لا يتناسب مع المحصول الذي يحتاج إلى سقاية بشكل كبير وأسمدة وخدمات أخرى.

شجيرة القطن – الرقة – 23 أيلول 2021 (عنب بلدي/حسام العمر)

تحذير من العزوف عن البطاطا

في آذار الماضي، حذر رئيس مكتب التسويق في الاتحاد العام للفلاحين، أحمد الهلال، من عزوف الفلاحين في العام المقبل عن زراعة البطاطا، نتيجة انخفاض أسعارها وارتفاع تكلفة إنتاجها، لافتًا إلى أن الموضوع يؤرق الفلاحين، كون اللجنة الاقتصادية في حكومة النظام منعت تصدير المادة إلى الخارج، الأمر الذي انعكس سلبًا على الفلاحين.

وذكر الهلال أن الهدف من عدم التصدير، توفيرها في الأسواق وتخفيض أسعارها، معتبرًا أن وجهة نظر الحكومة “صحيحة” إلا أن المتضرر الوحيد هو الفلاح، وخاصة أن تكلفة إنتاج الكيلو الواحد من 1300 إلى 1400 ليرة سورية.

ويبيع الفلاح الكيلو من الحقل بمبلغ يتراوح بين 600 و800 ليرة، وذلك يعرّضه للخسارة وينعكس على زراعة المحصول في العام المقبل، ولفت الهلال إلى أن الأمر يتطلب دعم الفلاح للحفاظ على توفر المادة وإيجاد نوع من التوازن بالأسعار.

الشمندر للأعلاف

في 28 من آذار الماضي، أقرت اللجنة الاقتصادية وأوصت بأن تتسلّم المؤسسة العامة للأعلاف محصول الشمندر هذا العام وأن تدفع ثمنه للمزارعين، على خلفية تراجع زراعة المحصول بمساحات كافية كي تعطي إنتاجًا وفيرًا يسهم في تحريك عجلة دوران معمل سكر “تل سلحب”، ونظرًا إلى قلة وضآلة الإنتاج، ارتأت اللجنة الاقتصادية عدم جدوى تشغيل المعمل وفقًا لحديث مديره العام، المهندس مدين علي، لصحيفة “تشرين” الحكومية.

ونقلت الصحيفة عن مصدر في الهيئة العامة لتطوير الغاب، أن الكميات المنتَجة لم تكن كافية لتشغيل المعمل، وأن العملية ليست اقتصادية، موضحًا أن المزارعين لم تكن لديهم الرغبة منذ البداية في زراعة المحصول لتدني سعر الشراء، وعدم تزويد زارعيه بالمخصصات من الأسمدة أو المحروقات، ما يجعل قيمة التكلفة تفوق بشكل واضح وكبير سعر الشراء وهو 400 ليرة للكيلو الواحد.

العنب ينحسر

تتراجع زراعة العنب في محافظة درعا، بما ينعكس سلبًا على المحصول، ويعود ذلك لأسباب تتعلق بتمدد زراعات جديدة كالرمان والزيتون، ونقص مياه الري بعد جفاف الينابيع وتراجع منسوب الآبار في المحافظة، ما دفع المزارعين إلى زراعات بديلة ذات متطلبات أقل ومردود أفضل.

وبدأ التراجع التدريجي منذ عام 2011، إذ قدّرت مديرية زراعة درعا الإنتاج وقتها بـ62 ألف طن، وكان حينها عدد الأشجار مليونًا و660 ألف شجرة، مزروعة على مساحة 2720 هكتارًا، منها 2405 هكتارات مروية، والباقي بعلية.

وقدّرت مديرية زراعة درعا إنتاج الكرم في موسم 2022 بحدود 11384 طنًا، بينما وصل الإنتاج في 2021 إلى 12800 طن.

وقال رئيس دائرة الإنتاج النباتي في مديرية زراعة درعا، وائل الأحمد، وفق ما نقلته “سانا”، إن عدد أشجار الكرم في المحافظة وصل إلى 356 ألف شجرة على مساحة زراعية تقدّر بـ539 هكتارًا.

زراعة الشوندر السكري في سوريا (سانا)

التهجير يفقد الأرض التنوع الزراعي

خسرت مساحات واسعة من ريف حماة الشمالي حتى جنوبي إدلب تنوعها الزراعي، بعد تهجير الأهالي عقب سيطرة قوات النظام السوري على المنطقة في 2019 إثر تصعيد عسكري شنته مدعومة بالطيران الروسي.

ويعيش عديد من أصحاب تلك الأراضي في المناطق الواقعة خارج سيطرة النظام، ما يتيح للأخير استغلال غيابهم، والاستيلاء عليها، سواء بزراعة محاصيل دون العناية بالتربة أو تنويع بالزراعة، أو بالسيطرة على أشجار الفستق الحلبي المنتشرة بكثرة، بحسب ما قاله بعض مالكي الأراضي لعنب بلدي.

المزارع علي عرموش مهجّر من مدينة سراقب ويقيم شمالي إدلب، أوضح لعنب بلدي أن أراضي أهالي المدينة الممتدة بمساحات شاسعة كانت تُزرع بالقمح والشعير والعدس والكمون والبطاطا، وهي أراضٍ ذات تربة خصبة.

وقال علي، إن 10% من أهالي المنطقة فقط يزرعون الأراضي منذ أن هجّر النظام سكانها إلى شمالي إدلب عام 2019، مع انعدام زراعة محصولي القطن والشمندر السكري اللذين كانا يُزرعان بمساحات واسعة.

من جهته، المزارع عبد المعين المصري مهجّر من سهل الغاب بريف حماة، قال لعنب بلدي، إن أهالي منطقته كانوا يزرعون محاصيل القمح والشعير والشمندر السكري والقطن والخضراوات من خيار وبندورة في حال توفر المياه.

وأوضح المزارع الذي يملك 25 دونمًا، أن وضع الأراضي بعد تهجير الأهالي بات صعبًا، إذ يستثمرها “شبيحة” النظام بمختلف المساحات، سواء الأراضي الحمراء أو المزروعة بالأشجار دون أدنى مقومات العناية.

ولفت عبد المعين المنحدر من قرية قبر فضة إلى أن معظم أراضي سهل الغاب فقدت محاصيل كانت منتشرة بكثرة سابقًا كالقطن والشمندر، وباتت الأراضي تُزرع دون أي تنويع، إذ يعتمد “الشبيحة” على زراعة محاصيل لا تحتاج إلى رعاية أو دعم ولموسم واحد كالقمح، وتُترك بورًا وتصبح حالها كحال المراعي.

بدوره، حسن الحسن يملك 125 دونمًا، ترك أرضه في قرية الهلبة بريف معرة النعمان جنوبي إدلب منذ آب 2019 بعد سيطرة قوات النظام عليها، وكان يزرعها بمختلف المحاصيل من قمح وشعير وعدس وكمون وكزبرة وحبة البركة، لافتًا إلى أن جميعها كانت تحتاج إلى رعاية وعناية.

وقال المزارع لعنب بلدي، إن وضع الأراضي سيئ حاليًا وباتت شبه مهجورة، وفي حال وُجد من يزرعها سواء من الأهالي وعددهم قليل، أو من المقربين للنظام، فهي تُزرع بالمحصول الذي لا يحتاج إلى تعب، كالقمح والشعير.

وأضاف أن كثيرًا من المزروعات لم تعد تُزرع، كالكمون والكزبرة وحبة البركة، لافتًا إلى أن نسبة العائدين من الأهالي لا تتجاوز 2% من السكان، وحتى في حال زرعوا لا يزرعون محاصيل ذات تكلفة عالية، لأنهم لا يأمنون غدر قوات النظام والمقربين منه سواء بسرقة المحصول أو الاستيلاء عليه.

في نيسان الماضي، أظهر تقرير لمؤسسة “Insecurity Insight” (مبادرة إظهار عدم الأمان ومقرها جنيف) مدى تأثر الأمن الغذائي في سوريا بمجموعة واسعة من الأعمال العسكرية التي نفذتها جهات الصراع بين عامي 2017 و2022.

وجاء في تقرير المؤسسة أن الأعمال العسكرية أدت إلى تدهور وتدمير أجزاء كبيرة من الأراضي الزراعية والمحاصيل السورية، وأحصى وقوع ما لا يقل عن 699 حادثة أثرت فيها أعمال العنف على الأراضي والمحاصيل السورية بين عامي 2017 و2022.

وفي صيف عام 2019، كنتيجة هذه الحوادث، أدى انعدام الأمن الناجم عن الصراع إلى دفع عديد من المزارعين في شمال غربي سوريا إلى جني محاصيلهم قبل أن تصل إلى مرحلة النضج، وهو ما أدى بدوره إلى انخفاض الإنتاجية بنسبة 50%، وتسبب في انخفاض الدخل المرتبط بالمزارعين، ما أضر بهم وبأسرهم وأسهم في نقص الغذاء العام وزيادة أسعار المواد الغذائية.

وتعرضت الأراضي الزراعية لقصف جوي أو مدفعي أو صاروخي ما لا يقل عن 240 مرة بين عامي 2017 و2022، وسُجلت نحو 75% من هذه الحوادث في محافظات إدلب وحماة وريف حلب الشمالي الغربي، وتسبب ثلثها في إشعال النيران بالمحاصيل الزراعية، وفق التقرير.

تدهور زراعي وتهديد للأمن الغذائي

الباحث في الاقتصاد السياسي الدكتور يحيى السيد عمر، قال لعنب بلدي، إن القطاع الزراعي في سوريا شهد تدهورًا حادًا ازدادت وتيرته خلال السنوات القليلة الماضية لعدة أسباب، أهمها عدم توفر متطلبات الزراعة، فحوامل الطاقة اللازمة للري نادرة، وشح الأمطار في بعض المواسم عزز من تدهور الزراعة.

وأضاف السيد عمر أن من الأسباب ارتفاع تكاليف الإنتاج المتمثلة بالأدوية الزراعية والبذور، التي تضاعف سعرها عشرات المرات، مقابل ارتفاع سعر المنتجات الزراعية بنسب قليلة، ما أثر سلبًا على المردودية الاقتصادية بالنسبة للمزارع، لذلك عزف عديد من المزارعين عن العمل الزراعي واتجهوا إلى مهن أخرى، كما أن غياب الدعم الحكومي أثر سلبًا على الانتشار الأفقي والعمودي للزراعة.

وعن آثار انحسار الزراعات الاستراتيجية في سوريا، قال السيد عمر إنها ذات أثر سلبي حاد، فالزراعة تعد من أهم الأنشطة الاقتصادية في البلاد، وكانت تسهم بأكثر من 25% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة، وتستوعب 35% من العاملين.

وأضاف أن تراجع الزراعة يؤثر على المؤشرات الاقتصادية الكلية والجزئية، وأسهم ذلك في ارتفاع نسبة الفقر والبطالة وتدني مستوى الدخل، والأهم ارتفاع التهديد بالمجاعة وانعدام الأمن الغذائي.

ووفقًا لبرنامج الغذاء العالمي، بلغ عدد السوريين غير الآمنين غذائيًا 12.1 مليون شخص عام 2022، بزيادة نسبتها 51% مقارنة بعام 2019، وهو ما يعد مؤشرًا بالغ الخطورة على المجتمع السوري، وفق السيد عمر.

واعتبر الباحث في الاقتصاد السياسي أن الوضع بسبب تراجع الزراعة في مناطق سيطرة النظام أكثر حدة نتيجة أزمات المحروقات المتكررة وغياب الكهرباء وتراجع الدعم الحكومي وحتى غيابه، وهذا ما ترك آثارًا اقتصادية واجتماعية وإنسانية، وأثر على الواقع الاقتصادي لحكومة النظام.

ولفت السيد عمر إلى أن تراجع الإنتاج الزراعي أدى إلى تغطية العجز في الإنتاج من خلال الاستيراد، كاستيراد القمح، وهو ما شكّل ضغطًا إضافيًا على خزينة حكومة النظام، وضغطًا على قيمة الليرة كون الاستيراد يعد من قنوات استهلاك وإنفاق العملات الأجنبية والدولار بشكل خاص، وهو ما عزز من الضغوط الاقتصادية التي تواجه حكومة النظام.

في آذار الماضي، قال برنامج الأغذية العالمي (WFP) التابع للأمم المتحدة، إن متوسط الأجر الشهري في سوريا يغطي حاليًا نحو ربع الاحتياجات الغذائية للأسرة فقط، وإن حوالي 12.1 مليون شخص في سوريا، أي أكثر من نصف عدد السكان، يعانون انعدام الأمن الغذائي.

وجاء في بيان للبرنامج الأممي، أن سوريا من بين البلدان الستة التي تعاني أعلى معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم، وهناك 2.9 مليون شخص آخرين تحت تهديد خطر انعدام الأمن الغذائي.

وعزا البيان هذا التدهور في الأمن الغذائي إلى عدة أسباب، منها اعتماد البلاد الشديد على الواردات الغذائية، وآثار الصراع الطويل، بالإضافة إلى الدمار الذي خلّفه الزلزال في سوريا وتركيا مؤخرًا، حيث فاقم الاحتياجات الإنسانية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة