بريغوجين العربي

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

كان من الممكن أن يكون العيد عيدين كما قال الصحفي محمد منصور في تغريدة له، بمناسبة التمرد الذي قاده بريغوجين في روسيا، ولكن عيد الأضحى غمرنا ببهجته، أما عيد انهيار سلطة بوتين في روسيا فما زال مؤجلًا.

قبل العيد، في 24 من حزيران الماضي، أعلن قائد قوات “فاغنر”، يفغيني بريغوجين، انسحاب قواته من الجبهة الأوكرانية واحتلال مدينتين روسيتين، استقبله فيهما الناس بالأحضان، كتعبير عن استيائهم من سلسلة الحرب التي يخوضها نظام بوتين ويورط بها الشعب الروسي. وبعدها بدأ زحف قواته باتجاه العاصمة الروسية موسكو على طريقة الانقلابيين العرب، الذين يفضّلون تلاوة البيان رقم واحد من العاصمة، ولم تلقَ قواته أي مقاومة من قبل الجيش الروسي، حتى إنها قطعت حوالي 700 كيلومتر بخسائر قليلة، وسط حيرة نظام الحكم البوتيني ورفض بعض القوات النظامية القوات الزاحفة إلى العاصمة، وأعلنت السلطات في مدينة موسكو إغلاق الطرقات المؤدية إلى العاصمة، وألغت الدوام في مطلع الأسبوع التالي، وقطعت الإنترنت، وأعلن الرئيس الروسي حالة الطوارئ.

مثل هذه الحالة شهدتها دمشق في العام 1984، عندما قاد رفعت الأسد محاولة انقلاب على أخيه حافظ، وطوّق مدينة دمشق بقوات تشبه قوات “فاغنر”، هي قوات “سرايا الدفاع”، التي كانت تطلق على رفعت لقب “الرّب”. وشهدت دمشق هذه الحالة في العام 1970 عند انقلاب حافظ الأسد على رفقائه في حزب “البعث”، وكذلك في العام 1966 أيام أمين الحافظ وصلاح جديد، وفي 1963 بانقلاب “البعث”، وكذلك بتمرد جاسم علوان، وغيره كثير من الحركات العسكرية التي مزّقت سوريا وحوّلتها إلى جثة تتقاسمها اليوم مافيات الأسد والدول المحيطة والبعيدة.

وفي العالم العربي، نجد تمردًا شبه مطابق لتمرد بريغوجين في السودان، الذي تقوم به ميليشيات “قوات الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو، الملقب بـ”حميدتي”، القوات التي تمزق السودان وتحوّله إلى ساحة معركة بين جنرالات مستقتلين على السلطة، وهم مصممون على إلحاق السودان بمصير الصومال، حيث صارع الجنرال محمد فرح عيديد نظام محمد سياد باري 1991. الصومال لم يتعافَ من الفوضى حتى اليوم، بعد مرور عقود طويلة حوّلته إلى ملجأ للإرهاب والعنف.

وفي ليبيا، نجد الجنرال خليفة حفتر قد لعب نفس الدور، وأدخل بقواته ليبيا في دوامة من العنف والإرهاب، وكانت قوات “فاغنر” التي يتزعمها بريغوجين من أكبر الداعمين له، حيث كانت توزّع على الأطفال الليبيين هدايا ملغومة تنفجر بهم وبذويهم من أجل نشر الذعر، وفتح طريق حفتر إلى العاصمة الليبية طرابلس الغرب.

لا نستطيع أن نحصي عدد الذين يشبهون بريغوجين في العالم العربي ولا أن نحيط بجرائمهم، فهم تعبير عن نمو مشوه لأنظمة الحكم العسكرية التي تفرّخ مثل هؤلاء العسكر، الذين يضعون السلطة هدفهم الأسمى وعلى حساب مواطنيهم وكرامتهم، وعلى حساب استقلال بلادهم الذي يضحون به من أجل الاستيلاء على مزيد من السلطات.

قوات “فاغنر” التي يقودها بريغوجين تنتشر في أوكرانيا، وفي إفريقيا، وهي تهيمن على كثير من المواقع السورية في حقول الغاز والبترول، وقد منحها نظام الأسد ربع إنتاج تلك الحقول، مقابل حماية سيطرة النظام عليها، وقامت بأفعال إرهاب، منها تعذيب السوريين بشكل ممنهج وتصوير بعض تلك العمليات ونشرها وسط احتفاء كبير من أتباع الأسد وحلفائه.

فشل تمرد بريغوجين بعد يومين، مقابل تسوية قام بها رئيس دولة صغيرة هي روسيا البيضاء، لإنقاذ نظام بوتين من التفكك، وتمت تبرئته من الخيانة رغم أنه أسقط ثلاث طائرات للجيش الروسي، وهدد وزير الدفاع ورئيس الأركان قبلها بأشهر بجمل نابية، عندما كان بوتين يظن أنه يلعب بخيوط السلطة وصراعاتها الداخلية بين يديه مثل ساحر ماهر.

تزعزعت سمعة بوتين رغم انتهاء الانقلاب، وصارت صورة الحاكم الذي يحلم أن يكون مثل بطرس الأكبر مثار تعليقات وسخرية تبيّن أن الحكم العسكري والمخابراتي يظل أجوف مهما كان مظهره قويًا أو متناسقًا.

وذلك ما حصل بعد فصل تمرد رفعت الأسد وقوات “سرايا الدفاع”، إذ بدا حافظ الأسد أقل قوة وظهر على المسرح عدد من القادة الذين حاولوا أن يقاسموه السلطة من خلف الستار، أمثال علي حيدر وشفيق فياض وعلي دوبا، وهم من رفضوا توريث الحكم لبشار بشكل شبه علني أودى بمناصبهم بعد سنوات عندما استعاد حافظ الأسد جزءًا من قوته.

بريغوجين رئيس ميليشيات “فاغنر”، الذي كان سجينًا جنائيًا أيام الاتحاد السوفييتي، وصار بعدها صديق بوتين وطبّاخه، تسلّمت قواته الأعمال القذرة بدلًا من الجيش الروسي، حيث تتبرأ روسيا الرسمية دائمًا من أفعال قواته، رغم أنها تمدها بالسلاح والدعم كما كان يفعل حافظ الأسد عندما استخدم رفعت الأسد في تصفية جماعة أمين الحافظ وصلاح جديد، وفي اقتحام حماة وإعدام المعتقلين في تدمر.

اليوم في سوريا يقوم زعيم “فاغنر” السورية ماهر الأسد بالأعمال التي يتجنب أخوه بشار الاعتراف بها، حيث تنتشر آلة النهب والتعذيب والتهريب وصناعة المخدرات على أيدي قوات “الفرقة الرابعة”، لتكون عائلة الأسد أكبر الرابحين من اقتصاد الحرب والمخدرات التي تأكل سوريا وتهدد مستقبل أجيالها لعقود طويلة مقبلة.

ورغم كثرة الجنرالات وقادة الميليشيات العرب الذين يشبهون بريغوجين، فإن بريغوجين السوري الذي يمثّله ماهر الأسد اليوم أكثر قوة وأكثر نفوذًا ووحشية، ومن المستحيل اقتلاعه ما لم يتم التخلص من نظام الأسد الذي يحرم السوريين من حريتهم ومن مستقبلهم، ويجعل العيد يمرّ عليهم وهم في عوز وغربة وخوف.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة