من أجل إعادة تسييس الحراكات المدنية

tag icon ع ع ع

لمى قنوت

تحت شعار “إذا لم ننخرط في هذا المسار أو ذاك فسيجلبون غيرنا”، برر عديد من الفاعلين والفاعلات في حراكات المقاومة ضد الأنظمة القمعية، كالأنظمة “النيوليبرالية” والاستعمارية والشمولية الأبوية، انخراطهم في مسارات وتسويات أخصَت السياسة والفعل الثوري من مواقفهم.

يرسخ الإعلام والمؤسسات الممتثلة لـ”النيوليبرالية” تسخيف مقاومة الأفراد المنظمة وغير المنظمة وخياراتهم، بحجة عدم جدواها أمام طوفان طرائق الهيمنة والإخضاع، بعكس مقاصدها حين تمجد الفردانية وقصص النجاح بعد عزلها عن مسارها التاريخي والسياسي والثقافي والاقتصادي، وتخترق مجتمعاتنا أيضًا مقولات شعبية تحض على الرضوخ وعدم تحدي هياكل القوة، مثل “العين لا تقاوم المخرز”.

وعلى مقلب آخر، اجتاحت “الأنجزة” (NGOisation) تنظيمات من المجتمع المدني، فأسهمت مع عوامل أخرى في إنهاء الحركات الاجتماعية الهادفة إلى التغيير الاجتماعي والسياسي والبيئي، ومهننت الناشطية، ونزعت الطابع السياسي عن عملها، وصدَّرَ المانحون “نخبًا” استولت على صدارة المشهد المدني– السياسي، وأسست لانحيازات في هياكل السلطة لمصلحتها، وتحولت إلى حراس بوابات (Gatekeepers) التمويل والمشاركة والتمثيل، وتنافست فيما بينها على تمثيل المجتمع المدني، بعد أن اختزلته بشخوصها ومنظماتها، وغدت المشاركة المجدية والمهمة بالنسبة لـ”النخب” الجديدة هي بقدر وجود البعثات الدبلوماسية والأممية في القاعات، وعليه، يسود غياب نقد المنظومة (System) وأجندات المانحين وغلبة اللغة البيضاء المقبولة في تلك الأوساط.

في سوريا مثلًا، انعدام الشفافية والتكتم النسبي [1] على أعمال ممثلي وممثلات منظمات المجتمع المدني في المنصات التي أنشأها مكتب المبعوث الأممي الخاص، كاللجنة الدستورية وغرفة المجتمع المدني، والتكتم التام على أعمال المجلس الاستشاري للمرأة، أدى إلى اتساع الفجوة بينهم وبين أصحاب المصلحة والقاعدة الجماهيرية، وأصبح السؤال مشروعًا عن شرعيتهم ومن يمثلون في هذه المنصات التي يُفترض أنها أُنشئت لمصلحة السوريين والسوريات وبناء سوريا الجديدة. كما أن التكتم وغياب الشفافية يضرب الأسس والأهداف الذي نظّر لها مهندسو مسارات التفاوض في بناء السلام، المتمثلة في دور دبلوماسية المسار الثاني، والتي تضم أفرادًا فاعلين من المجتمع المدني في نقل رؤى واحتياجات ما يدعى بـ”المسار الثالث”، الذي يضم جمهور المواطنين والمواطنات (القاعدة الشعبية، قاعدة المسارات) إلى دبلوماسية المسار الأول المعني بالتفاوض من أجل اتفاقية رسمية، ونقل أيضًا ما يدور في المسار الأول للمسار الثالث، وبالطبع لا يتناقض الأمر بشأن المشاركين والمشاركات من منظمات المجتمع المدني في اللجنة الدستورية، بل على العكس، يزيد من مسؤوليتهم أمام عموم السوريين.

لا يجب النظر إلى المنظمات غير الحكومية على أنها متجانسة، على الرغم من أنها قامت كهياكل تعويض عن أدوار الدولة المنسحبة من مسؤولياتها، فهناك منظمات ذات طابع ليبرالي وأخرى ذات طابع اشتراكي أو يميني محافظ، مثل المنظمات غير الحكومية الخيرية، التي تؤسسها أحزاب الإسلام السياسي للترويج لأجندات ومرشحي الحزب عبر تقديم خدمات وتبرعات.

ومن ناحية أخرى، ينتقل التوجه “النيوليبرالي” من المانحين إلى المنظمات المحلية عبر الخطاب وجدول الأعمال، وتسهم أجندات المانحين أيضًا في دعم منظمات المغتربين بدل دعم الهياكل البديلة الموجودة على الأرض، فمثلًا في المناطق التي خرجت على سيطرة النظام السوري، اختار المانحون الغربيون تمويل المنظمات غير الحكومية بدلًا من مؤسسات الأمر الواقع المنشَأة حديثًا، مثل المجالس المحلية، وأقاموا هيكلًا موازيًا للمساعدات، يتنافس مع المجالس الثورية ويقوّضها [2]، بالإضافة إلى أنه تم النظر إلى “الإدارة عن بعد” كأداة لإضعاف القوة من خلال انتزاع سلطة اتخاذ القرار من أولئك الموجودين على الأرض وتسليمها إلى المغتربين، حتى عندما موّلت دول ومنظمات الشمال العالمي بعض المجالس المحلية، تجاهلت تمامًا تلك الجهات الممولة تغيب وانحسار مشاركة السوريات في المجالس، وركزت فقط على وجود النساء على طاولة المفاوضات، وبالتالي خسرنا المشاركة السياسية لقائدات محليات قادرات على إحداث تغيير جذري من القاعدة. [3]

إن إعادة تسييس الحراكات التي خسرت حمولتها التغييرية واستقلالها وسلعنت القضايا والقيم وأغرقت نفسها برسائل التودد لهياكل القوة، عليها التمعن بشراكاتها وتحالفاتها وأهدافها. لكن اختزال المجتمع المدني بالمنظمات غير الحكومية يدل على نظرة كسولة لا ترى ولا تراهن إلا على ما تعترف به المؤسسات الدولية، وهي نظرة أثقلها التعب ومرارة الهزيمة فراهنت على ضجيج منظم، مدجن، اختار خطابًا منزوع الإشكالية لواقع معقد ومرير، استشرست عليه أنظمة القمع، بينما يدعونا الغضب إلى دعم حراكات المقاومة القاعدية المسيسة التي وإن بدت صغيرة متناثرة وحراكها غير منتظم لكنها تدعو للأمل.


[1] –  آخر تقارير منشورة على موقع غرفة دعم المجتمع المدني مؤرخة بـ 20- 29 من حزيران 2021، للاطلاع: https://tinyurl.com/3pzea4ue
وهناك إشارة على اجتماعات في جنيف لمجموعات العمل المواضيعية مع المبعوث الأممي في إحاطته لمجلس الأمن بتاريخ 30 من أيار 2013، فقرة رقم 14. للاطلاع: https://tinyurl.com/4rk36hj6

[2] – Mazin Albalkhi, “Syria between Revolution and Ngoisation A Case Study”, Malomö University, 2022, Page 15, https://tinyurl.com/4j3fx8hs

[3] – لمى قنوت، “المشاركة السياسية للمرأة السورية بين المتن والهامش”، اللوبي النسوي السوري، منصة سياسية نسوية، 2017، ص 48، https://tinyurl.com/5n7kvnwu




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة