“الفيتشر”.. البشر يتحكمون بالمحتوى

tag icon ع ع ع

علي عيد

لم ينتهِ عصر الكلمة بشكلها المطبوع، كما اعتادت العين أن ترى أحرفها لعقود أو لمئات السنين، لكن الدنيا تغيرت، وبما أن البشر هم هدفنا، فقد أصبحت خياراتنا أصعب مع منافسين كثر للصحافة، وربما يعترض البعض على مصطلح الصحافة عندما نتحدث عن المحتوى التفاعلي، ويفضّلون استخدام “الميديا” أو الإعلام مكانها، ولكل أسبابه ومعناه.

لا تكمن الصعوبة في الأدوات، بل في فهم ما يريده الجمهور، حتى وإن اعتبر بعضهم هذا المنحى عيبًا على الصحافة، على اعتبار أننا نستنكر قاعدة “الجمهور عاوز كده”، لكن الحقيقة هي أننا في النهاية نريد إرضاء الجمهور وأن نوصل رسالتنا.

سُقت هذه المقدمة لأتحدث عن “الفيتشر ستوري” (Featured story)، أو القصة المميزة.

محور “الفيتشر” هو الإنسان، وميله إلى جانب الترفيه أو الإمتاع في الصحافة، كما في بقية تفاصيل الحياة، وهذا يفسر طبيعة الصراع بين وسائل التواصل الاجتماعي (Social media) ووسائل الإعلام التقليدية.

كان مركز صناعة السياسات أو القرار في كثير من وسائل الإعلام الرصينة يرى أن استخدام “تيك توك” أو “إنستجرام” عيبًا وتقليلًا من هيبة المحتوى، لكن ميل البشر إلى التبسيط والأنسنة جعلهم يتخلون عن متابعة الإعلام، باستثناءات.

ثم صارت وسائل التواصل وسيلة رؤساء الدول لجذب الناخبين من الجيل الجديد أو للتقرب منهم، وتقصير وسائل الإعلام في ابتكارات “الفيتشر”، وتطوير أدوات تفاعلية تمنع منصات التواصل من سحب البساط من تحتها، وتهيّب بعض غرف التحرير من اتخاذ قرار الذهاب إلى منصات التواصل، دفع الجمهور باتجاه آخر، مع ملاحظة أن بعض إدارات القرار الإعلامي لم تصل بعد إلى قناعة بأن تلك المنصات في النهاية هي مجرد وسائل نقل محتوى أسيء استخدامها، أو تمكن أشخاص من استثمارها ومنافسة الإعلام فيها.

يعتبر “الفيتشر” شكلًا من عصرنة المحتوى، وهو في تقنياته لا يختلف عما يستخدمه المؤثرون لجذب رواد وسائل التواصل، وهو مستنبط من فلسفة أنسنة المحتوى، فكل شخص يريد أن يرى عناصر القصة الصحفية على شكل بشر أو صور ترتبط بحياته، لا مجرد كلمات مكتوبة على الورق أو في قالب إلكتروني، أو خبر بصوت مذيع ترافقه الصور.

غالبًا، ورغم القواعد الصارمة في الكتابة، يميل الصحفيون إلى صياغة قصصهم كما يفكرون لا كما يفسر عقل القارئ، ويميلون لاستخدام ما لديهم من مخزون لغة ومفردات تناسب فهمهم للقصة، لذلك باتت المنصات الاجتماعية مكانًا مناسبًا لمواكبة الحدث كما هو، سواء كان احتفالًا أو كارثة زلزال أو مشكلات اجتماعية.

فتحت التكنولوجيا الحديثة والذكاء الصناعي خيارات واسعة أمام الصحفي، ويمكن لـ”الفيتشر” أو ما يسمى “القصة المميزة” أن يكون الاستثمار الأفضل في هذه التقنيات، وهو نموذج قابل للنشر على الهاتف الذكي والأجهزة اللوحية، كما المواقع الإلكترونية والتلفزيون، وقد تكون له أشكاله في “البودكاست” والراديو، وحتى بالصحافة الورقية إن لزم الأمر.

برع صحفيون في وسائل إعلام غربية باستخدام “الفيتشر” لسرد القصص و”البروفايل”، وجرى استخدام مفهوم الوسائط المتعددة في تقديم محتوى جاذب يحتوي على صور وفيديوهات وأصوات بشر، وهو نوع يتطلب موهبة وقدرة على الابتكار لدى الصحفي، وغالبًا ما يتم استخلاص معظم القصص من موضوعات مطولة منشورة في وسائل الإعلام ذاتها.

في قصتها التفاعلية “الالتقاط” (The Catch)، تقدم “BBC” نموذجًا لـ”الفيتشر” أو “القصة المميزة”، عبر صور وفيديوهات وخرائط وشهادات ونصوص مقطعة مكتوبة بحرفية عالية، كل هذا كان في قالب طويل لكنه شائق، لمن يرغب بالتعرف إلى قصة حشد مذعور، ومجموعة قررت فتح أذرعها لالتقاط طفل (عشر سنوات) بعد أن رمى بنفسه من ارتفاع شاهق في شقة تلتهمها النار، بمنطقة غرونوبل جنوب شرقي فرنسا.

كاتبة القصة مريم لحواري ومحررتها سارة باكلي، والفريق التقني وملتقطو الصور، لم يتدخلوا جميعًا في التفاصيل، لم يدفعوا أحدًا لقول ما قاله في القصة، بل اكتفوا برواية ما لا يشاهد، وترك البشر يتعرفون إلى الناس من أبطال القصة، وما فعله الفريق الصحفي هو الاستثمار في الابتكار والأدوات الرقمية الحديثة.

قصة “The Catch” نموذج للصحافة الحديثة، و”القصة المميزة”، ولكنها ليست الوحيدة، ولن تكون النموذج الأخير، فربما يخرج علينا فريق آخر بعد قليل مستخدمًا أدوات أخرى وأفكارًا ملهمة لم يسبقه إليها أحد، وهذا ما نقصده بأن الصحافة التقليدية عاجزة عن المنافسة، وهو ما يبرر ابتعاد الجمهور عنها.. وللحديث بقية.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة