تركيا وعصر العولمة

tag icon ع ع ع

إبراهيم العلوش

تغيرت السياسة التركية خلال الـ20 عامًا الأخيرة، وصارت أكثر انفتاحًا على العالم العربي وعلى محيطها، وخرجت من عزلتها ولم تعد مجرد مستودع لأسلحة حلف “الناتو”، كما لم تعد أيضًا مجرد خزان بشري يزوّد أوروبا بالأيدي العاملة.

يأتي استقبال اللاجئين السوريين ضمن هذا السياق، الذي جعل تركيا معنية بمحيطها ولها صوت مؤثر، إذ لم ترضَ أن تظل سوريا رهينة إيرانية- روسية تهدد أمنها، وشكّل اللاجئون السوريون فرصة لتعرف الأتراك إلى الثقافة العربية وإلى التطورات التي تعصف بالعالم العربي الذي لا يزال متخلفًا عن تركيا التي بنت دولتها الوطنية، في حين أن الدول العربية ظلت مجرد كيانات محكومة من قبل مافيات عسكرية أو دينية أو مزيج مختلط، ولكن يغلب عليها العيش خارج الزمن، وبعضها لا يزال عند حدود انهيار الدولة العثمانية، ولا يزال يناقش الخلافة ويكرّس عبادة الحاكم.

بعد سياسات الانفتاح على الجوار التي قادها حزب “العدالة والتنمية”، صار الرأي العام الأوروبي والعالمي يهتم برأي تركيا وبطموحاتها السياسية، خاصة أنها استقبلت ملايين اللاجئين السوريين، وعملت على تنظيم انتقالهم إلى أوروبا وفق برنامج مساعدات سخي دعم الاقتصاد التركي، وشجع الدولة التركية على مزيد من الانفتاح بعد عقود طويلة من التقوقع والغربة عن المجال الإقليمي.

شكّل اللاجئون السوريون إضافة بشرية وعبئًا على الخدمات العامة، ولكنهم بالمقابل أحيوا المدن المهملة، ولعل تحول شانلي أورفا، مثلًا، إلى عاصمة للتقارب العربي- التركي، وإلى مدينة تتسم بالتنوع والنشاط، من أهم إنجازات اللاجئين السوريين الذين استثمروا أموالهم وأسهموا بالأيدي العاملة الفنية وبأفكارهم في شتى الأنحاء التركية.

صار وجود السوريين في تركيا رابطًا مهمًا بين تركيا والدول الخليجية التي تضخ الأموال والسياح وتنعش الاقتصاد التركي، ونمت هذه الروابط التي يقويها السوريون بسبب اللغة العربية وبسبب معرفتهم بالثقافتين التركية والعربية، وصار السائح الخليجي يعتمد في تنقلاته وفي طعامه على اللاجئ السوري الذي يمهد له إقامة واضحة ومريحة، ما يجعله يعود إلى تركيا في السنة الواحدة أكثر من مرة، بالإضافة إلى زيارات السوريين المقيمين في الخليج، وزيارات اللاجئين السوريين الذين استقروا في أوروبا وعددهم أكثر من مليون لاجئ ومجنس، وصارت تركيا وجهتهم السياحية الأولى بسبب وجود ذويهم وبسبب التقارب الثقافي.

بالإضافة إلى ذلك، فإن تركيا صارت مصدر المواد الغذائية السورية والعربية التي تصنّع من أجل اللاجئين السوريين في شتى أنحاء أوروبا، وهي تدرّ ملايين الدولارات شهريًا على الاقتصاد التركي، وتعيد توصيف اللاجئين السوريين في تركيا كمنتجين، وكمستثمرين، وكأيدٍ عاملة ماهرة للتصنيع المخصص للتصدير سواء إلى أوروبا أو إلى الدول الخليجية التي تعتبر هدفًا مهمًا للاقتصاد التركي.

منذ صدور كتاب أحمد داود أوغلو “العمق الاستراتيجي” وهندسته للسياسة الخارجية التركية التي كان شعارها “صفر مشكلات مع الجوار”، تحولت السياسة التركية نحو الإيجابية الإقليمية، وصارت السفارات التركية تعج بالفعاليات الاقتصادية والثقافية والبشرية، ولم تعد تركيا هدفًا للأفكار المسبقة عن الدولة العثمانية وعن المشكلات الداخلية، وعن الولاء المطلق للدول الأوروبية، وبرهن استقبال اللاجئين السوريين على دخول تركيا إلى عصر مفتوح، وصارت مختلف اللغات يمكن سماعها في تركيا بعد أن كان الأتراك عازفين عن تعلم اللغات الاجنبية.

على الرغم من أن اللجوء صار ظاهرة عالمية موجودة في معظم دول العالم، فإن الحملات الأخيرة على اللاجئين السوريين، وخاصة التي تزامنت مع الانتخابات الأخيرة، ضخت نفَسًا عنصريًا يستهدفهم ويتجاهل إنسانيتهم عدا عن تجاهله أهمية وجود هؤلاء اللاجئين في الاقتصاد، وفي العلاقات مع العالم العربي، وقد نددت منظمات حقوق الإنسان بتوجهات بعض العنصريين، واعتبرتها تلطخ اسم تركيا الذي لا يزال موضع احترام في العالم العربي من كل النواحي.

وعلى الرغم من حدوث عمليات ترحيل قسرية ومتسرعة، فإن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أعلن عن صعوبات تواجه الترحيل السريع للاجئين السوريين، وهذه إشارة إلى تخفيف الضغط عليهم الذي ارتفع منسوبه مع الحملة الانتخابية. وخاطب رجل دين تركي في إحدى وسائل التواصل الاجتماعي رئيس حزب “الظفر” الذي شن حملة على اللغة العربية، وعلى اللاجئين السوريين، مذكّرًا إياه بأن اسم حزبه هو اسم عربي. وقد قام حزب “الشعب الجمهوري” المعارض الذي يتزعمه كليجدار أوغلو بخطوة غير مسبوقة بفصل رئيس بلدية بولو من صفوفه، بسبب تحريضه العنصري ضد اللاجئين السوريين.

حاولنا هذا الصيف التقدم إلى السفارة التركية في فرنسا والحصول على “فيزا” للدخول إلى تركيا للمرة الأولى، تفاجأنا بالشروط والمقابلات وكأننا نتقدم لنيل الجنسية التركية وليس لزيارة أحبتنا في تركيا من أهل أو أصدقاء أتراك أحسنوا استقبالنا في تركيا ولا نزال نتبادل معهم الرسائل والأخبار والمحبة.

تشديد الإجراءات على السوريين بعد الانتخابات الأخيرة يجعلنا نخسر تركيا التي أحببناها وأحببنا أهلها وثقافتها، ولن تكون تركيا رابحة من تشديد الإجراءات بحق السوريين، فهم يشكّلون رابطة مهمة لتركيا مع سوريا المستقبل، ومع العالم العربي، ومن العبث خسارتهم وتهجير مصانعهم ومهاراتهم إلى دول أخرى.

ألغينا حجز الطيران إلى تركيا، واعتذرنا إلى أهلنا المقيمين هناك، وإلى أصدقائنا الأتراك، وانشغلنا بحزن في البحث عن وجهة سياحية تستقبلنا بلا تشكيك، وبلا طيف من العنصرية قد نتعرض له ونحن نمشي في الشارع لمجرد أننا نتكلم اللغة العربية.

نتمنى أن نتمكن من زيارة تركيا قريبًا، ولكن أنصار المعارضة المتطرفة يرفضون تقبل التنوع في عصر العولمة، ويصبّون جام غضبهم على اللاجئين السوريين، بمناسبة وبغير مناسبة، معتبرين انغلاق تركيا يوفر لها ملاذًا آمنًا من العالم الذي يتدفق من نوافذ “ويندوز”، ومن محركات بحث “جوجل”، ومن مختلف تدفقات وسائل التكنولوجيا والحضارة الحديثة.




مقالات متعلقة


×

الإعلام الموجّه يشوه الحقيقة في بلادنا ويطيل أمد الحرب..

سوريا بحاجة للصحافة الحرة.. ونحن بحاجتك لنبقى مستقلين

ادعم عنب بلدي

دولار واحد شهريًا يصنع الفرق

اضغط هنا للمساهمة